عندما اختير بنيامين نتانياهو لرئاسة الحكومة الاسرائيلية مرة ثانية، لمّحت الصحف الى احتمال تجدد المواجهة مع خالد مشعل بعد مرور 12 سنة على محاولة اغتياله في عمان (25 ايلول – سبتمبر 1997). والمعروف ان جهاز «الموساد» لم ينجح يومها في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»... ولكنه نجح في قتل القائد العسكري للحركة محمود المبحوح اثناء وجوده في دبي مطلع هذا الشهر. والاغتيال او «التصفية الجسدية»، بحسب العقيدة الامنية الاسرائيلية، يبقى جزءاً من مهمة وكالات الاستخبارات مثل «الموساد» و «الشاباك» و «امان». وقد انيطت بها هذه المسؤولية عقب انشاء دولة اسرائيل وإعلان تأسيس جيش موحد من كتائب فرق العصابات الصهيونية كالهاغانا والارغون وشتيرن. وتقضي عملية الاغتيال بضرورة ابلاغ رؤساء الوكالات بعد صدور القرار السياسي خوفاً من تضارب الصلاحيات اثناء التنفيذ. وكان القرار السياسي يصدر عادة عن لجنة وزراء ثلاثية سميت عام 1972 «لجنة اكس». وفي عام 1977 ألغى مناحيم بيغن هذه اللجنة واستبدلها بالمجلس الوزاري المصغر الذي ينسق اعماله مع رؤساء الوكالات الامنية. وهذا ما فعله اسحق شامير اثناء بحث الخطة التنفيذية لاغتيال الامين العام السابق ل «حزب الله» عباس موسوي. بل هذا ما كرره رؤساء الوزراء الذين صادقوا على تنفيذ عملية «ربيع الصبا» التي قتل فيها بعض قادة «فتح» وفي طليعتهم «ابو جهاد». اللافت ان قرار اغتيال خالد مشعل عام 1997 لم يستند الى قرينة واحدة تثبث ضلوعه بالتفجيرات الانتحارية. ولكن رئيس «الموساد» في حينه داني ياتوم اختاره كهدف سهل يمكن بواسطة اغتياله ردع العناصر المتحمسة. ولكن فشل تلك العملية كاد يطيح رئيس الوزراء نتانياهو مثلما اطاح داني ياتوم، لو لم تتدارك اسرائيل الازمة مع الملك حسين وتطلق سراح الشيخ احمد ياسين، المرشد الروحي ل «حماس». ويستدل من المعلومات التي صدرت عن بعض من كتبوا سيرة العاهل الاردني الراحل، ان الغاية الحقيقية من وراء اغتيال خالد مشعل لم تكن ردع الانتحاريين، كما زعم نتانياهو، بل نسف مشروع الهدنة مع «حماس». ولقد كشف البروفسور افي شلايم عبر صحيفة معاريف (13-12-2009) عن هذا الجانب عندما كتب يقول ان عملية الاغتيال استهدفت اقتراح الملك حسين المتعلق بهدنة طويلة وافقت عليها «حماس». وبما ان نتانياهو كان يرفض اي مشروع يدخل «حماس» في خانة الشريك الفلسطيني المفاوض، لذلك امر «الموساد» باغتيال خالد مشعل، تماماً مثلما امر «الموساد» هذه المرة باغتيال القائد العسكري في حركة «حماس» محمود المبحوح بحجة انه يؤمّن تهريب صواريخ ايرانية الى قطاع غزة. اما الهدف السياسي الخفي، كما تقول مصادر الجامعة العربية، فهو العمل على نسف مشروع المصالحة بين «حماس» و «فتح»، الامر الذي جعلته مصر مدخلاً لتسوية مسألة الانفاق على حدودها مع غزة. والنتيجة ان خالد مشعل هدد برد انتقامي مزلزل من المتوقع ان يستخدمه نتانياهو لرفض كل المحاولات التي يجريها جورج ميتشل لإحياء محادثات السلام. يبقى السؤال المتعلق بتوقيت العملية واختيار مكانها. اعترف رئيس مجلس الامن القومي الاسرائيلي عوزي اراد، بأن ملاحقة المبحوح بدأت منذ اتهامه بخطف جنديين وقتلهما عام 1989. وقد اضيفت الى سجله الخطر سلسلة عمليات قام بها خلال العشرين سنة الماضية. اهمها تهريب صورايخ ايرانية الصنع الى غزة يصل مداها الى 60 كيلومتراً. اي ان «حماس» قادرة على استخدامها لضرب تل ابيب. وجاء في ملف المبحوح لدى جهاز «الموساد» انه، بعد اغتيال الشيخ احمد ياسين، ضاعف نشاطه للحصول على المساعدات المالية والقتالية من طهران. وكان يعمل من دمشق ويتنقل باستمرار بين دول الخليج وايران لتنظيم عمليات ارسال المقاتلين وتدريبهم. وفي ملفه ايضاً انه المسؤول عن قافلة تهريب اسلحة قصفتها اسرائيل وهي في طريقها الى سيناء المصرية. اما وجوده في دبي فكان لإعداد خطة جديدة تضمن وصول الاسلحة الى غزة ضمن مسارات مختلفة. كتب المعلق العسكري الاسرائيلي يواف ليمور حول هذه الحادثة يقول انها لم تنفذ من اجل الثأر للجنديين، كما تتصور «حماس»، ولكنها نفذت من اجل تحقيق هدفين: اظهار قوة الاستخبارات وذراعها الطويلة من جهة، وإفشال عمليات اخرى كان المبحوح يخطط لها، من جهة ثانية. ومعنى هذا ان «حماس» مضطرة الى مراجعة حساباتها ووقف نشاطاتها في هذا الميدان الى حين ايجاد بديل آخر يحل محله. وتقول مصادر فلسطينية مطلعة ان محمود المبحوح تعرض قبل ستة اشهر لمحاولة تسميم نجا منها بفضل عناية الاطباء. كما تعرض لمحاولة خطف اثناء وجوده في دولة عربية. وهذا كان يقتضي منه اخذ جانب الحذر بخلاف تصرفات الاستخفاف والاهمال التي مارسها داخل الفندق. الا اذا كان واثقاً من ان التخلي عن حراسه ومرافقيه يساعده على تضليل الخصوم. وفي مطلق الاحوال ستبقى تفاعلات هذه الحادثة تكبر وتتسع خصوصاً اذا قررت شرطة دبي اصدار مذكرة توقيف بحق نتانياهو باعتباره يملك سلطة اصدار اوامر الاغتيال. قبل الانتقال الى هذه المرحلة، لا بد من مراجعة الدور الذي تقوم به دبي على مستوى التجارة والمواصلات في منطقة الخليج. يؤكد الصحافيون العاملون في دول مجلس التعاون الخليجي ان نسبة الرعايا الايرانيين في دبي قد تضاعفت منذ وصول محمود احمدي نجاد الى الحكم. وتقدر القنصلية الايرانية أعدادهم في الإمارات السبع بأكثر من اربعة ملايين ومئة الف نسمة. كذلك تقدر غرفة دبي التجارية حجم التبادل غير النفطي مع ايران بحوالى 11 بليون دولار سنوياً، اي بارتفاع نسبته 30 في المئة مقارنة مع حجم التبادل عام 2004. كما يقدر رئيس مجلس الاعمال الايراني حجم الموجودات الايرانية في دولة الامارات بأكثر من 300 بليون دولار. لهذه الاسباب وسواها ظلت دبي تمثل الرباط الحيوي السري لايران التي خصتها بالطمأنينة والامن والهدوء، مقابل توفير متنفس تجاري يخفف عن طهران اثر المقاطعة. وفي رأي خبراء الاقتصاد ان زيادة العقوبات التي تهدد بها واشنطن، ولو تحت مظلة مجلس الامن، لن تعرقل اطراد العلاقات ونموها مع ايران. هذا الاسبوع اعلنت الولاياتالمتحدة عن استعدادها لمنح طهران فرصة اخيرة قبل فرض العقوبات بسبب انتاج اليورانيوم المخصب. وعملت على تحييد موقف روسيا من طريق تقديم رشوة مغرية دفعتها دول خليجية ثمن اسلحة روسية لا تحتاجها بمبلغ بليوني دولار. ومع ان ايران تقيم علاقات طيبة مع دول الخليج، فقد نشرت واشنطن صواريخ «باتريوت – فك 3» على السواحل المطلة على ايران كبادرة تطمين ضد السلاح الباليستي الايراني. كذلك نشرت بوارجها الحربية المزودة بصواريخ «اس اي – 3» القادرة على اسقاط الاقمار الاصطناعية في الفضاء. كما هددت بتنفيذ عقوبات اقتصادية ضد قائمة طويلة من اثرياء «الحرس الثوري». ويقول وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس، انه في حال سقط مشروع العقوبات في مجلس الامن، فإن لا مفر من فرض حصار بحري لتفتيش السفن التجارية والعسكرية المتوجهة الى ايران. في هذا الجو السياسي القاتم، نفذ جهاز «الموساد» قرار نتانياهو بقتل محمود المبحوح. ومع ان شرطة دبي حاولت امتصاص التأثيرات السلبية لهذا الحادث، الا ان الدول المطالبة بمقاطعة ايران قد تستغله لممارسة ضغوط قوية تحد من نشاط طهران في الامارة الصغيرة. ويرى عدد من المعلقين ان اختيار دبي للانتقام من مسؤول في «حماس» بعد مرور عشرين سنة من المطاردة، لم يكن قراراً عادياً. وانما كان قراراً هادفاً يراد من ورائه تحقيق امور عدة: اولاً – اخضاع دبيوالامارات السبع للقرار الذي سيصدر عن مجلس الامن حول العقوبات المتعلقة بإيران. ثانياً – بما ان حرب لبنان 1975 – 1989 كانت في بعض جوانبها جزءاً من التآمر الاسرائيلي بهدف حرمانه من دوره التجاري – السياحي، فإن قيام «هونغ كونغ» عربية في دبي، يشكل تحدياً للدور الذي رسمه شمعون بيريز لاسرائيل. ثالثاً – نجحت تجربة دبي في تفكيك روابطها القديمة مع بريطانيا والولاياتالمتحدة، واتجهت في علاقاتها صوب الهند والصين وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية. ويكفي ان نتدكر ان حجم التبادل التجاري بين دولة الامارات والهند قد تجاوز ال 140 بليون دولار، كي نعرف خطورة هذا التحول على الميزان التجاري لكل الدول الغربية. باختصار، ان الحكومة الاسرائيلية تسعى الى نسف مشروع السلام، الامر الذي يفسر تهديدات الوزير افيغدور ليبرمان للرئيس بشار الاسد، وتوعد الجنرال لافي مزراحي باحتلال دمشق. كما يفسر توقيت اغتيال محمود المبحوح، علماً ان جهاز «الموساد» كان يرصد تحركاته السابقة كلما وصل الى دبي. ولكن هذا السبب لا يلغي مخاوف اسرائيل من احتمال نشوب حرب مفاجئة تفضل ان تتخطاها اذا نجحت واشنطن في الحصول على قرار دولي يفرض عقوبات صارمة على طهران. وقبل ان تصل الامور الى حافة الهاوية، يصل وزير خارجية تركيا الاسبوع المقبل الى ايران من اجل اقناع الرئيس نجاد بالموافقة على اقتراح تبادل الوقود النووي. ولكن العقوبات لا تكون نافذة ومؤثرة الا اذا نجحت الاسرة الدولية في اقفال كل منافذ التسلل التجاري امام ايران، بما فيها عشرات الشركات التي يملكها اعضاء «الحرس الثوري» في إمارات الاتحاد. وفي ضوء حساباته الخاطئة، قرر نتانياهو اغتيال محمود المبحوح في دبي لاعتقاده بأن هذا الحادث سيؤثر في دورها التجاري المريح لإيران، ويربك نشاطها الاقتصادي. وكل ما فعلته دبي في هذا السياق، هو الاعلان بالارقام عن حركة المسافرين في مطارها الدولي. وذكرت ان عدد الذين استخدموا المطار السنة الماضية بلغ 41 مليون راكب، وأن المؤشرات الايجابية تتوقع زيادة نسبتها 14 في المئة لعام 2010. وكان هذا الاعلان بمثابة رد عملي على محاولة التشويش والارباك وكل ما يدفع دبي الى تغيير دورها... * كاتب وصحافي لبناني