فلماذا لم يتمكّن العالم العربي المعاصر، على رغم الخيرات الهائلة التي توافّرت بين يديه، من تحقيق نقلة نوعية شاملة وعميقة كما حدث لليابان على سبيل المثال، والتي تغلّبت على صعوبات أضخم من الصعوبات التي تعترض سبيل العالم العربي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها مهزومة؟ يسارع العديد من المحللين الى القول إن المسألة بسيطة ولا تحتاج الى تمحيص، مضيفين: "بسبب الحكّام العرب!". في الواقع المسألة ليست بسيطة وتحتاج الى تمحيص. فلو كانت المسؤولية تقع على الحكام العرب فقط لكانت بعض الانقلابات، من هنا وهناك، كافية لاصلاح الأمر. لكن الانقلابات حصلت، بالالوان كافة، وبقيت المشكلة هي هي. ما يعني ان الامر أعمق مما يوحي به المستوى السياسي للمشكلة. فربما ان الحكم والحكام جزء من المشكلة، لكنهم، بالتأكيد، ليسوا كل المشكلة. المشكلة هي في الخيارات الكبرى التي اعتمدتها البلدان العربية، كلها من دون استثناء، والتي قامت على الافادة القصوى من الخيرات المادية المتوافرة، هذه الخيرات التي كثُرت عند البعض وقلّت عند البعض الآخر. إلا أن الجميع تعامل معها، في أفقه الاستراتيجي، بذهنية متسرِّعة وعجولة، واحدة موحدة. فالكل سعى، بالطريقة نفسها، الى بناء استراتيجية دولته على قاعدة الرساميل الاقتصادية المحلية او الوافدة، او الاثنين معاً وعلى ردّيات النفط. فكان قصر النظر عاماً، بحيث غاب عن وعي الجميع بان ثمة خياراً آخر وأهم ينبغي الاعتماد عليه وبلورته وتنميته على المديين المنظور والبعيد، هو الطاقات البشرية. فبدل صبّ الجهد كلّه، او القسم الاعظم منه، على البُنى التحتية، واعتبار هذه الاخيرة الأولوية الوحيدة المتوجب على الدولة إتمامها تجاه شعبها، كان من المفترض إدخال الخيار الآخر، أي الخيار البشري، على خط البنيان العام الخاص بالدولة بحيث تصبح تنمية الطاقات البشرية بأهمية تنمية شؤون البنى التحتية على اختلافها. لم يُعتمد الخيار البشري جنباً الى جنب مع الخيار الاقتصادي. وبالتالي فالمشكلة ليست سياسية بل مفاهيمية ومعرفية. ذلك ان ابناء العالم العربي لم يستنبطوا من تجربتهم - كما فعل اليابانيون - مقومات خيارات ذاتية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقلّدوا ما كان رائجاً في انحاء العالم الثالث من دون التفكير نوعياً بمقتضيات ما يحتاجه العالم العربي، على مدى خمسة او ستة عقود، على الصعيدين البشري والمادي على حدّ سواء. وأدّى هذا الخلل في الخيارات الى اختلال عام دفع ثمنه ابناء العالم العربي ككل، وبخاصة الشباب منهم، على مدى أجيال عدة. علماً ان البلدان الغربية الساهرة على تنمية طاقاتها البشرية بموازاة تنمية بناها التحتية لم تعانِ من عوارض الاختلال التي عانت منها الاجيال العربية المتتالية. وعلماً أيضاً ان المجتمع الاسرائيلي الماشي على نسق الخطة الغربية تمكّن من بناء قاعدة اجتماعية واقتصادية صلبة لاعضائه، تعتمد التنمية المادية والتنمية البشرية، بحيث ان اللحمة الاجتماعية عنده أقوى وأصلب من تلك التي يلاحظها المراقبون عند جيرانه العرب. قد يبدو هذا الكلام مجرداً وعاماً، لذا لا بدّ من نموذج توضيحي. فالذين يتابعون الامور الثقافية في العالم العربي المعاصر، يعلمون تماماً ان المطالعة في تراجع مطرد، بالتوازي مع ارتفاع نسبة الاميين في العالم العربي 61 مليون نسمة بحسب آخر احصاء. علماً ان إدراك وجود هذه الأمية لم يؤدِ بالمسؤولين إلى وضع خطة خمسية أو عشرية للقضاء عليها نهائياً كما حصل في الغرب حيث اختفت الأمية منذ ثلاثة عقود. بل ان العالم الغربي سهر على الدوام، منذ انتهائه من حلّ هذه المشكلة، على كسب معركة اخرى هي ابقاء شعلة الكتابة الجديدة مضاءة، بغية رفد التصورات بافكار جديدة ومجدّدة. فالابداع بحاجة الى مناخ يساعده في التبلور. وعماد هذا المناخ هو تعميم المطالعة بشكل يخلق طلباً دائماً على الكتب الجديدة والعناوين الجديدة، وبالتالي الافكار الجديدة. فالمتابعون لهذا الامر يعلمون ان مسار انتاج العناوين الجديدة، في الغرب، هو في ارتقاء دائم. فعلى سبيل المثال انتجت بريطانيا 35526 عنواناً جديداً العام 1975، و52861 العام 1985، و95015 العام 1996، كذلك انتجت فرنسا 29371 عنواناً جديداً العام 1975، و37860 العام 1985، و45311 العام 1996. أما ألمانيا فقد انتجت 46416 عنواناً جديداً العام 1975، و60660 العام 1985، و70643 العام 1996. بينما لم تنتج مصر سوى 1486 عنواناً جديداً العام 1975، و1366 العام 1985 و3108 العام 1996. ولم تنتج المغرب سوى 122 عنواناً جديداً العام 1975 و354 العام 1996. فهناك، في الغرب، سهر دائم على تشجيع المطالعة وتعميمها. وهنا، في العالم العربي، تقصير حتى في إتمام المهمات الأولية محو الأمية كلياً، ناهيك عن شحّ انتاج العناوين الجديدة. والمناخ العام في الغرب يلعب لصالح مزيد من انتاج العناوين الجديدة، في الحقول كافة. والمسؤول عن توافّر هذا المناخ العام ليس فقط وجود حكام متنوّرين اذ نكتشف، من حين لآخر، ان بعضهم لا يقلّ فساداً عن حكام العوالم الاخرى في آسيا وافريقيا واميركا الجنوبية، بل وجود وعي معمَّم يتلخص في كلمتين: الايمان بالكتاب. الايمان به كوسيلة تسلية وكوسيلة تثقيف وكوسيلة تمرين للعقل وكأداة معرفية عامة. أما العالم العربي من ناحيته، وهو الذي يشعر منذ قرون بأنه غير مرغوب به ككيان منتج ومتبلور على الصعيد العالمي، فيجترّ مشكلاته بشكل متواصل. وهو لا يفكر ببلورة طاقاته بقدر ما يبحث عن تقليد الغرب تقليداً غير متكافئ. انه يرغب في أن تكون جامعاته أفضل جامعات وانتاجه الفكري أفضل انتاج. ولكنه لا يسلك الطريق نفسه الذي يسلكه الغرب لبلوغ هذا الهدف. فالطاقات البشرية، في العالم العربي، مهمولة او مسفَّرة الى الخارج بحيث أنه لا يبقى في الميدان سوى غالبية من المستعدين للبصم على الدوام. يبقى هاجس العالم العربي، شعوباً وحكاماً، في دائرة تنمية القدرات الاستهلاكية لا في تنمية الطاقات الابداعية. فالحاكم يكتفي "باتخاذ مواقف" ليست، في مجملها، سوى رد فعل على مواقف الآخرين في الغرب. والناشر يكتفي باصدار الكتب المعرّبة. فالطاقات البشرية في العالم العربي المعاصر مخنوقة، لا ايمان بها ولا تشجيع لها. بينما التركيز، كل التركيز، على أسواق المال والأسهم والسلع الاستهلاكية في المجالات كافة، بما في ذلك المجال الغذائي. التنمية البشرية هي التي بامكانها ان تفتّق طاقات العالم العربي مستقبلاً. غير ان العالم العربي الحالي لا يعي نفسه، موضوعياً، بأنه "عالم" عربي، أي أنه كتلة ثقافية وبشرية واحدة، مميزة ومحدودة. بل يهرب الى الامام نحو مصطلحات ايديولوجية تدغدغ مشاعر دفينة عند ابنائه، من دون ان تتفق مع ما هو موجود في الواقع الموضوعي كالوطن العربي والأمة العربية والاسلامية، الخ. ومشكلة لجوئه الى هذه المصطلحات التوهمية انها تسبب له صدمات نفسية عميقة عندما تدق ساعة الحقيقة. لم يخرج اليابانيون مهزومين، لا هم ولا الألمان، بعد خسارتهما المشتركة إبان الحرب العالمية الثانية. بل بقيت طاقاتهما البشرية كاملتين، غير مطعون بجدواها. لذلك تمكنت ألمانيا واليابان من إعادة بناء بلديهما بناءً رائعاً دفع بهما الى طليعة القوى العالمية من جديد. أما العرب فلا إدراك كافياً عندهم لهذا الجانب من المسألة. فالطاقة البشرية، التي تقوم على سلسلة عمليات معنوية غير محترمة وغير حاصلة على الاهتمام والتقدير اللذين تستحقهما. بل ان دوس هذه الطاقة البشرية، بالاهمال المتعمّد وبالكذب والمماطلة والتلاعب، هو الذي يؤدي الى الهزيمة الداخلية التي نشعرها على وجوه كل ابناء المنطقة. صفعات العصر المتتالية هي التي جعلت من الانسان العربي انساناً فقد ايمانه بالكتاب والصحيفة والاذاعة ونشرة الاخبار التلفزيونية. لذلك فهو يلعب لعبة الاستلاب ويقبل بالدور المطلوب منه، فيكتفي بالتفكير بأمور بنيته التحتية، في بيته والحارة والحيّ على أبعد تقدير، وباشباع حاجاته الاستهلاكية البحتة، مع قليل من توابل التسلية التلفزيونية. وبعدها، تصبحون على خير! فإلى يوم آخر وآخر، وهكذا دواليك طوال الاشهر والسنوات. فيمر العمر دون ابداع، ومن دون ايمان بجدوى هذا الابداع، ومن دون رغبة به. فتُسْدَل بعدها الستارة على مشهد باهت، لا طعم له ولا لون ولا نكهة مميزة. وفي هذه البانوراما القاتمة هناك باب وحيد مفتوح على المستقبل، هو باب الشباب. فالعالم العربي يملك في شبابه هذه الطاقة البديلة التي هو بحاجة اليها، والتي لم يتم اللجوء اليها بعد، على رغم مما تزخر به من تجربة خاصة ومواقف عملانية تخطّت التركة الحزينة التي ورثتها عن أجيال الخمسينات والستينات.