تُعتبر قضية الضابط الفرنسي اليهودي الاصل الفريد درايفوس، في العام 1894، منعطفاً سياسياً وثقافياً مهماً في فرنسا وفي اوروبا وربما في العالم. فعلى الصعيد السياسي يُنسب لمؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل الذي حضر وقائع محاكمة درايفوس قوله على هامش المحاكمة ان الحل الجذري للاضطهاد اليهودي يكمن في اقامة دولة مستقلة لليهود، ما يعني ان قضية درايفوس كانت منطلقاً لفكرة تأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين. غير ان درايفوس نفسه رفض بعد اطلاق سراحه السير في هذا المشروع، ورفض استقبال وفد من الحركة الصهيونية التي تذرعت بقضيته، وهو كان يُصرّ على الدوام أمام عائلته على ضرورة امتناع اليهود عن اظهار تميّزهم القومي كي لا يثيروا اكثر نزعات العداء للسامية في فرنسا، وظل حتى آخر لحظات حياته متمسكاً بوطنيته الفرنسية على الرغم مما ألمّ به. وعلى الصعيد الثقافي، شكّلت قضية درايفوس منعطفاً، في دور المثقف الفرنسي، عبر تدخل الروائي اميل زولا في هذه القضية علناً ومن خلال مقالته الشهيرة "إني اتّهم". ويحلو للفرنسيين القول ان موقف زولا، صار منذ ذلك الحين، نقطة انطلاق لتدخل المثقفين في القضايا العامة. ولأنها شكّلت منعطفاً مزدوجاً على الصعيدين السياسي والثقافي، ولأنها تجاوزت حدود فرنسا لتطولنا نحن العرب، نقدم هذه القضية من خلال ترجمة كاملة وربما للمرة الاولى لمقالة اميل زولا اني "اتهم" 1898 التي تلخّص القضية. ومن خلال بورتريه موجز لبطلها مع لفت انتباه القارئ الى ان الجمل المحصورة بين هلالين هي من تدخلنا وللايضاح. وفي ما يلي النص الكامل لمقالة زولا: "إني أتهم رسالة إلى السيد فيليكس فور رئيس الجمهورية الفرنسية السيد الرئيس هل تسمح لي، انطلاقاً من عرفاني بالجميل لاستقبالك اللطيف لي ذات يوم، بأن اقلق على مجدك الحق وبأن أقول ان نجمك الهانئ جداً حتى الآن، مهدد بأكثر الوصمات عيباً ودواماً؟ خرجت سليماً مُعافى من الافتراءات الحقيرة فغزوت القلوب. وبدوتَ مُشعاً وفي ذروة المجد حين احتفى الوطن بالنصر الذي حمله التحالف الروسي - الفرنسي. وها أنتم تستعدون لترؤس الحفلة الفخمة لمعرضنا الدولي الذي يُتوّج قرناً من الجهد والحقيقة والحرية. لكن، يا لوصمة العار التي تلطخ بها اسمك - كي لا أقول حكمك - والمتمثلة بقضية درايفوس الشنيعة! لقد تجرأ للتوّ مجلس حربي محكمة عسكرية فأمر ببراءة استيرازي، ما يُعتبر صفعة قياسية للحقيقة والعدالة. وها قد انتهى الأمر، فتدنس وجه فرنسا وسيذكر التاريخ بأنه امكن ارتكاب مثل هذه الجريمة بحق المجتمع في ظل رئاستك للجمهورية. وبما أنهم تجرأوا، فأنا سأجرؤ بدوري. سأقول الحقيقة لأنني وعدت بقولها، ما لم تقلها العدالة - التي استُدعيتْ مراراً للنظر في هذه القضية - كاملة وشاملة. ومن واجبي ان اتكلم لأنني لا اريد ان اكون متواطئاً في هذه القضية. وإن لم أفعل فسيطاردني في لياليّ شبح ذلك البريء درايفوس الذي يدفع هناك في جزيرة الشيطان ثمن جريمة لم يرتكبها، وسط أبشع انواع التعذيب. وسأصرخ بهذه الحقيقة، امامكم ايها السيد الرئيس، بكل قوتي وغضبي، وكما يفعل أي رجل شريف. فأنا مقتنع انكم تجهلونها. والى من أفضح اذن سفالة المتهمين الفعليين المؤذية، ان لم يكن اليكم بوصفكم القاضي الأول لهذه البلاد؟ في البداية، لا بد من قول الحقيقة عن المحاكمة وعن إدانة درايفوس. لقد دبّر القضية وقام بكل شيء رجل مشؤوم هو العقيد دوباتي دو كلام، وكان في حينه مقدماً بسيطاً. هو المسؤول عن قضية درايفوس بكاملها، ولن تعرف هذه القضية فعلاً الا من خلال تحقيق عدلي يوضح بجلاء افعال هذا الضابط ومسؤولياته فيها. ويبدو هنا انه العقل الاكثر ضبابية والاكثر تعقيداً. انه مشغول ابداً بحبكات روائية تتدنى الى طرائق الروايات المتسلسلة حيث تجتمع الاوراق المسروقة، والرسائل المجهولة المصدر، واللقاءات المعقودة في الاماكن المقفرة، والنساء الغامضات اللواتي ينقلن في الظلام أدلة دامغة. انه هو الذي تصور املاء مضمون اللائحة على درايفوس، وهو الذي ارتأى مراجعتها في غرفة جدرانها مغطاة بكاملها بالمرايا. وهو الذي، كما يعرضه لنا المقدم فورزينيتي، من ذهب الى غرفة المتهم درايفوس حين كان يغط في نومه، حاملاً فانوساً خافتاً يمكن كتم نوره لكي يُسلّط على وجهه سيلاً من الضوء الكاشف والفجائي، وفي ظنه انه سيتحقق من جريمته فور نهوضه المضطرب. وفي هذا المجال لن اذكر كل شيء، فمن يبحث يجد. لكني أعلن ببساطة ان المقدم دوباتي دو كلام المكلف التحقيق في قضية درايفوس، بصفته ضابطاً عدلياً هو في الترتيب الزمني وفي ترتيب المسؤوليات، المسؤول الأول عن الخطأ العدلي الفظيع الذي ارتكب. فاللائحة التي تضم احصاء بالمعلومات التي تسربت الى العدو، والتي اتهم درايفوس بها، كانت موجودة اصلاً عند العقيد سندير مدير مكتب الاستخبارات والذي توفي لاحقاً اثر اصابته بالشلل التام. ثم حصلت "تسربات" واختفت اوراق تدريجاً كما يحصل حتى اليوم أيضاً. وكان البحث جارياً عن كاتب اللائحة عندما تم اعتماد فكرة مسبقة مفادها ان المعني بالأمر هو حتماً ضابط في هيئة الاركان وانه تابع لسلاح المدفعية. وهنا يرتسم اساس الخطأ المزدوج والواضح الذي ارتكب، والذي يكشف عن العقلية السطحية التي تحكمت بالنظر الى اللائحة ذلك ان تفحصاً جدياً لها كان سيظهر ان المعني هو ضابط، اي ضابط في الجيش ليس الا دون حصره في جهاز او هيئة. هكذا جرى البحث ضمن القيادة وتم التحقق من الخطوط وكأن القضية عائلية يقتصر الأمر فيها على ضبط خائن متخف داخل مكاتب القيادة ومن ثم طرده منها. ولا أريد هنا تكرار رواية معروفة جزئياً، لكن أقول ان المقدم دوباتي دو كلام دخل على الخط منذ ان لاحت شبهة اولى حول درايفوس. ومنذ تلك اللحظة، هو الذي اخترع، وأصبحت القضية قضيته فقد عمل جاهداً لافحام المتهم وحمله على الادلاء باعترافات كاملة. هناك بالطبع وزير الحرب الدفاع الجنرال مرسييه القليل الذكاء. وأيضاً رئيس الاركان الجنرال دو بواديفر الذي يبدو انه استسلم لحماسه الاكليروسي. ونائب رئيس الأركان الجنرال غونز الذي يبدو انه حمّل ضميره اشياء كثيرة. ولكن، في العمق، يحتل المقدم دوباتي دوكلام مركز الصدارة بين هؤلاء ويسوقهم جميعاً ويمغنطهم. فهو يهتم بالروحانية وبالغيب ويتحادث مع الأرواح. ولا يمكن ان ندرك التجارب التي فرضها على درايفوس، والافخاخ التي اراد له الوقوع فيها، والتحقيقات الجنونية والتخيلات الفظيعة، اي، باختصار، كل هذا الجنون المعذِّب. آه! هذه المرحلة الأولى من القضية، هي كالكابوس لمن عرف تفاصيلها الحقيقية. لقد اوقف المقدم دوباتي دوكلام، درايفوس واحتجزه في مكان سري، ثم انطلق فوراً الى منزل السيدة درايفوس، فأرهبها بقوله انها اذا تكلمت عن الأمر قضي على زوجها. في هذا الوقت كان المسكين درايفوس يَهْبُشُ جلده ويصرخ ببراءته. تم التحقيق بهذه الطريقة التي تشبه مرويات القرن الخامس عشر وسط تكتم تام وعبر شبكة من الحيل الشرسة، وكل ذلك انطلاقاً من تهمة صبيانية ممثلة بتلك الوثيقة الغبية التي لم تكن تعبر عن مجرد خيانة مبتذلة فحسب، وإنما أيضاً عن عملية احتيال هي الاكثر سفاهة، لأن الاسرار المزعومة التي نقلت الى الألمان كانت كلها تقريباً من دون قيمة. تركيزي على ذلك ناتج عن ان البيضة هنا ومنها ستخرج في ما بعد الجريمة الحقيقية، اي الاستهانة بالعدالة التي تعاني منها فرنسا الآن. اريدكم ان تلمسوا لمس اليد كيف صار ارتكاب الخطأ القانوني متاحاً، وكيف تولّد هذا الخطأ من مكائد المقدم دوباتي دوكلام، وكيف وقع الجنرال مرسييه والجنرالان دو بواديفر وغونز في الفخ وكيف انزلقوا شيئاً فشيئاً بمواقعهم المسؤولة في هذا الخطأ الذي اعتقدوا في وقت لاحق، ان في وسعهم فرضه كحقيقة مقدسة لا يمكن ان تخضع للجدل. في البداية، اذن، لم يظهر من جهتهم الا الاهمال وقلة النباهة. وفي الغالب يَبْدُونَ وكأنهم استسلموا لأهواء وسطهم الدينية وللأحكام المسبقة السائدة عندهم والحريصة بشدة على مصلحة المؤسسة العسكرية. وهو الشيء الذي سمح للحماقة بأن تفعل فعلها. ولكن، ها هو درايفوس امام مجلس الحرب الذي فرض ان تكون الجلسة سرية تماماً. ولو كان احد الخونة فتح الحدود امام العدو وقام بمرافقة الامبراطور الألماني حتى نوتردام وسط باريس لما اتخذت مثل تلك الاجراءات السرية والمتكتمة والصارمة. خيّم الذهول على الامة بكاملها ويسري الهمس عن وقائع رهيبة تماثل الخيانات الفظيعة التي يهتز لوقعها التاريخ. وبطبيعة الحال انحنت الأمة، وهي سوف تصفق عند تجريد المتهم من رتبه في حضرة العامة وترغب في ان يبقى على صخرة العار يتآكله تعذيب الضمير. وبدا ان اي عقاب سيظل في نظر الأمة دون مستوى الجرم. فهل صحيح، إذن، ان الجلسة اغلقت من اجل كتمان تام للأمور الملتبسة والخطيرة، الكفيلة باشعال اوروبا اذا ما كُشفت؟ لا. لم يكن خلف الابواب المقفلة، غير تهيؤات المقدم دوباتي دوكلام الخيالية والمجنونة. ولم يتم ذلك كله الا من اجل اخفاء الروايات المتسلسلة الخرقاء. ويكفي للتأكد من ذلك، مراجعة محضر الاتهام الذي تُليَ امام مجلس الحرب. آه! ويا للعدم الذي يغرق فيه هذا المحضر! ان الحكم على رجل بالاستناد اليه هو قمة العسف. وأتحدى الناس الشرفاء ان يقرأوا المحضر من دون ان يتملّك السخط قلوبهم ويصرخوا غاضبين وفي اذهانهم فعل التكفير المفرط الذي يدور هناك في جزيرة الشيطان. ورد في المحضر ان درايفوس يعرف لغات عدة، فهذه جريمة. ولم يعثر في منزله على أية ورقة مشبوهة. جريمة. يذهب احياناً الى مسقط رأسه الالزاس. جريمة. انه مثابر ويهتم بمعرفة كل شيء. جريمة. لا يضطرب. جريمة. يضطرب. جريمة. وفي المحضر ايضاً صياغات ساذجة وأدلة شكلية فارغة. ذكروا لنا 14 تهمة موجهة الى درايفوس ولكن لم نجد في نهاية المطاف الا واحدة هي اللائحة المذكورة. بل علمنا ان الخبراء في الخطوط اختلفوا حولها وان احدهم السيد غوبير تعرّض لضغط عسكري لأنه سمح لنفسه باستنتاج لا يتفق مع الوجهة المطلوبة. وجرى الحديث ايضاً عن 23 ضابطاً جاؤوا ليكبلوا درايفوس بشهاداتهم الدامغة، ولا نعرف حتى الآن فحوى استجواباتهم، ولكن، من المؤكد انهم لم يحملوا عليه كلهم. مع الاشارة الى انهم ينتمون جميعاً الى ادارة الحرب ادارة وزارة الدفاع. هي، اذن، محاكمة ضمن العائلة الواحدة، بين اناس يعرفون بعضهم البعض. وعلينا ان لا ننسى ان هيئة الاركان العامة ارادت هذه المحاكمة وأصدرت حكمها فيها وها هي تعاود الحكم نفسه. إذن، لا يبقى غير اللائحة التي لا يتفق حولها الخبراء. ويُروى انه في قاعة المحكمة العسكرية كان القضاة في صدد الحكم ببراءة درايفوس، بطبيعة الحال، لفقدان الأدلة الكافية. ومنذ تلك اللحظة حتى اليوم - ولهذا الاصرار من قِبَلِهم ما يبرره - يعاد التأكيد على وجود وثيقة سرية لا يمكن عرضها علانية وقيل انها تبرر كل شيء، وان هذه الوثيقة تفترض ان نخضع لها جميعاً، كخضوعنا للاله الخفي وغير المرئي! أنفي هذه الوثيقة، أنفي وجودها بكل قوتي! وإن وجدت فهي وثيقة سخيفة وربما تكون تلك التي تتضمن مسائل تخص نساء وضيعات حيث جرى الحديث عن شخص بالاشارة الى الحرف الأول من اسمه د... والذي اصبح متطلباً للغاية: ربما هو زوج يشعر بالغبن لأن زوجته لا تتقاضى المكافأة المالية التي تستحق لقاء خدماتها. اما القول بوجود وثيقة تتعلق بالدفاع الوطني وبأنه لا يمكن عرضها خشية ان تندلع الحرب في اليوم التالي. فلا. لا! هذا خداع! وهو اسلوب بشع ووقح، طالما انهم يكذبون من دون حساب ولا يمكن بالتالي اقناعهم بعكس ذلك. انهم يثيرون الشغب في فرنسا ويستترون خلف اضطرابها المشروع. ويكمّون الافواه من خلال تشويش القلوب وبلبلة العقول. وعليه لا اعرف جريمة وطنية اكبر من هذه الجريمة. هذه هي ايها السيد الرئيس، الوقائع التي تُفسّر كيف امكن ارتكاب هذا الخطأ القانوني. فالبراهين الاخلاقية وثراء درايفوس الشخصي، وغياب الدوافع الجرمية لديه، وصرخة البراءة المتواصلة التي يطلقها، تتوج حاله كضحية لتخيلات المقدم دوباتي دوكلام العجيبة، وللوسط الاكليروسي وللنهج الداعي للهجوم على "اليهود القذرين" الذي لا يُشرف عصرنا. وها نحن نصل الى قضية أستيرازي. مرت ثلاث سنوات وما زالت نفوس كثيرة تضطرب بعمق. وهي تقلق وتبحث وقد انتهت الى الاقتناع ببراءة درايفوس. لن أستعرض مسلسل الشكوك وتاريخها ومن ثم اقتناع السيد شورير - كتنيير نائب رئيس مجلس الشيوخ، ولكن، اقول انه اثناء مواصلته البحث والتفتيش، جرت وقائع خطيرة في الاركان العامة نفسها. فقد توفي العقيد ساندير وخلفه العقيد بيكار في رئاسة مكتب الاستخبارات العامة. من هذا الموقع، وفي اطار ممارسة وظائفه، وقعت بين يديه ذات يوم، برقية موجهة الى المقدم استيرازي من عميل لدولة اجنبية. فكان من واجبه الطبيعي فتح تحقيق في الموضوع. وبما انه صار مؤكداً ان العقيد بيكار لا يتحرك ابداً خارج ارادة رؤسائه، فقد حمل شكوكه اليهم اي للجنرال دوبواديفير، ومن بعد للجنرال بييو الذي خلف الجنرال مرسييه كوزير للدفاع. وعليه فان ملف بيكار الشهير الذي جرى الحديث عنه طويلاً، لم يكن يوماً الا ملف بييو، أعني بذلك، ان هذا الملف هو ذاك الذي اعده مرؤوس لوزيره والذي لا بد من ان يكون موجوداً حتى اليوم في ملفات وزارة الدفاع. دام التحقيق في هذه القضية من أيار مايو الى ايلول سبتمبر 1896، وما يجب التأكيد عليه، هو ان الجنرال غونز كان مقتنعاً بجرم استرازي، وبأن الجنرال دو بواديفير والجنرال بييو لا يشكان في ان اللائحة خُطّت بيد استيرازي. والتحقيق الذي اجراه العقيد بيكار توصل الى هذا الاستنتاج المؤكد. لكن القلق كان كبيراً، لأن ادانة استيرازي كانت ستجرّ معها حتماً اعادة النظر بمحاكمة درايفوس، وهذا ما كانت هيئة الاركان تريد تجنبه بأي ثمن. هنا لا بد ان يكون الجنرال بييو عاش للحظات صراعاً نفسياً مريراً. لاحظوا، سيدي الرئيس، ان الجنرال بييو لم يكن متورطاً في شيء متصل بالقضية. فهو عُيّن وزيراً للدفاع من وقت قريب، وكان في وسعه ان يكشف الحقيقة. لم يجرؤ على ذلك خوفاً، بلا شك، من الرأي العام، وخوفاً من ان يطيح بكل هيئة الاركان العامة، وعلى رأسها الجنرالان بواديفير وغونز فضلاً عن بقية المرؤوسين المعنيين. لكن، هذه اللحظة لم تكن الا مجرد صراع بين ضميره من جهة وما يعتقد انه المصلحة العسكرية من جهة اخرى. وحين مرّت هذه اللحظة حُسم الامر. فقد التزم المصلحة العسكرية وأصبح بالتالي متواطئاً. ومنذ ذلك الحين بدأت تتفاقم مسؤوليته في هذه القضية، فقد اخذ على عاتقه جريمة الآخرين. فصار متهماً مثلهم لا بل اكثر منهم لأنه كان المسؤول الأول عن تحقيق العدالة ولم يفعل شيئاً. هل يمكنكم ان تتفهموا ذلك؟ منذ عام، والجنرال بييو ومعه الجنرالان دو بواديفر وغونز يعرفون ان درايفوس بريء ويحتفظون لأنفسهم بهذه الحقيقة الفظيعة، وعلى الرغم من ذلك ينام هؤلاء بملء جفونهم ويحبون اطفالهم وزوجاتهم! الجنرال بيكار أدى واجبه كرجل شريف، وكان يُلحّ باسم العدالة على طرح الموضوع، امام رؤسائه وحتى انه كان يرجوهم، ويلفتهم الى ان الوقت لا يعمل لمصلحتهم في مواجهة العاصفة الرهيبة الآتية والتي ستنفجر حتماً عندما ستُعرف الحقيقة. وهذا ما قاله تماماً في ما بعد السيد شورير - كتنيير للجنرال بييو، متضرعاً اليه باسم الوطنية، ان يمسك بالقضية، وبأن يحول دون تفاقمها، كي لا تتحول الى كارثة عامة. لا! لم يأخذ بييو بهذا الكلام. فالجريمة ارتكبت ولم يعد بوسع هيئة الاركان العامة الاعتراف بجرمها. وبدلاً من ذلك، عين العقيد بيكار في الخارج وتم إبعاده شيئاً فشيئاً الى ان وصل الى تونس. ومن هناك ارادوا تكريمه لبسالته وكُلِّفَ مهمة كانت ستؤدي الى مقتله بالتأكيد، في النواحي نفسها التي لاقى حتفه فيها المركيز دوموريس. غير ان بيكار لم يكن مغضوباً عليه، وكان الجنرال غونز يتبادل معه رسائل الصداقة. غير ان مشكلة بيكار هي انه كان يعرف اسراراً كان يُراد لها ان تبقى طي النسيان. في باريس كانت الحقيقة تتكشف بلا عائق. ونعرف كيف انفجرت العاصفة المرتقبة. فقد بَلّغَ ماتييو شقيق درايفوس عن المقدم استيرازي بوصفه المتهم الحقيقي في اللائحة التجسسية، في حين كان السيد شورير - كتنيير يَهُمُ بتسليم وزير العدل طلباً، باعادة النظر بمحاكمة درايفوس. وهنا بدأ يظهر دور المقدم استيرازي. وأفاد شهود انه أصيب بالذعر في البداية وكان يستعد إما للانتحار او للهرب. ثم فجأة، شرب حليب السباع وصار يُدهِش باريس بعنف مواقفه. لقد جاءته النجدة عبر رسالة مجهولة المصدر، تُحذّره من مكائد يُدبِّرها له اعداؤه. حتى ان سيدة مجهولة تحملت مشقة المجيء اليه ليلاً لتسلمه مستنداً مسروقاً من رئاسة الاركان من شأنه ان ينقذه. ولا يمكنني ان امتنع عن اتهام العقيد دوباتي دوكلام بهذه العملية، انطلاقاً من معرفتي بالحيل التي ينتجها خياله الخصب. فآية انجازه المتمثلة بتجريم درايفوس كانت مهددة بالخطر وأراد الدفاع عنها، ذلك ان اعادة النظر في المحاكمة كانت تعني انهيار الرواية - المتسلسلة الشديدة الغرابة والمأسوية والتي افضت خاتمتها الشنيعة الى جزيرة الشيطان حيث يُسجن درايفوس. وهذا ما لم يكن في وسعه السماح به. ومنذ هذه اللحظة، ستبدأ المبارزة بين العقيد بيكار والعقيد دوباتي دوكلام. الاول سافرُ الوجه والثاني مقنع. وقريباً سيمثلان معاً امام القضاء المدني. لكن، وفي العمق، كانت هيئة الاركان العامة هي التي تدافع عن نفسها، عبر رفض الاعتراف بجريمتها التي تزداد شناعة ساعة بعد ساعة. وعمّ تساؤل مذهول، حول الذين يقفون خلف المقدم استيرازي، انهم كثر، في طليعتهم العقيد دوباتي دوكلام الذي دبّر في الخفاء كل شيء، وأدار كل شيء. ودلّت الخزعبلات التي اعتمدها على ذراعه الطولى في القضية. ومن ثم الجنرال دو بواديفر وأيضاً الجنرال بييو. هؤلاء كانوا مضطرين لتدبير براءة استيرازي، لأنهم لا يستطيعون السماح بالاعتراف ببراءة درايفوس، من دون ان تنهار ادارة وزارة الدفاع بفعل احتقار الناس. والحصيلة العظيمة لهذا الوضع العجيب تمثلت في ان العقيد بيكار، أي الرجل الشريف والوحيد الذي قام بواجبه، سيكون الضحية وسيعاقب وسيُهان. آه، يا لهذا اليأس المخيف الذي يقبض على القلب. لقد ذهبوا الى حد القول انه هو الذي زوّر البطاقة البرقية للنيل من استيرازي. ولكن، بالله عليكم، لماذا يفعل ذلك؟ ومن أجل اي هدف؟ اعطونا دافعاً واحداً لذلك. فهل اشتراه اليهود هو ايضاً؟ والمفارقة انه كان مناهضاً للسامية. نعم! اننا في حضرة هذه المسرحية الدنيئة حيث نرى رجالاً مثقلين بالديون وموغلين في الجرائم ومع ذلك تُعلنُ براءتهم بينما يتم النيل من الشرف نفسه، ويُعتدى على رجل لا شائبة في حياته! عندما ينزل مجتمع الى هذا الدرك فهو آيل الى التفكك. ها هي، اذن، سيدي الرئيس، قضية استيرازي: انها قضية مذنب كان لا بد من تبرئته. ومنذ شهرين ونحن نتابع ساعة بساعة هذه الفعلة المدهشة. سأختصر ولن اعرض هنا الا الخطوط العامة لخلاصة القصة التي ستكتُب ذات يوم فصولها المشتعلة كاملة. هكذا، اذن، رأينا الجنرال دوبيلليو ومن ثم المقدم رافاري يديران تحقيقاً سافلاً خرج منه الانذال على غير صورتهم والكرام الشرفاء مدنسين. ومن ثم استُدْعي المجلس الحربي محكمة عسكرية بالاستناد الى هذا التحقيق. كيف كان يُؤملُ ان يُخالف مجلس حربي ما فعله مجلسٌ حربي آخر؟ وهنا. لا اتحدث عن حسن اختيار القضاة وهو ممكن دائماً. اولم يكن الالتزام بالانضباط - وهو قيمة عليا تسري في دم هؤلاء الجنود - أو لم يكن كافياً لإعاقة السلطة المكلفة العدالة داخل الجيش؟ فالانضباط يستدعي الطاعة. وعندما يُقِّر وزير الحرب الدفاع، وهو السلطة العليا، علناً، ووسط هتاف البرلمان، الالتزام بالحكم المقضى به وانه قضي الامر، هل تريدون من مجلس حربي ان يكذّبه رسمياً؟ هذا مستحيل بالاستناد الى التراتبية العسكرية. وبتصريحه هذا، أوحى الجنرال بييو للقضاة بالحكم، وقد حكم هؤلاء من دون استدلال وكأنهم ذاهبون للحرب. والحكم المسبق الذي حملوه معهم الى مقاعدهم هو بالتأكيد التالي نصه "لقد أدان مجلس حربي درايفوس بجريمة خيانة، فهو اذن مذنب ولا نستطيع اعلان براءته، وعليه نعلم ان الاعتراف بجرم استيرازي سيكون بمثابة اعلان براءة درايفوس". ولا شيء كان بامكانه ان يخرجهم من هذه المعادلة. اصدروا حكماً جائراً سيخيِّمُ ابداً بظله على مجالسنا الحربية، وسيعم بالشكوك من الآن فصاعداً، كل قراراتها. وإذا كان الذكاء خان مجلس الحرب الاول، فان مجلس الحرب الثاني هو مذنب بالضرورة. وأكرر ان عذره يكمن في ان المسؤول الاول وزير الدفاع كان أعلن ان الحكم الصادر مقدس وغير قابل للطعن وفوق الجميع، مما جعل مرؤوسيه غير قادرين على قول العكس. يحدثوننا عن شرف الجيش ويريدون ان نحبه وان نحترمه. آه. طبعاً، ونعم للجيش الذي ينهض عندما تلوح بوادر التهديد، والذي يدافع عن الارض الفرنسية. هو الشعب كله ولا نكن له سوى العطف والحنان. لكن الامر لا يتصل بهذا الجيش الذي، ومن ضمن سعينا الى العدالة، نريد له بالتحديد ان يستعيد كرامته. لا يتعلق الامر بهذا الجيش وانما بجيش/ السيف، السيد المطلق الذي ربما سيقودنا غداًد واذا كان من الواجب ان نلثم قبضة السيف/ الاله. فلا! من جهة ثانية كنت برهنت ان قضية درايفوس، هي قضية مكاتب الحرب ادارة الدفاع. قضية ضابط في هيئة الاركان وشى به رفاقه ودين بضغط من رؤساء الاركان. ومرة اخرى اقول انه لا يمكن ان يسترجع براءته من دون ان تدخل كل هيئة الاركان الى قفص الاتهام. لذا لجأت هذه الادارة ادارة الدفاع الى كل الوسائل الممكنة من حملات صحافية واتصالات واستخدام نفوذ للتستر على استيرازي، ولم تغطّيه الا لإدانة درايفوس ثانية. آه! كم من حملة نظافة على الحكومة الجمهورية ان تقوم بها في هذه الحضرة الجزويتية اليسوعية كما يُسمّيها الجنرال بييو نفسه! ألا يوجد وزير قوي حقاً، ووطني عاقل، يتجرأ على اعادة تأسيس هيئة الاركان وتجديدها بالكامل. اعرف اناساً كثيرين يرتجفون قلقاً امام حرب محتملة، لمعرفتهم نوع اليد التي تمسك بدفاعهم الوطني! ويا لهذا الملاذ المقدّس حيث يتقرر مصير الوطن وقد تحول الى عُشٍ للحبائك الوضيعة والنميمة والتبديد. يا للرعب امام هذا اليوم الرهيب الذي شهدت فيه قضية درايفوس تلك التضحية الانسانية بشخص تاعس، ب "يهودي قذر"! آه! كل هذا القدر من الجنون والحماقة، والمهاوس الجنونية، والممارسات البوليسية الوضيعة، وأساليب محاكم التفتيش والطغيان، ونشوة بعض ذوي الرتب الذين داسوا الوطن بأحذيتهم وطعنوا صرخة العدالة والحقيقة في حنجرته انطلاقاً من مبرر كاذب ودنس هو مصلحة الدولة العليا! وجريمة ايضاً الاستناد الى صحافة بذيئة، واستدراج الدعم من كل أوغاد باريس، ما جعل السفلة ينتصرون بوقاحة على حساب القانون والنزاهة. وجريمة ايضاً اطلاق تهمة الشغب والحث على الاضطرابات، على اولئك الذين يريدون فرنسا كريمة وفي طليعة الامم الحرة والعادلة، خصوصاً عندما يُدبّرُ الذي يطلق هذه التهم مؤامرة قذرة فرضت حكماً ظالماً على مرأى من العالم بأسره. وانها لجريمة عندما يُضلل الرأي العام ويُستخدم في تنفيذ عملٍ وضيع. وقد تمّ ذلك بعد ان جرى افساد الرأي العام ودفعه الى الهذيان. وجريمة أيضاً تسميم أفكار الناس البسطاء المتواضعين وإثارة مشاعر الرجعية واللاتسامح بالتستر وراء العداء للسامية البشع الذي سيقضي على عظمة فرنسا الليبرالية، فرنسا حقوق الانسان، ما لم تشفَ منه. وجريمة ايضاً استغلال الحسّ الوطني من اجل اعمال حاقدة. واخيراً انها لجريمة ان يُحوّل السيف الى إله حديث في حين تنشغل العلوم الانسانية كلها بمستقبل تسوده الحقيقة والعدالة. سعينا الى هذه الحقيقة والى هذه العدالة بحماس. فيا للحزن ونحن نراها ذليلة واكثر انحساراً وظلامية! ازاء ذلك، كنت اتوقع الانهيار الذي سيصيب حتماً السيد شورير - كتنيير واعتقدت انه سيصل الى الاحساس بالندم لأنه لم يتصرف بطريقة ثورية يوم بحث مجلس الشيوخ القضية، اذ كان عليه ان يفرغ ما في جعبته وان يقلب الطاولة على الجميع. كان رجلاً كبيراً وشريفاً ورجلاً مخلصاً، كالحياة التي امضاها. فقد اعتقد ان الحقيقة تكتفي بذاتها، خصوصاً انه كان يراها ساطعة كواضحة النهار. واعتقد بأنه لا فائدة من قلب كل شيء طالما ان الشمس ستشرق وستسطع بنورها. لقد دفع ثمناً باهظاً لثقته المطقة هذه. وينطبق الامر نفسه على العقيد بيكار الذي امتنع عن نشر رسائل الجنرال غونز، بدافع عالٍ من الاحساس بالكرامة. هذه الضوابط الاخلاقية تشرّفه، خصوصاً انه ظل ملتزم الانضباط العسكري، حتى حين كان رؤساؤه يمرغونه في الوحل، منظمين بأنفسهم محاكمته بطريقة غير متوقعة، ونادرة في اساءتها اليه. هما، اذن، ضحيتان ورجلان شجاعان وقلبان طيبان اتكلا على الله في حين كان الشيطان يتحرك بقوة. لا بل اكثر من ذلك، شهدنا خلال محاكمة بيكار، امراً فظيعاً. فبعد ان اتهم مقرر الجلسة، احد الشهود علناً وحمّله مسؤولية الاخطاء كلها، وحرم الشاهد المعين من الدفاع عن نفسه الى جلسة سرية. وهنا اقول ان هذا العمل جريمة اضافية ستهزّ الضمير العالمي. والواضح ان المحاكم العسكرية تتبنى فكرة عن العدالة فريدة من نوعها. سيدي الرئيس تلك هي إذن الحقيقة ببساطتها. وهي فظيعة وستظل عالقة بحكمك كالدنس، لا أشك أبداً في أنه لا يد لك في هذه القضية وفي أنك حبيس الدستور والمحيطين بك. لكن، لديك واجب الإنسان الذي عليك أن تأخذه بالحسبان وأن تؤديه. لا أقول هذا لأنني يائس من النصر، وسأكرر بقناعة أكثر إصراراً وحدة بأن الحقيقة تتقدم ولن يقوى شيء على اعتراضها. بدأت القضية اليوم فعلاً، لأنه اليوم فقط صارت المواقف واضحة. هناك، من جهة، المذنبون الذين لا يريدون أن يسطع نور الحقيقة، ومن جهة ثانية أنصار العدالة الذين سيضحون بحياتهم لنصرتها. وأردد ما سبق أن قلته في مقال آخر: عندما تدفن الحقيقة، فإنها تتجمع وتختزن من عوامل الانفجار ما يكفي لتدمير كل شيء من حولها متى حانت لحظة انفجارها. وهكذا سيظهر بالضرورة لاحقاً ان أكبر الكوارث دوياً قد تم التحضير له للتوّ. طالت هذه الرسالة يا سيدي الرئيس، وحان وقت الختام. اني اتهم العقيد دوباتي دوكلام بأنه المدبر الشيطاني للخطأ القضائي، من غير وعي - أود تصديق ذلك - ومن ثم الدفاع عن فعلته المؤذية طيلة ثلاث سنوات، من خلال المؤامرات الخرقاء والأكثر اجراماً. اني أتهم الجنرال مرسييه بالتحول إلى متواطئ، أقله بسبب قلة ذكائه في واحدة من أكبر المظالم في هذا القرن. اني اتهم الجنرال بييو بأنه حصل على القرائن المؤكدة على براءة درايفوس ومن ثم كتمها فتحول إلى متواطئ في جريمة ضد الانسانية وضد العدالة، من أجل هدف سياسي لكي ينقذ هيئة الاركان العامة المتواطئة. اني اتهم الجنرال دو بوا ديفر والجنرال غونز بالتواطؤ في الجريمة نفسها. الأول بلا شك بسبب حماسه الاكليروسي وبسبب سيطرة روح التضامن العسكري التي جعلت مكاتب الحرب حصناً مقدساً لا يجوز المساس به. اني اتهم الجنرال دو بولليو والمقدم رافاري باجراء تحقيق فاسد، وأعني بذلك ان هذا التحقيق كان الأكثر فظاعة في فئويته وهذا يظهر تحديداً من خلال تقرير رافاري، وهو آية في جرأته الساذجة. اني اتهم خبراء الخطوط الثلاثة بل أوم وفارينار وكوار بإعداد تقارير كاذبة ومزورة، إلا إذا تبين بعد اخضاعهم لفحص طبي انهم يعانون من ضعف في النظر ومن عجز في قدرتهم على إصدار الاحكام. اني اتهم مكاتب الحرب بأنها نظمت حملة حقيرة في الصحافة، وبصورة خاصة في جريدة "ليكلير" و"ليكو دي باري" لتضليل الرأي العام ولتغطية خطأها. وفي الآخر اتهم مجلس الحرب الأول بانتهاك القانون لاحتجازه متهماً بناء لوثيقة بقيت سرية. واتهم مجلس الحرب الثاني بإصدار أمر لتغطية هذا التجاوز القانوني وارتكابه جريمة قانونية حين برّأ مذنباً بتصميم مسبق. باطلاقي هذه التهم لا أجهل بأني اضع نفسي تحت طائلة البندين 30 و31 من قانون الصحافة الصادر في 29 تموز يوليو 1880 الذي يعاقب التشهير وقد عرضت نفسي لهذا القانون عن سابق تصور وتصميم. أما الاشخاص الذين اتهمهم فإنني لا اعرفهم، ولم ارهم في حياتي، وليس لديّ تجاههم حقد أو ضغينة وليسوا بالنسبة إليّ سوى كيانات ونفوس مفسدة للمجتمع. ان العمل الذي أقوم به هنا ما هو إلا وسيلة ثورية لتسريع اعلان العدالة وتفجير الحقيقة. ولا يدفعني إلى ذلك إلا رغبة واحدة هي الحقيقة الساطعة باسم الانسانية التي عانت كثيراً والتي تستحق السعادة. ان احتجاجي الملتهب ليس إلا صرخة روحي. فليتم اذن تقديمي للمحكمة الجزائية وليجرِ التحقيق في وضح النهار. انا في الانتظار. وتفضل سيدي الرئيس بقبول فائق احترامي". الفريد درايفوس: أحكام من المؤبد... إلى البراءة ولد الفريد درايفوس في مدينة ميلهوس في الألزاس شمال فرنسا في العام 1859 لعائلة ثرية. دخل الجندية وعين ضابطاً في هيئة الأركان العامة برتبة رائد. أوقف في 15 تشرين الأول اكتوبر عام 1894 بتهمة التخابر مع العدو الألماني. وفي كانون الأول ديسمبر 1894 حكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن المؤبد مع تجريده علانية من رتبه ونفيه الى "جزيرة الشيطان". وفي كانون الأول 1897 اكتشف رئيس الاستخبارات الجديد، بيكار، لائحة جديدة، واتجهت الأنظار نحو المقدم استيرازي، واستنتج أنصار درايفوس أن العميل الجديد هو نفسه الذي وقع اللائحة الأولى التي تسببت في ادانة درايفوس. في 11 كانون الثاني يناير 1898 حوكم استيرازي وبُرّئ، ما دفع الروائي أميل زولا الى كتابة مقاله الشهير إني أتهم في 13 كانون الثاني حاملاً على هيئة الأركان، ومن ثم انقسمت فرنسا الى معسكرين، أحدهما ذو غالبية يسارية يؤيد درايفوس، والثاني ذو غالبية يمينية يدافع عن الجيش. أدى الصراع بين الطرفين الى إعادة المحاكمة في أيلول سبتمبر 1899، وانتهت المحاكمة التي جرت في مدينة رين بادانة درايفوس مرة أخرى، لكن، مع منحه الأسباب التخفيفية والحكم عليه بالسجن 10 سنوات. وبعد أيام من صدور الحكم، استخدم رئيس الجمهورية الجديد لوبيه صلاحياته الدستورية واصدر عفواً عن المتهم. وظلت القضية تتفاعل حتى عام 1906 عندما أصدرت محكمة التمييز في باريس حكماً بالغاء الحكم الأساسي، وأعيد درايفوس الى الجيش ومنح وسام شرف. ومنذ ذلك الحين ظل بعيداً عن الأضواء الى أن توفي في العام 1935، في حين هرب استيرازي الى الخارج. إميل زولا : الروائي يتدخل في الشأن العام ولد الروائي الفرنسي الشهير إميل زولا عام 1840 في مدينة إكس إن برفانس.انتقل في الثامنة عشرة من عمره الى باريس حيث عمل موظفاً في دار "هاشيت" للنشر ومن الوظيفة بدأ يُطل على الصحافة ويكتب مقالات ودراسات نقدية في "الفيغارو" وال "غولوا" وال "إيفينمان". . اعتمد التحقيقات الميدانية في أعماله الأدبية فجاءت رواياته معبّرة عن أحوال اجتماعية محددة. وفضلاً عن الرواية ساهم في المسرح. ومن أعماله المعروفة رواية "جيرمينال" الشهيرة و"الرواية التجريبية" و"ادوار مانيه" و"الاناجيل الأربعة"... الخ. في مقالته "إني أتهم" اكتسب شهرة واسعة واعتبرت المقالة محطة تأسيسية في تدخل المثقف الفرنسي في الشؤون العامة والالتزام بها، وبالتالي الخروج، كلما يقتضي الأمر، عن نطاق عمله كروائي أو ككاتب. تعرض زولا للمحاكمة إثر مقالته المذكورة، وصدر الحكم بسجنه مدة سنة، فنفى نفسه الى لندن، وتوفي عام 1902 قبل أن يعاد الاعتبار تماماً الى الضابط درايفوس.