من جديد في هذه الأيام ولمناسبة اندلاع جملة الأحداث التي يعيشها العالم العربي منذ فترة تارة تحت مسمّ «الربيع العربي» وتارة تحت سمة حروب أهلية ومساع للتبديل في عمق أعماق الأمور، تعود إلى الواجهة من خلال المقالات التي يحبرها عدد كبير من الكتّاب والمثقفين العرب وغير العرب، كلام كبير يرتبط بخاصة بقضية «مسؤولية المثقف» في «عالم مليء بالظلم» لا يجب «السكوت عما يحدث فيه». في مثل هذا العالم ثمة تساؤل: من يكون اجدر من المثقف برفع الصوت عالياً، مستخدماً سلطته المعنوية ومكانته لدى القراء، والجمهور عموماً، من اجل الدفاع عن العدالة، وعن المظلومين بشكل عام؟ ومن بين الأسماء التي تطرح للمناسبة، وكثر الحديث عنها، جان- بول سارتر، الذي أمضى القسم الأكبر من حياته، وكرس قسماً كبيراً من كتاباته، للدفاع عن قضايا كان يراها عادلة وتستحق الدفاع عنها، فبلغ من مكانته في هذا الشأن أن كان كثر يقولون: «إننا نفضل أن نكون على خطأ مع سارتر، من أن نكون على صواب مع ريمون آرون» (في إشارة إلى التنافس الفكري الذي دام طويلاً بين سارتر «اليساري» وريمون آرون، المفكر الفرنسي «اليميني»، معاصر سارتر). وكان هناك أيضاً اسم اميل زولا، احد كبار الروائيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر. وبالنسبة إلى زولا، إذا كان صحيحاً أن العدد الأكبر من رواياته حمل طابعاً اجتماعياً/أخلاقياً، لا شك فيه، وبعضه اعتبر اقرب إلى أن يكون بياناً في العدالة والظلم الاجتماعيين، اكثر منه عملاً أدبياً خالصاً، فإن نصّ زولا، الذي أعاده إلى الواجهة، لم يكن نصاً روائياً، بل بالتحديد مقالاً سياسياً مسهباً نشره في صحيفة «لورور» أواخر القرن التاسع عشر في عنوان «إني اتهم»، وهو المقال الذي نشر وترجم عشرات المرات وإلى شتى اللغات، واستخدم دائماً كتعبير عن صرخة المثقف الغاضبة حين يلاحظ الظلم مستشرياً من حوله. و»إني اتهم» نص نشره زولا في الصفحة الأولى في تلك الصحيفة، في 13 كانون الثاني (يناير) 1898، قبل رحيله بسنوات قليلة، في معرض تدخّله الحاسم والصاخب في القضية التي عرفت باسم «قضية درايفوس»، والتي كانت عند نهاية ذلك القرن، باعثة لنزعة معاداة السامية في فرنسا وأوروبا، كاشفة عما هو خبيء في أعماق الجمهور هناك، وعند ذاك، من مشاعر معادية لليهود. وكانت تلك القضية واحدة من الخلفيات التي استند إليها الصحافي النمسوي ثيودور هرتزل لبعث فكرة الدولة اليهودية، التي أدت لاحقاً إلى ولادة إسرائيل، على حساب الشعب الفلسطيني. كل هذا أتى لاحقاً، أما حين كتب زولا نصه الشهير، فإن المسألة كانت فرنسية داخلية حركت قلم صاحب «جرمينال» وعواطفه، ولكن ليس انطلاقاً من المحاكمة الظالمة التي تعرض إليها درايفوس، بل بالتحديد انطلاقاً من المحاكمة الأخرى الملحقة بتلك والتي برّأ فيها «المجلس الحربي» الضابط الكاثوليكي استرهازي بعدما كانت القرائن الثابتة كلها تؤكد انه هو المتورط في التجسس لحساب الألمان، وليس درايفوس الذي كان اتهم بذلك وحوكم وحكم عليه، قبل أن يثبت تورط استرهازي. لكن «المجلس الحربي» بدلاً من تبرئة درايفوس، والحكم على استرهازي، فعل العكس تماماً، فما كان من المثقفين إلا أن رأوا أن الكيل قد طفح، وطلبوا من زولا دعمهم، فسارع إلى ذلك عبر كتابة ذلك النص الذي، كما سنرى، كلفه غالياً في أخريات أيامه. وفي عودة موجزة إلى قضية درايفوس نذكر أن الحكاية بدأت، أيام حكم يميني في فرنسا، حين وردت إلى القيادة العسكرية رسالة غفل مرفقة بوثيقة تقول الرسالة إن الضابط اليهودي درايفوس بعث بها إلى القيادة الألمانية ويفضح فيها أسراراً عسكرية فرنسية خطيرة. يومها رأت المحكمة أن الخطّ الذي كتب الوثيقة هو خط درايفوس فاعتقل الضابط وحوكم لتنقسم فرنسا، في شأنه، بين يسار يدافع عنه، ويمين يدينه. في النهاية، خلال تلك المرحلة الأولى حكم على درايفوس ونفي إلى «جزيرة الشيطان». ولكن في العام 1896 تبين لضابط الاستخبارات الكولونيل بيكار، أن كاتب الوثيقة ليس درايفوس بل استرهازي، فطلب إعادة المحاكمة. وهنا بدأت حملة تغذّيها مشاعر العداء للسامية وشتى ضروب التهديد والوعيد، من اجل منع إعادة المحاكمة، وزاد انقسام فرنسا. وراح الحزب الاشتراكي المعارض ينظم حملات شارك فيها عدد كبير من المثقفين. وحين جرت محاكمة استرهازي أخيراً، عمد المجلس الحربي إلى تبرئته على رغم كل القرائن الدامغة، وهنا كان تدخل زولا، عبر تلك الرسالة التي سرعان ما اشتهرت، وصارت عنواناً على دور المثقف. في مقالته «إني اتهم» لم يوفر زولا أحداً من خصوم درايفوس. فالمقال الذي نشر في شكل رسالة مفتوحة موجهة إلى رئيس الجمهورية، آنذاك، فليكس فور، حمل مقاطع عدة، يبدأ كل منها بعبارة «إني اتهم...» تحمل أقسى أنواع الهجوم على السياسيين اليمينيين وعلى العسكريين، وعلى القضاء المرتشي، وعلى فئات من الجمهور، وعلى مثقفين يمينيين وقفوا موقف العداء من درايفوس، وعلى قطاع من الكنيسة. وكان في هذا ما يكفي لتقديم زولا إلى المحاكمة. ليس مرة واحدة بل ثلاث مرات، وتشكلت لجان من المثقفين والسياسيين الاشتراكيين لمساندته. وهو لئن كان برّئ مرات عدة، فإنه في النهاية اضطر للهرب إلى إنكلترا، ليعيش تسعة اشهر في المنفى، ريثما تتغير الأوضاع السياسية. صحيح أن محاكمة درايفوس أعيدت لاحقاً وبرّئ الرجل، بل أعيد إلى رتبته العسكرية، لكن زولا لم يعش ليشهد ذلك، إذ انه مات بعد فترة من عودته (في العام 1902) محترقاً في بيته في ظروف ظل الغموض يحيط بها حتى الآن. ولئن كان زولا قد مات، فإنه لم يمت إلا بعدما دفع الثمن: حرم من دخول الأكاديمية الفرنسية. راحت الرقابة تضايق كتبه، وحتى في لندن حوكم ناشره، وابتعد عنه بعض أقرب أصدقائه، من أمثال بول بورجيه وفرانسوا كوبيه، من الذين وقفوا ضد درايفوس. لكن زولا ظل حتى أيامه الأخيرة، فخوراً بما فعل. ولسوف يقول كاتبو سيرة حياته لاحقاً إنه إنما كان يشعر انه بذلك قد عوض على «زلات» سياسية طبعت بعض آخر الروايات التي كتبها قبل إثارة القضية وكتابته «إني اتهم». وهذه الحكاية الأخيرة يمكن تلخيصها كما يلي: «بعدما عبّر اميل زولا في عدد كبير من رواياته، لا سيما في رائعته «جرمينال» عن حس تقدمي واشتراكي أكيد جعله يصنف في خانة الجمهوريين اليساريين، حاول أن يعدّل موقفه في عملين، على الأقل، هما «الأرض» (1887) و»الهزيمة» (1892)... إذ انه في هذين العملين وسم شخصيات اشتراكية روائية من ابتداعه مثل كانون في الأولى، وشاتو في الثانية، بسمات كريهة. وكان ذلك من الوضوح بحيث أن النقاد الذي ساندوا زولا طويلاً راحوا ينددون به، وابتعد عنه كتاب يساريون وعاتبه جورج كليمنصو. وبدأت الحياة الأدبية تتساءل عما إذا لم يكن زولا قد صار يمينياً، معبّراً عن مواقف ضد الكومونة، عبر مثل تلك الشخصيات. ويبدو انه إذ ندم على ذلك، جاءته قضية درايفوس على مقاسه تماماً، إذ سارع إلى التقاطها كاتباً تلك «الرسالة» التي أدخلته التاريخ من أوسع أبوابه. ولم تكن الوحيدة، بل نعرف أنه، هو الذي، وبعدما رسم لائحة «الاتهامات» فيها مطالباً «السيد الرئيس» والمعنيين بالتحرك من اجل العدل وضمنها عبارة «وإنني انتظر»، أتبعها بعد أيام برسالة أخرى نشرها أيضاً في «الأورور»، استعاد فيها الاتهامات نفسها، بادئاً كل فقرة هذه المرة بعبارة «قلت: إني اتهم»... وفي المرتين كان تركيزه على مكانة فرنسا وشرفها. وهو طوال المحاكمة التي أعقبت ذلك، ظل هادئاً، تاركاً للجان المثقفين التي تشكلت للدفاع عنه مهمة الصخب ورفع الصوت. لكنه، في مرة واحدة، وإذ أثارته مواقف الجنرال «دي بليو» المليئة بالعنجهية والمغالطة، وقف ليصيح تلك الصيحة التي وضعت المثقف لحظتها في مكانه الصحيح إذ قال: «إن هناك طرقاً عدة لخدمة فرنسا، ويمكن خدمتها بالسيف ولكن كذلك بالقلم. وما لا شك فيه إن السيد الجنرال دي بليو حقق انتصارات كثيرة، لكني أنا أيضاً حققت انتصاراتي. إذ بفضل أعمالي وصلت اللغة الفرنسية إلى العالم كله. اجل أنا أيضاً حققت انتصاراتي. لذلك سأترك للخلف اسم الجنرال دي بليو، واسم اميل زولا، وهو الذي سوف يختار». ولكأن اميل زولا (1840- 1902) صاحب الروايات الواقعية والطبيعية الكبرى التي هيمنت على الحياة الأدبية الفرنسية وأسست تيارات، وابتكرت مئات الشخصيات والمواقف، شاء أن «يرد» مواربة على شاعرنا العربي القائل: «السيف أصدق إنباء من الكتب/ في حده الحد بين الجد واللعب». [email protected]