في سياق سردي واقعي يتحوّل في الصفحات الاخيرة الى فضاء كابوسي إيهامي تتواشج فيه صور اليقظة وصور الهذيان، ويخلط بين إحساسات البطل الباطنية ورؤيته الخارجية. يسعى عوض شعبان في روايته الجديدة "زمن التفسخ"* الى استحضار الآلية الاجتماعية والسياسية والثقافية التي كانت تتحكّم بمفاصل المجتمع اللبناني قبل الحرب الاهلية. وهذه الآلية التي أفضت الى اقتتال اللبنانيين واستدرجت الفلسطينيين، دفعت بمفارقاتها واحتقاناتها المحتبسة بطله جوزف الذي حاول ان يجذّف ضد التيار، الى التردي في هاوية الجنون في اليوم ذاته الذي اندلعت فيه حرب لبنان. وعبّر بجنونه هذا عن انكفاء الذات إزاء خيباتها واخفاقاتها لائذةً في الصفحات الختامية بكتابة منعتقة من قوانين السرد التقليدي ومواضعاته الثابتة. ولا تعدم هذه العلاقة التزامنية بين الجنون والحرب. وبين تحولات الذات ومصيرها الشخصي من جهة، ومصير الجماعة والبلد من جهة اخرى، دلالة وعبرة. وكما كان ابطال المأساة الكلاسيكية يسقطون تحت وطأة القدر الصارم. كذلك يسقط جوزف ضحية طهرانيته الثورية. وضحية افكاره التنويرية اللاطائفية المتصادمة مع فضاء عدائي لا تواصلي. وجوزف هذا يستعيده عوض شعبان ثانية من روايته القديمة "الدروب المتقاطعة" ويستعيد علاقته بفاطمة وبحي المسلخ. بيد ان القاص ها هنا يقدم بطلاً اكثر امتلاء من ذي قبل. وجوزف يشكّل في ذاته معادلة صعبة لانها معادلة مثالية تحاول احتواء كل التناقضات اللبنانية - اللبنانية واللبنانية - الفلسطينية والفلسطينية - الفلسطينية. وانهياره العصبي ليس الا ثمرة مريرة لإخفاقه في حل التناقض، وفي بحثه اللامجدي عن المصالحة المستحيلة بين العام والخاص، وبين الفكرة والممارسة، والواقع والمرتجى. وفي دأبه لاكتشاف من يماثله بسجاياه الاخلاقية وافكاره التنويرية، يقع جوزف على الفلسطيني فايز الذي يقضي هو الآخر ضحية نقائه الثوري وتفانيه في سبيل القضية. فهذا الخدين ينبذ التجاوزات التي يقترفها الفلسطينيون، ويميز بين قتال العدو على الحدود والتناحر الاهلي في الداخل. في الاول تصيب الرصاصة هدفها. وفي الثاني تنحرف الى القلب. فايز في المساحة النورانية من الثورة. الآخرون في المساحة المظلمة والخاطئة. وبموت فايز يظل في ذهن جوزف رمزاً ناصعاً لتطهّر الثورة الفلسطينية من امراضها ومثالبها وانحرافاتها وميولها الاستعراضية. وجوزف بطل إشكالي ذو حساسية اخلاقية، وعلى قدر عميق من الثقافة. فهو مدرس سابق كما كان في "الدروب المتقاطعة". وهو صحافي وكاتب روائي. والثقافة بوصلته ومرجعه في الاهتداء الى فضائه الاجتماعي والسياسي المتنافر الاذواق والميول والثقافات. عمله في الصحافة أتاح له التعرف عن كثب على خفايا السياسة اللبنانية. وعلى عقدة الصراعات بين الطوائف والاحزاب، والتفاوت الطبقي والمناطقي. ومنحه انضواؤه في صفوف المقاومة إمكانية الاطلاع على تكتيكاتها السياسية والحربية ونقاط ضعفها ونوعية قادتها وسلوكياتهم وأمزجتهم. والبطل الاشكالي بما ينطوي على شحنات ايجابية وشحنات سلبية، يخدم جوهر الشخصية الروائية، والكتابة السردية المبنية ها هنا على التقاطع الحاد بين الطهرانية الفردية والضمير الاخلاقي، من جهة. والنزعة الماركنتيلية والبراغماتية والإسفاف الاخلاقي والانحطاط السياسي الذي ساد لبنان آنذاك، من جهة اخرى. وتتفاقم حدة النزاع في قلب البطل الإشكالي جوزف عندما يضعه القاص في مطلع الرواية على تماس مع "تابوهات" الطوائف ومحظوراتها ومحرماتها فيتعذر عليه الاقتران بحبيبته فاطمة. وفاطمة هذه إن حجبتها عنه التقاليد، الا انها ما تنفك تراود مخيلته بين الفينة والاخرى طيفاً نورانياً. وبمثولها الدائم في نفسه تزيد من أوار ثورته الدفينة. وماري التي حلت محل فاطمة فاقمت من إحباطه وخيبته وبلوغه حافة الجنون. يُبعده عن الأولى عمق التقاليد والاعراف ورسوخها في الافئدة والنفوس. ويدنيه من الثانية الإخفاق السياسي واستحالة التغيير. ومحاولة الانصياع القسري الى الأمر الواقع. بالتحام المصيرين الشخصي والوطني، والفضاءين الداخلي والخارجي يردّنا عوض شعبان عبر سيرة جوزف البطل - الراوي الذي يحيط بفضاء الرواية وأحداثها العظيمة والضئيلة. الى لبنان ما قبل الحرب. كما فعل من قبل في رواياته، وكما يفعل عادة الروائيون اللبنانيون والعرب عندما يتحدثون عن هذه الحقبة التي سبقت الحرب الاهلية لكونها خلفية ملائمة لاكتشاف التحولات المتفجرة والمنذرة بالحرب. القاص يحدّق إذن عبر راويه بكل ما وعته الذاكرة والعين من لبنان الذي كان يختنق بتناقضاته. بايقاعه اليومي المألوف بدءاً من أطباق الطعام وأنواع المشروبات واسماء الافلام والاغاني، مروراً بطرق الكسب المتعددة والمعايير النفعية والفساد الإداري والرشاوى والمداخلات وعمليات التهريب. انتهاء بالخصومات السياسية والايديولوجية والطروحات اليمينية واليسارية والمساجلات الصحافية والعراضات العسكرية وعمليات المقاومة. وغير ذلك مما يعكس تيار الحياة اللبنانية بما هو زمن المغايرة ومسرح الاختلاط والمفارقات والتحولات. ازاء هذا الفضاء المتشنّج تتكاثف النُذر السوداء. ونستشعر بما يكتنف البطل من التباسات ومفارقات. يجلو القاص بعضها عبر اسلوب يحذو حذو الهجاء الاجتماعي ذي المسحة التهكمية الساخرة كأن يغضب القائد الفلسطيني على جوزف فيطرده من دارته الانيقة ويُطلق في إثره كلاب الحراسة. ومن خلال حركة قصصية ذات منحى زمني تعاقبي يبلغ ذروته في الصفحات الاخيرة، وتدل على سياقه السردي المتدرّج عناوين الفصول الرمزية: صراع السهل والجبل، الصعود، الانحدار. نشعر بوطأة الكارثة وهي تطبق على الوطن، وعلى البطل النبيل والمثالي الذي يزداد استلابه لعجزه عن تغيير قوانين اللعبة السياسية والاجتماعية المتجذّرة في أحشاء المجتمع والواقع. وإذ يرى الى الكتابة في آلياتها ومدلولاتها الظاهرة والمحتجبة شكلاً من اشكال التعويض عن القصور الفعلي، وموئلاً لاحتراف الحلم، يلوذ بأوراقه "خالقاً وطناً آخر تنتفي منه المظالم المتجلببة بأسمال الامتيازات الطبقية والعائلية والطائفية، وتسوده الإلفة والمساواة والمحبة... عالماً يُزال منه القهر، بتمرد الضعفاء على الاقوياء، والفقراء على الاغنياء والضمائر الحية على الأحاسيس الميتة..."،. الراوي - الكاتب هو الصوت الداخلي للقاص وترجيع لافكاره. فالاخير يرسم عبر الاول لوحة نقدية عامة لمثقفي البلد وادبائه ولأساليبهم في النقد والكتابة القصصية والشعرية، ويقدح في قصيدة النثر والقصيدة الالكترونية وتيار الرواية الحديثة أو رواية الاشياء. ويؤثر العودة الى ينابيع الواقعية، الى الاصل والأرومة، بدل المغالاة في تقاليد الغربيين واحتذاء طرائقهم وأساليبهم. "ينبغي العودة الى الجذور. الى الينابيع. على الانسان العربي ان يغرف من تراثه المكوّن لشخصيته، وان يستوحي الواقع في ما يكتب ويبدع". والى أنماط الكتابة السائدة، ينتقد الضحالة الفكرية لدى أساتذة الجامعة، والنسيج الثقافي اللبناني غير المتجانس. ورواية "زمن التفسخ" بما يحمل عنوانها من إيحاء أخلاقي، هي رواية قريبة من "رواية الفكرة او الأطروحة" "Roman a these" التي تفصح عن خلفية القاص وعن أطروحته أو أطروحاته الفكرية والاجتماعية والسياسية. ولا يدل هذا على ان "زمن التفسخ" لا تأبه لسيرورة الاحداث. أو تحيل على الواقع وتحاكيه وتكشف عن دلالاته المباشرة. ولا انها تجيب على قلق ميتافيزيقي أو فكرة خيالية. إنما الغالب ان تكون الاحداث والوقائع التي تبسطها على ما فيها من صدق أو حضور شهودي كثيف، قرائن أو نقاط ارتكاز لهذه الافكار. ومتكأً لتوليدها وانتشارها عبر صفحات الرواية. فجوزف بطل شعبان يختبر الواقع او يتصرف وفق قراءاته. القراءة - البوصلة، فهو لم يؤمن بالقضية الفلسطينية الا بعد ان قرأ عنها في السجن. ولم ينضوِ تحت رايتها، أو يخض الحرب في صفوفها الا تمثّلاً بكتابات شعراء وادباء وقادة، مثل اندريه مالرو ونيرودا ولوركا، مكسيم غوركي وجاك لندن وارنستو تشي غيفارا وخوان بيرون وسواهم. وهو يستشف العالم عبر مرجعيته الادبية. بل ينزلق في نهاية المطاف الى ان يخلط ما بين الكلمات والاشياء، وما بين المتخيل والواقعي. وإذ يستوحي أبجدية الثقافة ويحمل سيفها في صراعه غير المتكافىء، يبدو دونكيشوتياً يحارب طواحين الهواء، ويطارد خيالات فرسان غير منظورين. صدرت الرواية عن دار العلم للملايين بيروت - 1997.