سيرة ذاتية ثانية الجزء الثالث 21 هناك حوادث مرت بحياتي كشاعر، غيرت مساري تغييراً جذرياً، وقلبت خرائطي واختياراتي. وثمة أشخاص قابلتهم بالمصادفة، شعرت أنهم مرسلون من عالمٍ آخر، جاؤوا ليبلغوني أمراً... أو رسالة... ثم يختفون... وثمة مدنٌ دخلتُها وأنا خالي البال، وخرجتُ منها وثيابي تشتعل بنار العشق، وأوراقي وحقائبي حبلى بالقصائد، وقلبي أكواريوم من السمك الملون. وفي هذه الأوراق سأقول كل ما عندي، عن القصص الغريبة التي عشتُها، والأشخاص الغامضين الذين التقيتهم، والمدن السحرية التي دخلتُ إليها كسائح، وخرجتُ منها على صورة عصفور... أو قوس قُزَحْ... 22 هذه الحكايات كانت مطمورةً في قعر الذاكرة... ومغطاة بحشيش البحر... وقد قررتُ أن أعوّمَها كأية باخرة غارقة، وأستعيد ما كان عليها من كتب، وأوراق، ودفاتر مذكرات، وجوازات سفر... وأمتعة... قبل ان تأكلها الأسماك... إنها قصصٌ واقعية بكل معنى الكلمة، وأنا أقصّها عليكم كما جرت تماماً أي بدون أي روتشة... أو تكحيل أو تجميل. وأنا إذ أقوم بدور الراوي لهذه الحكايات، فإنني لا أفعل ذلك من باب النرجسية والاستعراضية، ولكنني أقوم بذلك لتقديم شهادات إضافية عن الشعر، وعن العلاقة التي تصل الى حدود الكهانة والسحر، بين الشاعر العربي المخلوق من صلصالٍ وطين، وبين جمهورٍ عربي يُصرّ على اعتباره من جنس الملائكة الذين لا يأكلون... ولا يشربون... ولا يقربون النساء... 32 عام 1954 في لندن، كان عام الرياح والزوابع والالتحام بالسلاح الأبيض مع الأوساط الأدبية والدينية، والسياسية، والبرلمانية. والمعارك الطاحنة التي دخلتُها، لم تكن بسبب داحس أو الغبراء... أو بسبب الاختلاف على ناقة، أو نبع ماء... ولكنها كانت بسبب قصيدة عنوانها: خبز... وحشيش... وقمر... أقامت الدنيا كلها فوق رأسي... ولم تقعدها... أرسلت القصيدة من لندن الى صديقي الدكتور سهيل ادريس، صاحب مجلة الآداب اللبنانية المعروفة بخطها القومي والتحرري. وكنتُ آنئذ أعمل ديبلوماسياً في السفارة السورية في لندن. لم يعترض سهيل على القصيدة، ولم يتخوف منها، بل نشرها افتتاحية في مجلته، كما كان ينشر كل ما أرسله إليه من قصائد حب لا تخلو من الجرأة، والاقتحام، والبهارات الجمالية والجنسية. ولكن ما أن صدرت الآداب حتى قُرعت أجراس الخطر، في كل عواصم العالم العربي، وطالب المتزمتون بشنقي، وطردي من وزارة الخارجية السورية، لأنني حسب اجتهادهم، خنتُ بلادي، وانحرفت عن عقيدتي، وأصبحت عميلاً للانتلجانس سيرفيس، لأنني ألصقت على غلاف رسالتي المرسلة الى الآداب... طابعاً بريطانياً... هكذا بكل بساطة أصبحتُ عميلاً، لأنني هاجمت الكسالى، والمسطولين، وآكلي القضامة والبزر... وراقصي الزار... والدروايش... 24 القصيدة - الإثم، أو القصيدة - الجريمة، أوصلتني الى المجلس النيابي السوري، وهي سابقةٌ لم تحدث في أي برلمان من برلمانات العالم، فانبرى استاذنا الشيخ مصطفى الزرقا، النائب عن جماعة الإخوان المسلمين، بتقديم استجوابٍ عنيف لوزير الخارجية آنئذ الاستاذ خالد العظم، طالباً منه إحالتي الى اللجنة التأديبية، وطردي من وزارة الخارجية. وتأييداً لأقواله، قام النائب الزرقا، بتلاوة القصيدة على النواب. وكان لحسن حظي، فصيح اللسان، رائع الإلقاء، فما ان انتهى من تلاوة القصيدة، حتى انفجرت قاعة مجلس النواب، وشرفة المتفرجين ورجال الصحافة بالتصفيق... فعاد النائب والعَرق يتصبب من جبينه، الى مقعده... مخذولاً... ومحبطاً... وباظ الاستجوابْ!!... في اليوم التالي لجلسة الاستجواب، قام النواب الأصوليون بزيارة الرئيس خالد العظم في مكتبه بوزارة الخارجية، وأثاروا قضية القصيدة مرةً أخرى، مطالبين بإحالتي على اللجنة التأديبية للوزارة. فاستمهلهم الرئيس العظم قليلاً حتى يقرأ ملفي الوظيفي الذي حمله إليه الأمين العام لوزارة الخارجية. وعندما انتهى الرئيس العظم من قراءة ملفي، قال لهم: - يا حضرات النواب الأعزاء: أحبّ أن أصارحكم أن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران... نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أما نزار قباني الموظف، فملفه الوظيفي أمامي، وهو ملف جيد، ويثبت انه من خيرة موظفي هذه الوزارة... أما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه... ولا على شعره... فإذا كنتم تقولون انه هجاكم بقصيدة... فيمكنكم ان تهجوه بقصيدةٍ مضادة... وكفى الله المؤمنين شر القتال!!... وانتهت المقابلة... وخرج الشعر منتصراً... رحم الله دولة الرئيس خالد العظم. 25 وحتى تكتمل أطراف الحكاية حول قصيدتي خبز وحشيش وقمر. أود ان أنّوه بموقف كبير آخر لسفير سورية آنذاك في لندن الأستاذ فايز الخوري، وهو عالم من علماء القانون، واللغة، ومن رجالات سورية المرموقين في فترة النضال الوطني. شكوتُ له ذات صباح، هذه الهجمة الشرسة التي أتعرض لها من الصحافة العربية، وهذه الإشاعات والأكاذيب التي يختلقونها حولي وحول القصيدة، فطلب لي السفير فنجاناً من القهوة، ومدّ يده الى جارور مكتبه، وأخرج دفتر شيكاته... وقال: - يا عزيزي نزار: إذا كنت متضايقاً مما يقال عن القصيدة، وتريد ان تتخلص منها، فأنا فايز الخوري مستعد ان اشتريها فوراً. فحدد المبلغ الذي تريده، وسوف أوقع لك شكاً بالمبلغ الذي تريده... على شرط ان تضع اسمي تحت القصيدة!!. فهدئ أعصابك يا نزار، وثق ان جميع هذه الأصوات النشاز التي تهاجمك سوف تطحنها عجلات الأيام، ولن يبقى في خزانة التاريخ سوى أنت... وقصيدتك... أخجلتني كلمات السفير، فكفكفت دموعي، وخرجت من مكتبه وأنا على قامة... وأكثر كبرياء. - لأسباب فنية تنشر اليوم الصفحة المتضمنة مقالة نزار قباني بدل نشرها امس الجمعة كالعادة.فاقتضى التنويه.