قد يكون بديهياً ان مجرّد القيام بنقل وترجمة نصوص فرنسية لطه حسين الى العربية، لهو عمل ينطوي بالضرورة على قيمة مزدوجة في أقل تقدير. وهذا بالضبط ما نشعر به لدى قراءة الطبعة الثانية من كتاب "طه حسين، من الشاطى الآخر. كتابات طه حسين الفرنسية"، وهي كتابات جمعها وترجمها وعلّق عليها الباحث المصري عبدالرشيد الصادق محمودي الذي يعمل في القسم الثقافي في "اليونيسكو" في باريس. والطبعة الثانية هذه صدرت منذ فترة وجيزة في القاهرة ضمن سلسلة "كتاب الهلال" المعروفة، وكانت الأولى صدرت في بيروت عام 1990. غير ان بين الطبعتين فوارق هي التي استدعت على الأرجح اعادة الطباعة والنشر. والفوارق هذه لا تقتصر على التنقيحات والتصويبات واضافات بعض الحواشي، إذ ان الطبعة الجديدة تضمنت باباً جديداً انطوى على ترجمة لمحاضرتين ألقاهما طه حسين بالفرنسية. وكان طبيعياً آن يخبرنا المترجم شيئاً عن حيثيات ومبررات هذه الاضافة في تقديمه للطبعة الجديدة. وها هنا نقع على اشارات وملاحظات تطاول وجوهاً مقيتة وقبيحة من أحوال النشر والترجمة والتوثيق في العالم العربي. فالمترجم يعلمنا ان المحاضرة الأولى هي عبارة عن ملخص بالايطالية نشرته مجلة "اورينتي موديرنو" عام 1948 عن محاضرة ألقاها طه حسين في القاهرة بالفرنسية وتناول فيها التأثير الايجابي الذي احدثه المستشرقون الايطاليون في عقول النخبة المصرية المثقفة. وقد يكون طه حسين لم يكتب نصاً بل ارتجل كلمة عن الموضوع. تبدو صعوبات التوثيق، ها هنا، محض اجرائية. غير ان الوضع مختلف تماماً في ما يتعلق بالمحاضرة الثانية التي ألقاها طه حسين في المركز الجامعي للبحر المتوسط في مدينة نيس الفرنسية عام 1950 وكان آنذاك وزيراً للمعارف العمومية، وجعل محاضرته تدور على العلاقات بين فرنسا ومصر، وتقع المحاضرة في 17 صفحة. نقول بأن الوضع مختلف لأن المترجم محمودي يخبرنا مشكوراً في تقديمه الجديد بأنه سبق للدكتور حامد طاهر ان نقل المحاضرة المذكورة الى العربية. ويخبرنا كذلك بأن ثمة سببين دفعاه الى اعادة الترجمة: "أولهما كثرة الأخطاء اللغوية التي وقع فيها"، اما السبب الثاني، وهذا ما يهمنا أكثر، فهو انه، أي المترجم الأول طاهر "أجاز لنفسه ان يختصرها على نحو يشوهها وينحرف بها عن مقاصدها. فقد حذف عدّة فقرات هامة من مقدمة المحاضرة ومن خاتمتها. وليس صحيحاً ما يقوله من انه لم يغفل إلا فقرتين في مقدمة المحاضرة تمتلئان بمجاملة المحاضر لمستقبليه. فمن الفقرات المحذوفة فقرة هامة تشير الى بول فاليري، وقد استعان بها الدكتور حامد طاهر في تقديم محاضرة طه حسين وشرح خلفيتها التاريخية". ولكن ثمة ما هو أدهى وأنكى في "بقية الفقرات المحذوفة"، بحسب ما يخبرنا المترجم محمودي. إذ انها "تتضمن تحية للملك فاروق وأبيه الملك فؤاد، كما تتضمن تأكيداً على دور محمد علي ودور فرنسا في بناء مصر الحديثة. ويبدو ان هذه الآراء لم ترق للدكتور حامد طاهر فقرر ان يتخلص منها. ولكن من الواضح انها تتسق مع مواقف طه حسين المعروفة كما عبر عنها في مناسبات أخر وأنها تدخل في صلب محاضرته. فهو يحاول ان يثبت فيها ان الفضل في احداث النهضة المصرية الحديثة يرجع الى ثلاث قوى: محمد علي والشعب المصري والذكاء الفرنسي منذ ان وفد الى مصر مع حملة نابليون. وليس من قبيل المصادفة ان طه حسين قد جعل عنوان محاضرته "فرنسا ومصر" وليس "بناء مصر الحديثة" وفقاً لترجمة الدكتور حامد طاهر". ان أقل ما يمكننا ان نقول عن دواعي "وتقنيات" الحذف المشار اليه هو انها صادرة عن الهوى وعن نزوع الى مصادرة عقول وتمثيلات وأفكار السابقين وجعلها تتطابق كرهاً وقسراً مع مشارب وآراء واعتقادات اللاحقين، حتى وإن كانت صفة المعاصرة تجمع بين السابقين واللاحقين هؤلاء. وعندما نضيف الى ذلك ملاحظة المترجم محمودي، في سياق آخر، للقول بأن "ما يسمى بالمجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين بيروت ليست كاملة لا كماً ولا كيفاً". وعندما نضيف ملاحظتنا، نحن هذه المرة، بأن عدداً من المجلدات المطبوعة والمنشورة والحاملة عنوان "الأعمال الكاملة" ليست كاملة على الاطلاق. وهذه هي حال الأعمال "الكاملة" لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، على سبيل المثال لا الحصر، والتي اعدها الباحث المصري محمد عمارة، عندما نضيف هذه الملاحظات الى بعضها البعض، يتولد من ذلك انطباع سيء، في أقل تقدير، عن أحوال النشر والتوثيق الزاعمين الاحاطة التاريخية بأعمال أسلافنا القريبي العهد. ولو كانت نواقص النشر والجمع والتحقيق والتبويب تعود فقط الى صعوبات اجرائية وتقنية، وهي جائزة وحقيقية، لما كان لنا ان نعترض على طرائق التوثيق التاريخية ومجازفاته. والحال ان معظم دواعي الحذف والتبويب المشوّه تعود، بعد البحث والتدقيق، الى أهواء الاستيلاء على وجوه بارزة من "تاريخية" المفكرين والكتّاب السابقين، وتحفل بمقادير من الاعتباط والتعسف وضيق النظر. وهذه أمور من شأنها ان تتحول، في البلدان التي تحترم "مادة" تاريخها، الى قضايا تنظر فيها المحاكم. ونحسب ان الباحث والمترجم محمودي والمتخصص في طه حسين، على ما يبدو، قد سعى الى اعادة الاعتبار الى الجانب التوثيقي المنزه عن أغراض الاستنطاق الايديولوجي، والى ترجيح معايير العقل والنزاهة في مجال الاحاطة الموثقة بأعمال وكتابات عميد الأدب العربي، بغض النظر عن تأويلاتنا وأحكامنا على أفكاره ونوازعه. وعندما قلنا في مطلع هذه المقالة ان ترجمة كتابات طه حسين من الفرنسية الى العربية تنطوي على قيمة مزدوجة، فإننا نعني التدليل على القيمة الأولى لهذا العمل، وهي بالضبط توثيقية. ويدخل في هذا الباب أمور تتعلق بالوجه الاجرائي لهذه الترجمة. وهذا لم يغب عن بال السيد محمودي، الذي يعلمنا بأن هذه الترجمة لم تكن مهمة سهلة، لأن أسلوب طه حسين متنوع "يتراوح بين لغة الحديث العادية وبين لغة العلماء والمثقفين، ولكل من هذين النهجين في التعبير صعوباته الخاصة". ويرى محمودي، عن حق، بأن على المترجم ان يلتفت على الدوام الى مؤلفات طه حسين بالعربية ، "وأن يكون قارئاً وباحثاً قبل ان يكون مترجماً. وذلك ان كتابات طه حسين بالفرنسىة ترتبط على نحو أو آخر بسائر انتاجه …. وعليه اذن ان يعود لطه حسين ليتعلم عربيته من جديد وليرتفع - كما نقول - الى مستوى المناسبة". ويمكننا القول ان المترجم حمودي قد نجح الى حد بعيد في نقل كتابات طه حسين الفرنسية الى اللغة الأم في صورة تقرب كثيراً من لغة المؤلف الذائع الصيت. اما القيمة الثانية للنصوص المنقولة فهي تاريخية - ثقافية في المعنى شبه المحدد والمتصل بالحيز أو الحقل الذي تنهض فيه هذه النصوص، ونقصد بذلك "التناص" والتفاعل أو التداخل الثقافي. وها هنا، يتبادر الى الذهن سؤال عما اذا كان ثمة اختلاف ما، ولو في حدود ضيقة، بين نصوص طه حسين العربية الكثيرة، وبين كتاباته الفرنسية القليلة. ويسعنا ان نجيب على الفور بأن شواغل وتوجهات الكاتب المصري، والمبثوثة في نصوصه الفرنسية الموزعة ما بين خواطر عن بعض أعلام العصر مثل الشيخ محمد عبده وتوفيق الحكيم واندريه جيد والنحات المصري مختار والشاعر الايطالي أونجاريتي ودراسات حول "الاتجاهات الدينية في الأدب المصري المعاصر"، ونظرة الشاعر الألماني غوته الى الشرق، ونهضة الشعر في العراق في القرن الثاني للهجرة، ومسيرة الشاعر المتنبي الكبرى، ودراسة نحوية حول "استخدام ضمير الغائب في القرآن كاسم اشارة" ومحاضرات وكلمات عن علاقات فرنسا ومصر وعن الاستشراق الايطالي وتصريحات في شؤون مختلفة، نقول بأن شواغل توجهات طه حسين بالفرنسية تظل على العموم قريبة من تلك التي تشكل مدارات مؤلفاته العربية. غير ان مصطلحات ومفاهيم "التناص" والتفاعل أو الحوار الثقافي لا تسعفنا كثيراً، في حال استخدامها الفضفاض والبلاغي، في التقاط الدلالات الفعلية للموضع الثقافي الذي ينظر منه طه حسين الى وجوه العلاقات بين كيانات عريضة مثل الشرق والغرب، أو أكثر تخصيصاً مثل فرنسا ومصر. وفي هذا الاطار، قد يكون صحيحاً ان "ثقافة البحر المتوسط كما فكر فيها طه حسين كانت حواراً وتفاعلاً عريق الجذور بين مجموعة من الثقافات، وخاصة بين ثقافتين رئيسيتين ممتازتين تمركزت احداهما في مصر بينما تمركزت الأخرى في أوروبا"، بحسب ما يقول المترجم محمودي. وقد يكون صحيحاً كذلك تشخيص الموقع الذي اصطفاه طه حسين لنفسه والذي يجعله "كأنه وسيط بين الثقافتين"، بحسب محمودي أيضاً. على ان التفحص النقدي لتمثيلات وتصورات طه حسين عن هذا "التوسط" والتفاعل بين ثقافات مختلفة، من شأنه ان يجلو بعض وجوه ودلالات التوسط وشروط تحققه ومعرفة وجهته، وهي أمور يشفعها طه حسين بسلوك ذهني مثقف قد يكون، من زاوية التاريخ الثقافي الحديث، يضاهي في اهميته القضايا التي أثارها الكاتب المصري الكبير. والسلوك الذهني هذا هو على العموم تربوي الى حد بعيد، اي انه يضع وجوه الاتصال والتبادل الثقافيين بين مصر والغرب في منظور تعليمي وارشادي مستمد، جينيالوجياً وفي قوالب وعبارات مستمدة، من التربوية الأزهرية. ليس مستغرباً اذاً ان نقع في كتابات طه حسين الفرنسية على تمثيلات وصور تربوية وبلاغية بواسطتها يتعقل الكاتب العلاقات بين فرنسا ومصر، مع الرغبة في تثبيت قيمة معيارية لهذه التمثيلات. فهو يرى، في مقالة نشرتها مجلة فرنسية عام 1946، بأن "فرنسا ليست بالبلد الاناني، بل انها على وجه التحديد هي البلد الذي يمقت الانانية، وهي على وجه التحديد البلد الذي يوجه فكره الى ما هو انساني حقاً. ولذلك يحبّ الاجنبي فرنسا". ويستعرض طه حسين باختصار شديد تاريخ العلاقات بين فرنسا ومصر، معتبراً ان الفرنسيين انفقوا عامين قبل ان يدركوا ان "مصر ليست بلداً صالحاً للاستعمار"، وأنفق آخرون اي الانكليز ستين سنة لكي يفهموا هذه الحقيقة، "ولست على يقين من انهم فهموها". كما يكرر طه حسين في مواضيع مختلفة توصيفه للتعاون بين فرنسا ومصر على انه تعاون "منزه عن الغرض". ويرى انه ترتب هذا التعاون خير مادي ومعنوي وفكري. والخير المادي يستدل عليه من قناة السويس والدلتا والري في مصر. والخير المعنوي ماثل في "نهضة مصر وتعرّف الشرق العربي على الحضارة الغربية بعد اربعة قرون او خمسة من السبات". والخير الفكري يتصل بنشأة - علم المصريات - وقد عاد هذا التعاون بالمنفعة على كلا البلدين. ويحقن طه حسين تمثيلاته المتفائلة هذه بجرعات بلاغية وخطابية، فيرى انه "بفضل هذا التعاون الودي المنزّه عن الغرض بين فرنسا ومصر تحقق انجاز عظيم، وليس في هذا ما يثير الدهشة، فأينما تدخلت فرنسا المترفعة عن دواعي الاثرة، فرنسا المفكرة، تحققت عظائم الأمور. وقد تحقق إذن شيء عظيم، وأعني بذلك على وجه التحديد التعاون، التعاون بين الشرق والغرب. تعاون لا يبطن المرارة، تعاون يخلو من الخوف ومن سوء القصد". اما في محاضرته التي ألقاها في مدينة نيس الفرنسية عام 1950، فاننا نرى وزير المعارف طه حسين يوغل اكثر في تشخيصه للعلاقات بين فرنسا ومصر بوصفها علاقات قائمة على الدين او المديونية الثقافية العامة. فهو يرد استفاقة مصر الحديثة الى ثلاثة عناصر: الشعب المصري ومحمد علي والذكاء العقل الفرنسي. ويعتبر ان فرنسا منذ حملة نابليون "قد تخلّت تماماً عن كل مطمع سياسي في مصر وتخلّت عن كل مطمح استعماري، ولم تعد تفكر الا في شيء واحد بسيط، فهي لا تريد الا العمل على تقدم المعارف البشرية وإثراء العقل الانساني". ويرى صاحب "الأيام" انه "من الواضح ان مصر تلقت الكثير من فرنسا، ففرنسا هي التي كشفت مصر لذاتها، فقد أيقظتها ثم اكتشفت مصر القديمة". سيكون من الصعب علينا، بعد الكلام السابق، ان نوافق الكاتب المصري حين يقول بأنه "على هذا النحو نشأ بين مصر وفرنسا تعاون ارى أنه متكافئ تماماً وانه يقوم على التفاهم والتوافق وعلى الصداقة بل ويقوم احياناً على شيء يفوق الصداقة". قد تبدو لنا "تربوية" طه حسين ساذجة وتستعير على طريقتها عبارات القوميين الفرنسيين في القرن الفائت خصوصاً ارنست رينان، خصوصاً وان كلامه هذا جاء قبل ست سنوات فقط من حملة السويس او العدوان الثلاثي. ولكن توصيفاته، وخلافاً لظنون وجموحات خصومه، لم تكن خلواً من اللبس والمفارقة. ذلك انه بالرغم من شعوره بأنه يدين لفرنسا بالكثير وبأن صورة الدَين الميتافيزيقي هذا تطاول جملة البلد المصري وتاريخه الحديث، فإنه كان يشعر بالرغبة في تأكيد هويته الذاتية واستقلاليتها لكن الرغبة هذه بقيت مكتومة او مسكوتاً عنها في معنى ما. وأمور الافصاح والكتم من شأنها ان تكون قضايا تاريخية شريطة ان يكون التعقل النقدي هو مدار القراءة والتأويل، ويقتضي هذا بالطبع تحرير المدار هذا من صور المدح والهجاء التي استحوذت عليه وما تزال في عالمنا العربي.