تصدق الانتقادات التي يوجهها طه حسين إلى الغرب بسبب وعوده التي لا يفي بها، وتحايله الذي لا نهاية له، وأطماعه التي يريد تحقيقها من دون مراعاة للتطور التاريخي ولمطالبة الشعوب المستضعفة بالحرية والعدالة والمساواة والعيش في كرامة. الانتقادات وردت في مقالة مهمة عنوانها «مشكلة الشرق» كتبها عميد الأدب العربي منذ حوالي سبعين سنة باللغة الفرنسية ضمن مجموعة مقالات ونصوص لم تنشر من قبل، يتناولها كتاب «طه حسين... الأوراق المجهولة: مخطوطات طه حسين الفرنسية» الذي صدر أخيراً عن المركز القومي المصري للترجمة، بتحقيق وترجمة عبدالرشيد المحمودي. المخطوطات الفرنسية هي نصوص مجهولة لأنها مسودات أملاها طه حسين بالفرنسية على من كتبها على الآلة الكاتبة أو بخط اليد قبل نشرها مطبوعة أو قبل إلقائها كمحاضرة أو خطبة أو توجيهها على شكل رسالة إلى شخص أو تقرير لجهة ما، في صورة نهائية. ومن اللافت أن مقالة مثل «مشكلة الشرق» والتي أراد طه حسين أن يسهم بها في المؤتمر الذي عقد عن سوء التفاهم بين الشرق والغرب في مدينة البندقية (إيطاليا) في سنة 1945 ما زالت تحتفظ إلى حد بعيد «بنضارتها» وفق تعبير المترجم. حرص طه حسين - الذي كان لا يزال وسيطاً بين الثقافتين، الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية - في هذه المخطوطات على تمجيد الثقافة العربية الإسلامية وعلى نقل وجهة نظر العرب والمسلمين صريحة قاطعة إلى الغرب حيث يواجه هذا الطرف الأخير ويصادمه بحقائق الجغرافيا والتاريخ والعدل. ففي «مشكلة الشرق»، على سبيل المثال، يركز على مشكلتين أساسيتين؛ يرى أنه لا بد من حلهما من أجل تحقيق التفاهم والسلم بين الجانبين: مشكلة شمال أفريقيا أو المغرب العربي والمشكلة الفلسطينية التي ما زالت قائمة، وما قاله طه حسين بصددها ما زال قائماً: «لقد كانت فلسطين دائماً عربية، وهي ما زالت عربية وينبغي أن تبقى كذلك»... فإنشاء دولة إسرائيل على التراب الفلسطيني في رأيه «فكرة شيطانية وكابوس». يرى طه حسين ضرورة مد الجسور بين ضفتي البحر المتوسط وضرورة التعلم من الغرب ونقل علومه وفنونه وأسباب حضارته، ولكنه يعرف أين ينبغي أن توضع الحدود، ولا يسعى إلى إيجاد حل وسط أياً كان؛ ففي موضوع مثل موضوع الصلح مع إسرائيل يقول: «إن الصلح مع الظالمين إجرام ما دام ظلمهم قائماً». الأمر الذي يوضح أن عميد الأدب العربي – الذي لا يمكن أن يوصف بالتطرف السياسي - كما يزعم البعض لا ينتمي إلى معسكر «المعتدلين» والمتنازلين والمطبعين والمهرولين. ومن بين ما تضمنته مخطوطات طه حسين الفرنسية نص خطابين: أحدهما ملخص لخطاب ألقاه لمناسبة افتتاح معهد فاروق للدراسات الإسلامية في مدريد، تشرين الثاني (نوفمبر) 1950، والثاني ألقاه في جامعة أثينا لمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية، آذار (مارس) 1951؛ عندما وقف في المكان نفسه الذي وقف فيه من سماهم «أساتذة الإنسانية» ومن بينهم سقراط وأفلاطون وأرسطو وديموستين وإيزوقراط، ورأى في وقفته تلك تحقيقاً لحلم «محال» على حد تعبيره. حلم أخذ يداعب خياله منذ عودته إلى مصر من بعثته الدراسية في فرنسا (1919)، وعبَّر عنه في أولى محاضراته بعد تعيينه مدرساً لمادة التاريخ القديم في الجامعة المصرية «شديدة جداً هي حاجتنا إلى درس تاريخ اليونان القديم، وما تركوا من أثر أدبي أو علمي، فليس إلى فهم ما للقدماء والحديثين من أدب وعلم ومن فلسفة وسياسة وسيلة إلا درس الأمة اليونانية القديمة وآثارها». ووفق المترجم، فإن ما يقوله طه حسين يؤدي إلى نتائج تمسُنا مباشرة في عصرنا الحالي. فهو يرى أن الثقافة العربية عندما تبنت التراث اليوناني القديم وعرَّبته ونشرته في أرجاء العالم، نجحت في ما لم ينجح فيه الإسكندر تماماً. أي أنها استطاعت – حيث لم يستطع – أن تصبغ العالم بالصبغة اليونانية، الصبغة العقلانية كما أسسها أرسطو. فأرسطو؛ في رأي طه حسين، هو الذي نظَّم العلوم القديمة وقدَّم تفسيراً شاملاً، يتضمن قوانين التفكير والتعبير وقوانين السيرة العامة والخاصة؛ ويترتب على ذلك أن العرب عندما ترجموا علوم اليونان وشرحوها رسَّخوا للعقلانية في الفكر العالمي وأرسوا للعالم الغربي وللعالم ككل أسس التفكير العلمي. وفي مخطوطة أملاها بالفرنسية عن قوة القرآن الكريم من الناحية الصوفية مشروحة لغير المسلمين، وهي تتألف من 21 صفحة وتحمل كثيراً من التصوبيات التي كتبت بخط اليد، يقدم طه حسين دراسة وافية عن جماليات القرآن الكريم من حيث فن التشكيل وشرحهها للغرب، فضلاً عن مقدمته لكتاب «الشفاء» لابن سينا وتأثره بأبي العلاء المعري والذي ينعكس في كتاباته. كما يعرض في الدراسة نفسها لفكر المعتزلة عن العدل والتوحيد والحرية والصفات الإلهية. الكتاب يستعرض قضايا شتى، في الفلسفة والإسلاميات والترجمة؛ ومن بين المخطوطات التي يتضمنها أيضاً، وثيقة مهمة ألَّفها طه حسين بالفرنسية على شكل تقرير عن مشروع اليونسكو كان يرمي إلى ترجمة بعض المؤلفات الكبرى إلى اللغات الحية كافة، والذي أعدَّه طه حسين في خمسينات القرن الفائت وقدَّم فيه اقتراحات وتوصيات في شأن تنفيذ المشروع وبخاصة في ما يتعلق باللغة العربية. وعلى رغم أهمية التقرير وما جاء فيه من توصيات واقتراحات أخذت طريقها إلى التنفيذ في إطار ما سمي «سلسلة الروائع العالمية»، إلا أنه - التقرير - لا يوجد له أثر في محفوظات اليونسكو؛ «وظل مجهولاً حتى وجدتُه أخيراً بين مخطوطات طه حسين الفرنسية»، الأمر الذي يؤكده المترجم.