ما أن تم حل حزب الرفاه التركي، بل قبل ذلك ما أن جرت إقالة حكومة نجم الدين اربكان في الخريف الماضي، حتى راجت تقديرات وترجيحات بأن الوضع التركي في سبيله للانزلاق الى الهاوية التي اندفع اليها الوضع الجزائري. ولا شك ان اوجه الشبه القائمة بين التجربتين، كانت تغري بالخلوص الى تلك التوقعات. فحزب الرفاه شأنه شأن جبهة الانقاذ اعتمد صناديق الاقتراع، وحقق اغلبية برلمانية. والمؤسسة العسكرية في البلدين هي التي حالت دون ان يبلغ هذا الفوز مداه، بل تم قطع الطريق عليه. وفي التجربتين ايضاً فقد تم حل الحزب الاسلامي الكبير عقاباً له على ما حققه من نتائج. غير ان هذه التقديرات لم تتحقق رغم ذلك، فالوضع التركي على ما فيه من احتقان فإنه لا "يبشر" باندلاع موجة جهادية تأخذ في طريقها كل شيء كما وقع في الجزائر. بل ان حزب الرفاه سلك مسالك قانونية وسياسية وسلمية، منها الاحتجاج لدى هيئات غربية وأوروبية، حتى ان السلوك الجائر للحكم العسكري ازاء هذا الحزب ونوابه وجماهيره، كان احد العوامل او المشهد الخلفي الذي ادى الى ممانعة الاتحاد الأوروبي لضم تركيا اليه، وهو عامل لا بد ان الرفاهيين اخذوه في الحسبان الى جوانب عوامل اخرى تتعلق بالاختلاف الحضاري. فإذا كانت المجموعة الأوروبية ليست مع نشوء حكم ديني الا انها ليست مع قمع الاسلاميين. كما لجأ الرفاه الى الأحزاب التركية باعتبار القرار يهدد التعددية الحزبية والتطلعات الديموقراطية وليس مجرد حزب واحد. علاوة على القنوات القانونية "الضيقة" والدستورية التي حاول الحزب وما زال اللجوء والاحتكام اليها. وبهذا السلوك الراشد والمتعقل والمسؤول، امكن لحزب الرفاه ان يضفي على صورته ابعاداً هامة وهي شراكته العضوية في الحياة الحزبية والاجتماعية والتزامه بالنظام العلماني... ذلك ان الحزب نال في الأصل شرعيته من هذا النظام وقوانينه، فيكون من المنطق ان لا تتم الثورة على هذا النظام، بل الوقوف في وجه اخطائه. والأهم من ذلك ان الرفاه حتى تاريخه على الأقل، لم يعالج الأمر من منظور حزبي ضيق، اي من المصلحة المباشرة والآنية للحزب، بل اهتدى بموجبات مصلحة وطنية عريضة عمادها السلم الاهلي، وأساسها الاحتكام الى الدستور والقانون والسلطة التشريعية كقاعدة ينطلق منها في جهده وكفاحه. اذ في غياب الاستقرار وانفلات المنازعات ومع تقوض اركان الدولة، فإن الحزب نفسه سيكون مهدداً. ومن الواضح ان هذا السلوك يفترق بل يتعاكس مع السلوك الذي اعتمده الانقاذيون في الجزائر. فقد رأى هؤلاء في الردة على الديموقراطية ذريعة لإعلان كفرهم بالديموقراطية وكما يقول المثل الشعبي في بلاد الشام: اجت منهم.... وتبع ذلك الاعلان عن احتكار المعارضة ومساواة الاحزاب الشقيقة بالنظام، وكان ذلك كله تمهيدا للحرب على النظام، ثم مرافق الدولة ثم المجتمع وضد غير الجزائريين وغير المسلمين. وتلا ذلك تفريخ الجماعات المسلحة، وخروج الامر من يدي جبهة الانقاذ. وبذلك فإن عقد المقارنة بين التجربتين اقتصر على سلوك الحكم في البلدين، ولم يشمل الطرف الآخر. ولعل حزب الرفاه قد أفاد جيداً واستخلص الدرس من تجربة الانقاذ، رغم ان العديد من الاسلاميين هنا وهناك محضوا حزب الرفاه العذر او الشفاعة لتكرار التجربة، وحجتهم في ذلك ان النظام هو الذي أخطأ وهو الذي بدأ وأن التاريخ لن يغفل عن ذلك. وبعيداً عن هذه المقارنة ذات الاستهدافات البائسة، فقد نجح الرفاه في تظهير صورة الطابع العسكري للحكم التركي وفي انتهاكه لأبسط القواعد الديموقراطية، وهو ما أثار ضده مختلف المحافل الدولية بما فيها الولاياتالمتحدة، كما نجح الرفاه حتى الآن في بلورة صورته كحزب وطني مدني وكجزء حي من النسيج السياسي، وفي غضون ذلك ومع تبادل التأثير الذي يسم كل حياة وطنية طبيعية، فإن المجتمع السياسي اخذ يعيد التعامل مع الهوية الاسلامية، فلم يجد رئيس الحكومة ما يأخذ به الصد الأوروبي سوى بالاحتجاج بالهوية الاسلامية، فيما هو من يناوئ هذه الهوية وتجلياتها وليس اي طرف خارجي.