وقد نصح السيناتور أرثر فاندنبرغ الجمهوري الرئيس الديموقراطي ترومان وقتها بأنه إن كان حقاً يريد إنتاج كل تلك الأسلحة، وفرض الضرائب الباهظة على الشعب من أجل انتاجها، فعليه أن يعمل جاهداً من أجل إثارة مخاوف الشعب الأميركي من الخطر الشيوعي. وقد استجاب ترومان لهذا النصح، وشرع منذ 23 تشرين الأول اكتوبر 1947 يلقي الخطبة إثر الخطبة عن الخطر الأحمر الذي يُهدد بابتلاع فرنسا وإيطاليا، ويثير الفزع في قلوب الأميركيين، وهي سياسة سار عليها خلفاؤه، عدا فترة قصيرة في أواخر عهد أيزنهاور الذي انبرى في لحظة صدق يحذر شعبه من احتمالات هيمنة دائمة على الدولة من جانب العسكريين وكبار رجال الصناعة والمال. بدا الأمر في ظاهره وكأن الحكومة الأميركية لا شاغل لها إلا حماية حرية رعاياها ورعايا الدول الحليفة من خطر عدو رهيب عظيم البأس، في حين ان الخطر الحقيقي يتمثل في سادة دولة الأمن القومي الذين تمكنوا من الإمساك بكل مقاليد الأمور في الولاياتالمتحدة حتى في زمن السلم، وراحوا يدبّرون الانقلابات ضد الأنظمة الأجنبية التي لا يرضون عنها، أو يثيرون المتاعب لها، ويزيدون من الضرائب على الشعب من أجل خدمة جماعتهم الصغيرة، وبحجة الحاجة الماسة إلى تعزيز وسائل الدفاع. وكان أن خاضت الولاياتالمتحدة منذ زمن ترومان، وبوصفها زعيمة "العالم الحر"، حروباً مباشرة أو غير مباشرة في كل من كوريا وفيتنام، وكمبوديا ولاوس، والبحر الكاريبي وأميركا الوسطى، وافريقيا وشيلي والشرق الأوسط، كلها أو جلّها باسم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، ولمساندة أنظمة تنتهك في بلادها مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وكانت الولاياتالمتحدة في كل مرة تساند فيها نظاماً فاشياً أو شمولياً تتذرع بحجة أن ذلك النظام يتبنى العقيدة القومية الأميركية، وهي العداء للشيوعية. ولأن الولاياتالمتحدة لا تعرف نظاماً حزبياً حقيقياً على غرار الأحزاب السياسية في أوروبا الغربية، ولا تكاد المعارضة فيها تعرف سبيلاً الى وسائل الإعلام، فإن تلك الحروب الأميركية في الخارج كانت تبدو دائماً كأنها تتمتع بموافقة جماعية في الداخل. فالكونغرس يوفر الأموال للبنتاغون ويلبي مطالب سادة دولة الأمن القومي. والمعارضون لا تنشر مقالاتهم في الصحف، ولا يستدعون للحديث في الإذاعة والتلفزيون، وتحجم دور النشر في العادة عن نشر كتبهم، أو تطالبهم بحذف فصول أو تغيير مضمون فصول، وتصوّر وسائل الإعلام كافة تلك المعارضة على أنها تافهة هامشية، أو خبيثة شيطانية، مغفِلة حقيقة أساسية مهمة: هي أن كل الحروب التي خاضتها الولاياتالمتحدة منذ عام 1945 كانت بأمر السلطة التنفيذية، فهي بالتالي غير دستورية، إذ إن الدستور ينص صراحة على أن الكونغرس وحده هو صاحب الحق في إعلان الحرب. والواقع أن قدرة السادة الأميركيين من أصحاب الثروات على إحكام قبضتهم على وسائل الإعلام ومناهج التعليم، وعلى تكييف الرأي العام، من أكثر مظاهر الحياة الأميركية إثارة لعجب سائر العالم العربي. فما من دولة من دول العالم الأول نجحت مثل هذا النجاح الباهر في أن تستأصل من كل وسائل الإعلام أي اتجاه الى الموضوعية، وأي ميل إلى معارضة اصحاب النفوذ الحقيقي. صحيح أن في وسع أي مواطن أميركي ذكي، متى توفر لديه الوقت والطاقة، أن يصل الى حقيقة الأمور، والى دراية دقيقة بكل ما يهدد مصالحه الشخصية، غير أن الأكثرية لا فائض وقت لديها ولا فائض طاقة يمكّنها من تحصيل الأخبار من خارج وسائل الإعلام. وأخبار وسائل الإعلام المحلية، شأن الإعلانات التجارية، لا همّ لها إلا إبقاء جموع الشعب على وداعتها، ورضاها وطاعتها، ونهمها الى استهلاك السلع أو حيازتها. وثمة في الإعلام الأميركي ما يمكن تسميته بالمكتب السياسي البوليتبيرو أو مجمع الكرادلة، يتحكم تحكماً صارماً دقيقاً في كل ما ينبغي للمواطنين أن يعرفوه وما ينبغي ألا يعرفوه. فهو الذي يحدد ما على السياسيين وقت الانتخابات أن يقولوه، ويحرص بالأخص على أن يُخفي عن الشعب حقيقة أن أكثر من ثلثي إيرادات الحكومة الفيديرالية وقت السلم يُنفق على الدفاع والتسلّح، وعلى عدم السماح للمعارضين بشدة للنظام بالظهور في التلفزيون فيدرك المستمعون إليهم أن ثمة وجهات نظر أخرى غير وجهة النظر التي يروّج النظام لها. فإن كان لا بد من السماح لمعارض معتدل بالحديث في التلفزيون للحفاظ على دعوى حرية التعبير عن الرأي، فليكن ظهوره بعد منتصف الليل والناس نيام. والتلفزيون هو المكلّف الرئيسي من جانب السادة المستفيدين من تجارة السلاح باكتشاف العدو إثر العدو لنمط الحياة الأميركية، ولشعب الولاياتالمتحدة، وللشعب الإسرائيلي الحبيب. أو كما قال ألبرت أينشتاين عام 1950 "إن أصحاب السلطة الحقيقية في الولاياتالمتحدة لا نيّة لديهم أن ينهوا الحرب الباردة أبداً"، فإن انقضى خطر الاتحاد السوفياتي والشيوعية، فهناك الاتحاد الأوروبي واليابان، أو العرب والإسلام، أو العراق وليبيا وإيران. والظاهر أن المواطن الأميركي العادي لديه حاجة نفسية ملحة إلى أن تُطلعه جهة عليا على هوية عدوه الجديد، واقتناع عميق الجذور بأنه لا بد أن ثمة عدواً له يتربص به، ما قد يرجع الى إحساسه بأن العالم الجائع خارج بلاده لا بد أن يحسده على ارتفاع مستوى معيشته، ويُضمر له الشر بالتالي. وهكذا تلتقي أهداف السادة الحقيقيين، بالمصلحة المادية لوسائل الإعلام، بالحاجة النفسية للمواطنين السذّج، فإذا هم جميعاً يستعينون من أجل تشخيص الخطر تلو الخطر بفريقين من الناس اعتبرهما أقل العناصر قدرة على فهم حقيقة الأوضاع. وأعني الصحافيين المولعين بالتهويل، والأكاديميين من أساتذة الجامعات المغرمين بتضخيم ما يكتشفون من حقائق صغيرة. وفي نهاية المطاف، يكون على شعوب أخرى مسكينة، كالشعب العراقي الذي ما كان له يد في اختيار نظامه، ولا كان في يوم ما قادراً على الإطاحة به، أن تدفع غالياً ثمن هذه التشوهات الأميركية في القيم، وفي الأهداف، وفي التكوين النفسي، ثم يوصف القصف الأميركي لهذه الشعوب بأن كان من أجل خدمة حقوق الإنسان.