مشكلة الكثيرين من الشعراء العرب انهم يصرون على مواصلة الكتابة بعد نضوب مواهبهم الشعرية ووصولهم الى طريق مسدود. وهكذا فإن دور النشر تستمر في اصدار المجموعة الشعرية تلو المجموعة الشعرية من دون ان يشكل أي منها جديداً على صعيد التجربة الشعرية للشاعر أو لجيله أو لواقع الشعر العربي في مرحلة صدور تلك المجموعات. ونحن نشهد منذ سنوات كيف ان سوق الكتاب العربي تغرق بالاصدارات الشعرية التي لا تشكل أية علامات ولا تضيف شيئاً الى واقع الكتابة والثقافة. صور مستهلكة وخيال فقير ورؤى محدودة الآفاق، ولكن أصحابها يصرون على فرض كتبهم على القارئ بسبب تاريخهم الشعري وما انجزوه من قبل في عالم القصيدة. والمؤسف ان حشداً من النقاد العرب المعاصرين لا يتعاملون مع المنجز الشعري بل مع الأسماء، وينظرون الى جديد الشاعر عبر منظار يأخذ في الحسبان مكانة الشاعر الثقافية وما يثيره طنين اسمه في آذان القراء. ولذلك فإن تقييمهم للانجاز الفقير للشاعر عادة ما يكون حانياً رقيقاً تشفع له مجموعات الشاعر السابقة ومنجزه الفني في ما خلا من أيام. وينشأ عن هذا التسامح تضخم الأعمال الكاملة للشعراء وصدور المجلدات تلو المجلدات لكل شاعر أتم الثلاثين من العمر أو جاوزها بقليل. وفي الحقيقة ان ظاهرة الأعمال الشعرية الكاملة، التي أصبحت علامة على المنجز الشعري العربي خلال العقدين الأخيرين، تمثل مرضاً معدياً سريع الانتشار بين الشعراء العرب، اذ ان الغيرة تستبد بالواحد منهم فيلجأ الى دار نشر له دالة عليها فتقوم باصدار طبعة كاملة وافية تضم كل ما كتبه خلال سني عمره المديدة، ثم يقوم بالتعديل عليها في ما بعد بحسب العلاقة التي تربطه بدار النشر أو بمقدار ما في جيب بعضهم من مال. ولو قارنا هذه الحال المرضية المستشرية بين شعرائنا بما يفعله الشعراء في الغرب لوجدنا ان جودة الشعر وانتشاره هما اللذان يتحكمان في عملية الطبع، ولوجدنا في الوقت نفسه ان الشاعر الكبير يصمت عندما يحس نضوب شعره وبهوت صوره ووصول تجربته الى أفق مغلق. فهو إما ان يجدد ابداعه بالسعي وراء تجارب جديدة تعيد الحيوية الدافقة الى شعره أو ان يبحث عن أشكال أخرى من التعبير يصب فيها أحاسيسه ومشاعره وتجاربه. اما الاستمرار في السعي في سبيل مغلقة، واللجوء الى اصدار كل ما يكتبه في مجلدات كثيرة لا يقرأها الا عدد قليل من الناس، فتلك بدعة لا يعرفها الا العرب ولا تنفذها الا دور النشر العربية التي دأبت في السنوات الأخيرة على قبض ثمن نسخ المجموعات الشعرية سلفاً من أصحابها قبل ان تسوقها وتطرحها للبيع ضماناً للربح الفوري السريع. في حمى هذا السباق المحموم على الكتابة والنشر، وبغض النظر عن المستوى الفني وتطور التجربة وتصاعدها نحو ذرى جديدة سامقة، يختلط الحابل بالنابل وتضيع جواهر الشاعر المميز في مرحلة من مراحل تطوره الشعري بين ركام هائل من الحجارة المزيفة، ويصبح الكلام على الأزمة التي تنشب اظفارها في واقع الشعر مؤيداً بالانتاج الشعري نفسه. فكم من قصائد شعرائنا الكبار يبقى لو اننا أصدرنا مختارات شعرية مما انتجوه خلال سنوات طوال من الكتابة؟ هل يبقى مجلد واحد، بضع مئات من الصفحات، عشرات من القصائد، أم قصائد قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة؟ سؤال على الكثير من شعرائنا العرب المشهورين ان يجيبوا عليه، بينهم وبين انفسهم على الأقل.