منذ أن كان اسمه المعروف به علي محمد حارث، في بواكير صباه بمحافظته ضمد وقمرها الفاتن الذي كان يغنيه بقصائده الأولى: لملم ضياءك وارحل أيها القمر/ ما عاد يهواك لا ليل ولا وتر». ومنذ أن كان والده الفاضل محمد بن عبدالله حارث الحازمي يراود فتاه عن أحلامه الشعرية، ليسير على منوال شعر صديقه الحميم أعظم شعراء محافظة ضمد في عصرنا الحديث الشاعر الكبير علي بن أحمد النعمي أولِ وآخرِ شاعر سعودي حاز الميدالية الذهبية بهرجان بغداد الشعري، والذي كان والد شاعرنا راويته وحافظ شعره الأول والأقرب. منذ تلك الأيام التي كان يكبر فيها علي حارث وتكبر أحلامه وتتوسع شهرته الشعرية بالتدريج خارج محافظته ومنطقته ووطنه إلى آفاقها العربية ويصبح اسمه الأشهر الشاعر علي الحازمي، وهو يحرث في تجربته؛ بدأب لا يكل ولا يمل. منذ استهل إصداراته الشعرية من «بوابة الجسد» وإصداره لكتابه الأول مختاراً لوحة غلافه لوحة للفنان الكبير علي ناجع وفي وقت مبكر ومغامر عن بعض مجاييله بسنتين أو ثلاث. منذ ذلك الوقت الذي سبق فيه مجاييله للنشر في ملحق اليوم السابع العربية الشهيرة، وصولاً إلى اتكائه في هدنة المحارب بمشوار تجربته الشعرية الطويلة على كتابه «مطمئناً على الحافة»، مروراً بديوانه «خسران» الذي كان بوابة انطلاق تجربته في أفقها العربي، وصولاً إلى ما أراه في تصوري الشخصي أعذب كتبه ديوان «الغزالة تشرب صورتها». منذ تلك الأيام وشاعرنا يعطي إشارات أولية لأبعاد طموحه وأحلامه لتجربته الشعرية. منذ تلك السنوات وطوال مسيرة تتجاوز ربع القرن، غادر فيها علي حارث اللقب القروي الحميم الذي كان يخصه وحده بقريته. وبات اسمه الأكثر شهرة علي الحازمي، حتى وإن اختلط هنا بعشرات الأسماء التي تحمل الاسم نفسه، غير أن شخصاً واحداً فقط سيصبح وحده المعروف على مستوى الوطنين السعودي والعربي حين يسبقه لقبه الأثير (الشاعر علي الحازمي). ليست هناك نسخة أخرى من الشاعر علي الحازمي سوى الشاعر علي الحازمي نفسه. مسيرة لم تكن بالسهلة ولا باليسيرة، تخللتها الكثير من الصعوبات والمشاق والامتحانات، والنقاشات والجدل؛ والإحباطات والمواقف الصعبة والنجاحات. مسيرة طويلة من الجلد والعزيمة والإصرار في بناء ذاته شاعراً مميزاً. مسيرة تخللتها ليالٍ مضنيةٌ من القراءة لكبار شعراء الوطن والوطن العربي وكبار شعراء العالم. مسيرة تقطّعتها رحلاتٌ أشد تعباً لمعارض الكتب والمكتبات في جمع الكتب والعودة بما ينجو منها للسهر بين أحضانها. مسيرة مضنية نعم.. بل جد مضنية.. فأن تظل مخلصاً لتجربة شعرية لا تعتمد وحسب على إجادة النظم والوزن وفق بحور الشعر.. وليست لها حرية النثر فهذا أمر ليس بالسهل ولا اليسير. فكتابة نص شعري حديث ملتزم بالوزن أصعب بمراحل من النظم العمودي.. وأكثر إجهاداً من كتابة قصيدة نثر.. مع أن كثيراً قد يرون العكس، لكن هذا الرأي يأتي بعد مشوار طويل في التنقل بين كتابة الأشكال الشعرية الثلاثة (العمودي والتفعيلي الموزونين، وقصيدة النثر المتخلصة من الوزن) ودراستها المختصة بمراحل الدراسات العليا. أستطيع القول إن تجربة كتابة الشعر الحديث الذي تقع فيه تجربة الشاعر علي الحازمي ليست من نمط الكتابة التي تكون دفقات إلهام يمكن أن تتخلص منها خلال ساعة، لتلحق.. ربما.. بالمناسبة التي كتبت عنها.. أو من النمط الذي يمكن نشره عقب كتابته طازجاً على لوح كيبورد. بل إن ذلك يعني أن الشاعر آثر واختار عامداً الطريق الأصعب. فأن تكتب نصاً شعرياً بتجربة الشعر الحديث، من دون استناد على رصيد مجهود شاق من القراءات المتواصلة اليومية، لهو أمر صعب، فمن دون هذا الرصيد سرعان ما ستنكشف كل ألاعيبك اللغوية وفذلكاتك البلاغية، وحيل الوزن والإيقاع والقوافي التي تحاول أن تغطي بها على خواء مخزون القراءات المستمر المتجدد. تماماً كما يحاول لاعب كرة موهوب أن يستعرض مهاراته، لكنه سرعان ما ينكشف عن عجزه ومراوحته مكانه وحفظ المشاهدين لحركاته الاستعراضية المتكررة، بعدما تأكد للمتابعين أنه لاعب غير جاد لأنه غير مواظب على تدريباته وتمريناته اللياقية اليومية. أن تكتب نصاً شعرياً حديثاً وأنت تريد أن تكون معه شاعراً مميزاً، فأنت لا تضع نفسك في مقارنة مع شعراء مدينتك ووطنك ولغتك فحسب. بل أنت تضع نفسك في سياق نهر من شعراء العالم، بمختلف لغاتهم. وعلى تجربتك أن تحافظ على مقوماتها، حينما تترجم تجربتك إلى لغات العالم ويظل لها تميزك الذي تعبت واشتغلت عليه. أن تكتب نصاً بتجربة الشعر الحديث، عليك أن تكون أكثر من فنان في وقت واحد. عليك أن تكون رساماً يقضي الساعات مع فرش ألوانه حائراً أمام لوحته. وأن تكون نحاتاً لا تمل أصابعه من ألم إزميل الحفر في الصخور العادية لتحويلها إلى تحف فنية فريدة، وأن تكون المصور الفوتوغرافي الذي يلتقط ألف لقطة لمشهد واحد، وتكون لديه المقدرة على حذف ال999 لقطة من أجل أن يبقي على لقطة واحدة فريدة.. تكون هي اللقطة الأكثر إبهاراً. عليك أن تكون كل هؤلاء في ثوب شاعر واحد. وعليك بعد كل هذه الجهود المضنية ألا تخلد للراحة لأن هناك رواةٌ سينقلون للمتلقين شعرك؛ ويجمعونه ويصدرونه مطبوعاً. إذ عليك بعد ذلك كله أن تسعى بنفسك للنشر بالصحف والمجلات المرة تلو المرة، كي تكون معروفاً لدور النشر والطباعة والتوزيع المميزة ومواقع الثقافة والإبداع التي يمكنها بعد ذلك أن تقبل بتجربتك وتنشر لك أو تترجم لك مع كبار الشعراء وتوزع كتبك في أصقاع الوطن العربي. وعليك أن تسعى إلى المشاركة وإيصال اسمك وتجربتك، بدءاً من الفعاليات الأقرب، فالأقرب وصولاً للأبعد، فالأبعد من المهرجانات الشعرية. إن كل هذا الجهد وأكثر منه وغير ذلك مما لم يذكر، قام به ويقوم به علي الحازمي منذ 26 عاماً وأكثر. كي يجلس أخيراً «مطمئناً على حافة» كرسي.. هذه الليلة، مكرماً في قريته. هو الشخص نفسه الذي لطالما كرمته نواد ومراكز ثقافية، ومهرجانات شعرية بأماكن وأصقاع بعيدة. كان يتلفت فيها وحيداً، ويرتدي فيها بدلة وقبعة الغريب. بلحظات كم كان فيها يتمنى لو أن أباه أو إخوته أو أياً من زملائه وأصدقائه الذين يحيطون به الآن، لو أن أيا ًمنهم رافقه ولو لمرة واحدة، ورأى ما كان وما زال يحظى به من مكانة بكل موقع ومدينة وبلد دعي إليه واستضافه شاعراً. مكانة لم نرها نحن. بكل شفافية، سوى عقب نيله هذه الجائزة. وكأن ما مضى من سيرته الشعرية محض «خُسران». بناء عليه فليس مصادفة أن يحوز شاعرنا على هذه الجائزة. لأنها لمن عرفه عن كثب. وأزعم أنني من أكثر من عرفه ورافقه طوال 25 عاما وشرفت بمرافقته في أكثر من عشر أمسيات ومناسبات شعرية، منذ أول أمسية جمعتني به ونحن طلاب بجامعة أم القرى بمكة (1409-1998) مروراً بعدد من الأمسيات بعدها. كلها كانت خارج المنطقة، قبل أن يعترف بتجربتنا نادينا الأدبي ويدعونا لأول أمسياتنا به. منذ أمسية أم القرى وصولاً إلى آخر أمسية جمعتنا (1434-2013) في محايل عسير، أزعم أنني من أكثر من عرف كيف هو عمل علي الحازمي واشتغاله على تنمية وصقل ومحبة تجربته الشعرية منذ بدأ كتابة الشعر. علي الحازمي الذي لا يمكن أن يمضي عليه يوم، ومحفظة جيبه خالية من مسودة نص شعري يشتغل عليه. أو أن سريره أو مقعد سيارته يخلوان من كتاب يقرأه. لأنه ليس من نوعية من يمكن أن يتخلوا عن الكتابة والقراءة، أو أن يهجروا الشعر أو يهجرهم الشعر، لأن مشاغل أو ظروف الحياة أجبرته على ذلك، لأنه علي الحازمي الذي لا يعرف كيف يعيش حياته سوى بوصفه شاعراً طوال يومه وسنته، في فرحه وحزنه، في ليله ونهاره: في انشغاله وفراغه، في وحدته وعلى مائدة أسرته بين شغب وشقاوة أطفاله، وطوال ما مر من عمره إلى هذه اللحظة. وإلى ما شاء الله له من عمر طويل. لسبب بسيط لأنه يشعر أن لا وجود ولا حياة له خارج حياته بوصفه شاعراً في كل وقت. إن علي الحازمي لا يجيد شيئاً في حياته سوى كتابة الشعر. لذلك بعد كل ما أسهبت فيه وأطلت من كلام، وقفزت عليه وحرقت من المراحل والمحطات لضيق الوقت. لكل القليل الذي قلته من الكلمات ولما لم أقله من الكثير والكثير من الحالات المواقف والذكريات. لكل ذلك فإن هذا الفوز والتتويج بجائزة مهرجان الأرجواي للشعر التي حازها شاعرنا كأول شاعر عربي، وهدا الاحتفاء به في مسقط رأسه، لهو تتويج للقصيدة الحديثة ولكبريائها ولكبرياء علي الحازمي المعتز دائماً بتجربته وشعره. * شاعر وأكاديمي والمقال نص كلمة قدمت في احتفالية نظمها محافظ ضمد بفوز الشاعر بجائزة مهرجان الأرغواي العالمي للشعر.