لو أنّ المنيّة لم توافِ الرسام العراقي فائق حسن في باريس عام 1992، لكان الرسامون العراقيون يُشاركونه اليوم الاحتفال بعيد ميلاده المئة، هو المولود عام 1914. فالرسام الذي أنهى دراسته في الرسم في «بوزار - باريس» عام 1938، كان قد عاد إلى بغداد ليؤسس مع رفيق دربه جواد سليم فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة. هي المرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر التي يكون فيها للرسم صرح أكاديمي يمكنه أن يؤهل المنتسبين إليه ليصبحوا رسامين، بعد أن يكونوا قد تعرفوا طوال خمس سنوات من الدراسة على قواعد الرسم الأكاديمية. لكنّ فائق حسن لم يكن معلماً «قاعدياً». وهي صفته التي أضفت على علاقة طلابه به نوعاً من الشغف الغامض. كانت بوهيميته - التي زادت باريس حدتها - أكبر من أن تستجيب لشروط التعليم التقليدي. كان فائق حسن معلماً نارياً، ملهماً بقدرته على اكتشاف المواهب النادرة ليمشي بها إلى حافات قدرها ويطلقها من هناك لتمارس هواية التحليق الحرّ. «أسطورة» فائق حسن حريته التي يدين لها جميع الرسامين العراقيين الذين صار لهم شأن عظيم في ما بعد، كانت قد صنعت أسطورته، ناسكاً، متقشفاً، بخيلاً، متوحداً، قليل الكلام، خشناً أحياناً، وغريب الأطوار في أحيان أخرى. لم يكن ابن «الخبازة» الفقير أرستقراطياً إلا في رؤى لوحاته التي استخرجت من الريف العراقي قطعاً فنية تذكر بريف الانطباعيين الفرنسيين، على رغم أنه لم يكن ليُحسب في كل ما فعله على المدرسة الانطباعية. كان فيه شيء من الوحشية المترفعة، وهو الشيء الذي كان يدفع إلى تخيل أعرابه مقبلين بخيولهم من الصحراء. لقد ألهمه المحترف الشخصي حرية لم يعثر عليها في الطبيعة. كان يخرج بأعضاء جماعته (الرواد) التي أسسها عام 1950، وهي أول جماعة فنية عراقية، إلى البرية ليصطادوا الغزلان الخيالية. غير أنه اختار أن يكون وحيداً بعد عام 1967، وتخلى عن زعامة تلك الجماعة لتلميذه إسماعيل الشيخلي. ولكن، ظلّ لديه ما يفعله في عزلته. فكرته عن مستقبل الرسم في العراق، وهي فكرة لم تكن صحيحة بالنسبة إلى كثير من رسامي الستينات الذين وجدوا في الخروج على مبادئ صنعته المدرسية نوعاً من الحرية التي ستكون نافذتهم التي يطلّون من خلالها على العالم. غير أن ذلك التمرّد لم يُفقد فائق حسن صفته التي خلّدته إلى الأبد، باعتباره معلم الرسم الأول في العراق. لقد حرص المحافظون والمتمردون على أن يظل معلمهم محتفظاً بقيمته الأيقونية. سيتذكر الرسامون العراقيون فائق حسن معلماً، أكثر مما يتذكرونه رساماً. جملة قد لا يفهمها كثيرون، ومن ضمنهم من نطقوا بها بطريقة إيجابية. كان خيال المعلم يترفق بأيدي طلابه ليسبقهم إلى أحلامهم المشوشة. لقد وهبني القدر فرصة أن أراه وهو يصلح لوحات طلابه. كانت عينه لا تخطئ طريقها إلى موهبة الرسم. وكان رسم الموديل الحيّ بالنسبة إليه مجموعة متلاحقة من الضربات التي تتبع إيقاعاً موسيقياً خفياً، كان يلمع في عينيه المفتوحتين أكثر مما يجب. وحده الرسام مَن كان في إمكانه أن ينصت إلى ذلك الإيقاع. أنت هنا ترى ما لا يراه سواك، لكي تحقق اختلافك على سطح اللوحة. كان المعلم في الصف الدراسي يسبق الرسام بخطوات، غير أنه كان يسخر منه في ما بعد. لم يكن فائق حسن مدرسياً، بل إنه كان أكبر من أن يُرمى في لفائف مدرسة فنية بعينها. كان سلوكه المتفرد يعينه على اقتراح بداهات جمالية، هي أكبر من أن تُحبس في تيار فني واحد. كان معنى الرسم بالنسبة إليه مطلقاً. وهو ما حرر طلابه من تبعيته، إلا في ما ندر، وكان ذلك خياراً شخصياً. «المعلّم» الحقيقي لم يكن ذلك الفنان يحلم بأن يكون له أتباع، بمقدار ما كان يحلم في أن يكون هناك رسامون عراقيون. وهو ما أنجزه الواقع. لقد ذهب طلاب فائق حسن في طرق أسلوبية شتى، طرق لا علاقة لها بطريقة الرسم التي كان فائق حسن ملتزماً بها، غير أنهم يفخرون بأنه كان معلمهم. شيء منه كان قد عبّد الطريق لسبعين سنة من الرسم. حتى اللحظة لا يزال هناك من يمسك بفرشاته متوهماً أن يد فائق حسن تحركها. صار الحنين إلى فائق حسن بمثابة حنين إلى زمن الرسم الخالص. كان لدى الرسامين الحقيقيين حصتهم من تاريخ الرسم: فائق حسن، معلمهم الذي لم يغدر به الزمن. لم يبقَ شيء من فائق حسن المعلم، إلا ما يتذكره طلابه، وهم يتناقصون. ماذا عن فائق حسن الرسام؟ صار إرث فائق حسن، حتى قبيل وفاته نهباً لجشع المزورين. لقد وجدوا فيه صيداً سهلاً. فالرجل الذي علّم مئات الرسامين، صنع بيديه قتلته، ممن وجدوا في السطو على تراثه، نوعاً مبتذلاً من التكسب والربح السريع. وبسبب كثرة اللوحات المزورة التي تنسب إلى فائق حسن، صار إرثه الفني مشكوكاً في أصالته. لا أظن أن رساماً عراقياً تعرض لمثل الظلم الذي تعرض له فائق حسن. أمّا لوحاته الأصلية التي وثّقها متحف الرواد فتمت سرقتها أثناء الفوضى التي تلت الاحتلال الأميركي، وهذا ما يجعلنا نشك في كل لوحة ممهورة بتوقيعه. خسرناه رساماً، غير أنّ ذاكرة العشرات من الرسامين ما زالت حريصة على الاحتفاء بصورته معلماً عظيماً.