الكتاب: علي عبداللطيف وثورة 1924 بحث في مصادر الثورة السودانية المؤلفة: يوشيكو كوريتا المترجم: مجدي النعيم الناشر: مركز الدراسات السودانية - القاهرة 1997 أخذت ظاهرة "الرق" في السودان، بوصفها واقعاً سابقاً، وبوصفها ترسبات "رمزية" ضاغطة، تجذب وبشكل متزايد اهتمام الباحثين والدارسين، لما لها من دور فاعل في تكوين شبكة علاقات "المجتمع السوداني" بالغة التعقيد، ولما تم عليها في الماضي من حجب عن بؤرة البحث والمقاربة الموضوعية. وهذا الكتاب لا يخرج، في جوهره العميق، عن الاطار السابق، إذ يقارب تجليات ظاهرة الرق كما جسدتها احداث ثورة 1924، كحوار ما بين الحاضر والماضي، هادفاً من وراء ذلك، وبحسب صياغة المؤلفة، الى تقديم "مادة للنقاش وسط السودانيين حول ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم"، عسى أن "يستفيدوا منه، كما استفدت وتعلمت من حياتهم ونضالهم". وتعتبر المؤلفة الدكتورة يوشيكو كوريتا، الباحثة اليابانية الوحيدة "التي تعمقت بجهدها الأكاديمي في تاريخ السودان الحديث، بل لعلها تشمخ بين الباحثين والاجانب في هذا المضمار، وقد امضت سنوات في السودان، جوّدت فيها لغتها العربية مخاطبة وقراءة وكتابة. وجاست بدأب بين الوثائق والكتب، واتصلت بالشخصيات ذات الوزن التاريخي مسجلة أحاديثهم بصبر وتؤدة، حتى امتلكت ناصية بحثها الذي حصلت به على درجة الدكتوراه من جامعة طوكيو، اليابان: طبيعة السلطة ومفهوم القومية في السودان الحديث - 1983". وهذا الكتاب، اذ يلقي الضوء على ملابسات ثورة 1924 ضد الوجود البريطاني في السودان، يحاول، من خلال فحص علاقات القوى السائدة داخل المجتمع السوداني آنذاك استجلاء الخلفيات الاجتماعية، كعوامل كابحة لتطورات الثورة المذكورة. مبيناً طبيعة الدور "الحاسم" للبنيان الفوقي. ويمكن القول من باب التوضيح ان ثورة 1924 شكلت، بالمفهوم العام لكلمة "ثورة" وعبر تصورات "جمعية اللواء الابيض"، محمولات اجتماعية ذات رؤية متجاوزة للوضع "القائم" آنذاك، ما يشكل بدوره تهديداً للمصالح البريطانية التي ترى في الزنوج "المنبتين" بوادر لبروز "هوية" سودانية لا تقوم في التحليل على "العنصر" أو القبيلة، من جهة، وتهديدا لمصالح الزعماء الدينيين والقبليين في شمال السودان، والذين قوى الانكليز من شوكتهم عبر ادارتهم للبلاد، بمنحهم تسهيلات واقطاعيات زراعية واسعة، من جهة أخرى. وهذا يعني، بوضع المسألة داخل اطارها التاريخي، أن "جمعية اللواء الابيض" ظهرت، من حيث طروحاتها السياسية، كنقيض لمفهوم "الوطنية السودانية". وعلى ضوء الصراع ما بين بريطانيا ومصر حول السودان يتكون هذا المفوم من ثلاث مراحل، تصب، في التحليل، لصالح بريطانيا، وهي: 1- تأكيد وجود "أمة سودانية" لها الحق في تقرير المصير. 2- تأكيد أن القادة الدينيين والقبليين هم الذين فوضوا من قبل هذه "الامة السودانية" للتحدث باسمها. 3- اعتماد هؤلاء الممثلين للأمة السودانية "القرار" بتفويض "حقهم" في "تقرير المصير" للبريطانيين في الوقت الحاضر. ومن المهم في هذا الصدد، حسب قول الباحثة، أن نشير إلى أن قيادة على عبداللطيف ونفوذه داخل "جمعية اللواء الابيض"، على رغم انتمائه الى "حثالة" تعيش وسط "المجتمع الشمالي الذي يسوده العرب"، لم يعتمدا على مجرد قوة شخصيته وقدراته، وإنما اعتمدا بالتأكيد، ولو الى حد معين، على التأييد الشعبي لذي لقيه في شوارع أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري. وكان هذا التأييد يرتبط ارتباطا وثيقا بانتماء علي الى نوع معين من "الافندية"، أي "الافندية" من أصل "جنوبي" و"نوباوي"، والذين كانوا في الوقت نفسه قريبين جداً من "الطبقات الدنيا في المناطق الحضرية". وهذه ميزة لم يمتلكها عبيد حاج الامين أحد المؤسسين "الشماليين" لجمعية اللواء الابيض. ونتيجة للإختلاف الجذري ما بين الرؤيتين المتقدمتين، تجاه قضايا الواقع السوداني آنذاك، نشب صراع حاد بين الزعماء والانكليز كطرف له المصلحة في استمرارية النظام القائم وعلي عبداللطيف وجمعية اللواء الابيض كطرف له مصلحة في إحداث تغييرات جوهرية على طبيعة الوضع الماثل. وقد حاول الطرف الأول، وقد نجح تماماً، في تمييع المسألة محل الاختلاف بحجبه لحقيقة الصراع وتغييبها، من خلال استخدامه تصورات عنصرية مكشوفة، إن جاز التعبير، الى جانب آليات السجن والنفي والاغتيال، كعوامل كابحة لتطور الثورة على المستوى المادي. ويمكن القول، في نهاية هذه المراجعة، ان عبداللطيف كان ينتمي، من ناحية لأصل، الى "حثالة المجتمع". لكنه، من ناحية الطبقة، كان ينتمي الى "صفوة المجتمع" الافندية أو البرجوازية الصغيرة. لقد كان مفهومه عن "الوطنية السودانية" ثورياً من ناحية ضمه لعناصر المجتمع المضطهدة عرقياً، لكنه فشل في ضم العناصر المستغلة اقتصادياً تحديداً العمال، وإلى حد كبير في حال السودان المزارعين الذين حُكموا واستغلوا ونظموا في اطار الطريقة والقبيلة، في حين كانت هناك حاجة ماسة الى نمط من "الوطنية السودانية" يستطيع تعبئة هذه القوى، إذا ما أريد لهذه الوطنية، كما عند الزعماء الدينيين والقبليين، ان تهزم فعلاً.