ما أجمل صرخة الحرية عندما تخرج من صدور الشباب. فما من احد بامكانه ان يقف في وجهها او ان يقمعها. هذا ما ذكّرتنا به تظاهرات طلاب لبنان اخيراً والتي أرغمت الحكم والمسؤولين على مراجعة حساباتهم وإعادة النظر في منطلقاتها المبنية على نماذج تسلطية لم تعد تقنع احداً ولا تخيف احداً بعد سقوط المتسلط الاكبر الذي كانه الاتحاد السوفياتي السابق. وعلى غرار هذا الشباب اللبناني الناهض من سبات استمر زهاء عقدين ونيف، بدأت تدب الحركة في قلوب وعقول الشباب في البلدان العربية قاطبة. لا لان هذا الشباب ينسّق تحركه مع بعضه البعض، بل لسبب آخر لا قدرة لأجهزة الأمن التقليدية على التحكّم به، وهو وجود مناخ عالمي يقوم على مراجعة إرث القرن العشرين في مجالاته كافة. والشباب في العالم العربي على اتصال حثيث وجدّي مع هذا العالم الخارجي، عبر الكتاب والاغنية وأفلام السينما وخصوصاً عبر البرامج التلفزيونية التي تنقلها شاشاته الصغيرة بواسطة الصحون اللاقطة او من دونها. فاغلاق اي بلد من البلدان العربية على نفسه، باجراءات الرقابة كافة، بات امراً مستحيلاً اليوم، حيث دخل الانفتاح على تجارب الآخرين الى عقر دار كل واحد منا. ربما ان اجيال الخمسينات نشأت واعتادت على نسق الانغلاق الاعلامي والمعرفي الذاتي والطوعي خوفاً من العتب السياسي أو القمع، الا ان أجيال الشباب الحالي في العالم العربي المعاصر نشأت على منظور آخر الى الأمور وعلى نظرة اخرى الى تجارب الآخرين في العالم الخارجي بحيث ان ما كان يقبل به آباؤهم، تجنباً للمشاكل، اصبح مرفوضاً منهم بشكل طبيعي اليوم. لذلك يبدو الشباب في العالم العربي حالياً على موجة جديدة لم يدرك بعد أهميتها ولا حتى أفاعيلها "المسؤولون" العرب، لجهلهم بخصائصها ومميزاتها التي يستحيل عليهم وجودها في قواميس مفاهيمهم التقليدية، المطبوعة في الستينات. وان ألقينا نظرة تحليل على محصلة مرتكزات الوعي الشبابي الحالي نلاحظ أموراً عدة أبرزها: 1- تخطّي خيبات الامل السياسية المتتالية: كان بامكان نكسة فلسطين ونكسة الحروب الاسرائىلية - العربية ونكسة الحرب الداخلية في لبنان وصفعة حرب الخليج ان تشكّل كلها صدمات نفسانية في عمق الشخصية السياسية العربية. وقد حصل ذلك على صعيد أجيال ما قبل الستينات بالفعل. فنام البعض على مضد الهزيمة، مبطّناً إياها، بينما لجأ البعض الآخر إما الى الرومانسية الثورية أو الى سياسات القمع الداخلي. لكن الشباب الحالي لم يعد تحت سيطرة هذه الصدمة التي ارتدّت على الشعوب العربية كافة، بغير أسلوب. بل انه ترك فلك القضايا السياسية الكبرى، بالمعنى العروبي والايديولوجي لهذه الكلمة، لعلمه بان مرتكزاتها الموضوعية غائبة أو وهمية، وصبّ جهده كله على القضايا الحياتية الكبرى اي انه وضع نفسه وشؤون مستقبله في صدر الاهتمامات المصيرية، واصبح ينظر الى الحكم والحكام، لا طبقاً للديباجات السياسية التي يلقونها من دون تيقّنهم لمدى رتابتها وسطحيتها، بل إنطلاقاً مما بمقدور هؤلاء الحكام ان يحققوه من احلامه هو، لا من أحلامهم هم. وقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، والذي استغرق في الغرب قروناً عدة مكلّفاً ثورات حقيقية ليس دونها الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، قد حصل عند الشباب في العالم العربي بفترة جيل واحد، ما بين الستينات والتسعينات. وتخطّى الشباب الحالي بذلك الوقوع في لعبة الصدمة النفسانية التي غالباً ما يعوّل عليها الكثير استراتيجيو الحروب. اعتبر انها لا تلزمه هو لانها ليست من انتاج يديه. لكن ذلك لا يعني ان الشباب الحالي لا يهتم لتاريخ شعبه وبلاده، بل يعني فقط ان نمط تفكيره لم يعد سلفياً او تقليدياً، ينطلق من معطيات الماضي التي كان يعتبرها سواه فرضيات اساسية. فتفكير الشباب الحالي اصبح موضوعياً بمعنى انه يصرّ على الانطلاق من الحاضر ومما هو موجود ميدانياً على الارض، من دون التعثّر بما هو موروث عن الأسبقين. 2- تبلور رؤية جديدة الى العالم الخارجي: كان جيل الستينات قد بنى علاقته مع العالم الخارجي على قاعدة ثنائية مختلّة العناصر، فإما الانبهار بالغرب وبمنجزاته التقنية وإما العداء العصبي له. كما تأرجح قسم آخر من ابناء الستينات بين هذا الموقف وذاك، تارة منبهراً وطوراً غيوراً وحقوداً. لكن الامور اختلفت اليوم. فجيل شباب التسعينات لم يعد لا حقوداً تجاه الغرب ولا مبهوراً به. بل اصبح يعتقد بسرعة ان ثمة قاعدة عامة تلف العالم بأسره وتقوم على بناء الجسور مع العالم الخارجي، بشكل حتمي، مع الاحتفاظ بالخصوصيات على الصعيد الداخلي. بحيث ان ظاهرة مشابهة لتلك التي عاشتها اليابان في الستينات بدأت تتبلور في العالم العربي الحالي. وهذه الظاهرة لخصتها باحثة جامعية يابانية، مجيبة على سؤال: كيف توفقون بين الحداثة والأصالة في بلادكم؟ بقولها: بشكل بسيط، فعندما نخرج من منازلنا ونذهب الى اعمالنا ننسى الأصالة ونعتمد الحداثة بشكلها التنافسي الحاد. اما عندما نعود الى منازلنا في المساء واثناء العطل، فنعود الى تراثنا وننسى ما يتعلق بالحداثة. حل معضلة الحداثة - الأصالة في اليابان جاء براغماتياً. وقد سمحت هذه النقلة المعرفية لليابانيين بان يعيشوا حياتهم من دون توبيخ ضمير مستبطن وبمواجهة مقتضيات الحاضر من دون الاصابة بالقعود لعدم تناسب موجتي الشرق والغرب. فالحل الذي اعتمده جيل شباب الستينات في اليابان حلٌ اعتمد على سلوك موجة ثالثة، وسيطة بين الموجتين السابقتين، المتعارضتين. وأصبحت هذه الموجة الثالثة والوسيطة موجة الانسجام مع الذات ومع المعطيات الميدانية على السواء. شيء من هذا القبيل يحصل اليوم عند جيل التسعينات في العالم العربي. فبعد الانبهار شبه المطلق والعداء شبه المطلق، جاء دور الموقف الوسيط الذي يتعامل مع ما هو موجود على الساحة سوسيولوجياً، اي انطلاقاً من حاجاته الشخصية والاجتماعية والثقافية العامة، لا سياسياً وانطلاقاً من خيارات جامدة لم تؤد بالجميع سوى الى تكديس النكسات. فالشباب الحالي، المنطلق من نفسه ومن حاجات مستقبله هو، ينظر بشكل عملاني الى العالم الخارجي. ولا عُقد استيهامية عنده تجاه هذا العالم الخارجي، لا من الطراز الدوني ولا من الطراز الفوقي. 3- رصانة في التحصيل المدرسي والاكاديمي: ساعدت المجهودات المتواصلة التي بذلها الشباب في العالم العربي على صعيدي تعلّم واتقان اللغات الاجنبية والعلوم في تحوّله من موقع المتفرّج الى موقع الفاعل. فكلما ازداد المرء معرفة كلما قويت بنيته الذهنية ومتنت مواقفه من الحياة. فالشباب الحالي في العالم العربي واثق من نفسه ومن افكاره اكثر مما كان عليه جيل الستينات. لماذا، يا تُرى؟ لانه ازداد معرفة أكاديمية ومدرسية، صقلت تفكيره فجعلته اكثر منطقية ومنهجية. فالمعرفة قوّة، ولا يقول المثل الشعبي "الدارس يغلب الفارس" عن عبث. كما ان الشباب الحالي ازداد تجربة، وهذا هو الأهم. ذلك انه يستحيل على الشباب الحالي ان يقع في مطبات الرومانسيات الثورية التي وقع فيها جيل الستينات، المثالي والعديم الخبرة. الشباب الحالي تجريبي النزعة، يبدأ من نقطة بديهية وموضوعية هي نفسه، ثم يبدأ بالاطلاع على ما هو حاصل في بلاده وفي العالم أجمع، ثم يقارن ويستخلص ويستنسب الافضل بالنسبة الى وضعه. فيعيد النظر نقدياً بكل شيء، محافظاً على ما ينبغي المحافظة عليه ورامياً كل ما يتوجب رميه بعيداً، سواء كان بلدياً أم غير بلدي، تراثياً أم غير تراثي، وطنياً أم غير وطني. هذا لا يعني ان الشباب الحالي يعتبر نفسه انه هو الوطن، بل يعني انه يستحيل بعد الآن خدعه بالشعارات ودفعه الى اتخاذ مواقف ايديولوجية اوتوماتيكياً، كما كان حاصلاً منذ ربع قرن. اصبح الشباب الحالي متروياً وشكاكاً لان النزعة المثالية فارقت نمط حياته لصالح نزعة تجريبية حادة اكتسبها من جراء الهزات التي هزّت مراراً وتكراراً عالم طفولته ومراهقته. فلم يعد يشتري سمكاً في البحر، بل ينبغي اقناعه لكي يقدم على الموافقة. لم يعد هناك من عفوية جماهير تهرع الى الشارع للدفاع عن قضايا كبرى، بل أصبح هناك شباب يتحرك في سبيل قضية محددة تهمه هو، مع اتسامها بالطابع الجماعي والعام. 4- الحرية كمفهوم مطلبي جديد: حوّلت النزعة التجريبية التي اصبح الشباب في العالم العربي اليوم ينضوي تحت لوائها الاهتمام من قضايا التحرير المبهمة الى قضية الحرية الموضوعية. التحرير، كمشروع سياسي اقليمي بل وعالمي عند البعض، أفلس في فلسطين. فذهبت بذلك سدى كل التضحيات التي بذلتها اجيال الستينات والسبعينات في الحقل السياسي في العالم العربي. وأقدمت القضية الفلسطينية على نحر نفسها عندما قبلت بالدخول طرفاً في تفتيت لبنان. وانتهت بعدها المسألة كلياً عندما انتقلت عيون الشباب في العالم العربي، بعد عقد ونصف العقد من الزمن، الى حرب الخليج. فبين هذه وتلك ضاعت الاحلام وتبخّرت السرابات السياسية التي كانت تشدّ العيون الى فوق. أصبحت العيون مشدودة الى تحت، الى حيثيات الحياة اليومية والعملية التي اضحت مركز اهتمام الشباب الحالي الجوهري والوحيد. وعملية الصقل التجريبية التي مرّ بها شباب العالم العربي، خلال العقدين السابقين، جعلته يضع مسافة بين نفسه وبين محيطه. بحيث ان مصادر الخطر على شخصه وعلى مستقبله المهني وهذا هو ما يهمه في المقام الاول اليوم لم تعد تقع، نظرياً، في العالم الخارجي، بل في محيطه العربي المباشر. لذلك أتى خيار الحرية أقوى من خيار التحرير، ذلك ان الحرية تعني بالنسبة اليه أموراً ملموسة، كحرية التفكير والتعبير، وايضاً حرية التصرّف والممارسة. بينما لم يعد يعني التحرير سوى مصطلح أجوف، بل وخطر لانه يمنعه من تحسين ظروف حياته ومستقبله. غير ان التمسك بالحرية من قِبَله، بهذا الشكل التجريبي، له وجه غير وجهه التراجعي، في مجال الالتزام السياسي. ويتمثل هذا الوجه الآخر في انه أفضى بهذا الشباب الى التمسك بالعقل كأداة لتمييز المناسب عن غير المناسب، واعتماده على تحكيم العقل، على البارد، في خيارات حياته اليومية والعملية ليشكّل خطراً على أولئك الذين كانوا يبنون بنجاح سياسات تفتيت العالم العربي على عفوية جماهيره وهوَس شبابه الرومانسي. كان المثال الاعلى لجيل الستينات والسبعينات "دون كيشوت" يسارياً وثورياً، يحارب طواحين الهواء ويبحث عن حبيبة نبيلة تبرر نضاله الأسمى. اما الشباب الحالي فمثاله الاعلى هو لا احد. ومن نقطة الصفر تنطلق دائماً البداية.