عائد خصباك روائي وقاص وناقد عراقي مقيم في ألمانيا منذ عقود... بدأ مشواره الإبداعي بالمجموعة القصصية «الموقعة» في نهاية ستينات القرن الماضي ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً. يرصد خصباك في أعماله التحولات السياسية والاجتماعية في العراق، وطفرة الحداثة، ومشكلات المهاجرين العرب في الغرب. عالمه الروائي فيه نكهته الخاصة، مغرق في الواقعية، ومبحر في الأسطورة في الوقت ذاته، فيه المضحك والمبكي، عالم بني بلغة بسيطة أخاذة تقترب من لغة «الحكواتي» بسلاستها وألفتها. من أعماله الروائية «الصغار والكبار» و «المقهى الإسباني» و «سوق هرج». ومن أعماله القصصية «الطائر والنهر» و «الغروب الأخير»، وله في النقد «دراسات في القصة والرواية» و «الحبكة المنغّمة». هنا حوار معه: كيف ترى تجربتك الأدبية بعد مرور نصف قرن على بدايتها؟ - لم أتوقف يوماً لتأمل ما أنجزته. دائماً يشغلني ما يأتي لاحقاً، علماً أني أدرك أن الكاتب هو سلسلة من الإنجازات التي لا تتوقف ولا تكرر نفسها. تركت الحركات العالمية في الأدب أثرها في قصصي الأولى، فتمردت على كتابة القصة بأسلوبها الواقعي. نشرت حينها في ما كان يمثل هذا الجديد مثل مجلات «الكلمة» و «الآداب» و «الشرارة» التي كان يرأس تحريرها الناقد غالي شكري. دائماً أضع نفسي في قلب الحدث لأتفاعل معه ولا أقف لأتأمله. ربما كانت «الموقعة» واحدة من المجاميع القصصية التي مثّلت جيل الستينات في الكتابة العراقية، هل استنفدت تلك التجربة أغراضها؟ - لم يبرز جيل الستينات إلى الساحة الأدبية مصادفة. كانت هناك دوافع نضجت، فأدّت إلى وجوده على أسس قوية. وفي تقديري كانت هزيمة 67 أبرز الأسباب التي أدّت إلى التعبير عن الواقع، لكن بطريقة مغايرة. طبعاً، مفهوم الجيل لا يعني أن هناك مجموعة من الكتاب يفكرون بطريقة واحدة وتجمعهم هموم واحدة ولا فارق بين هذا وذاك. أقول إذا نظرنا إلى الموضوع هكذا فأن الجيل، أياً كان، محكوم عليه بالانتهاء. لقد اختلفت طرق كتاب الستينات في التعبير عن الواقع وكل منهم احتفظ بسماته الخاصة. في كتابة القصة هناك فارق بين إبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وبين جمال الغيطاني ومحمد خضير وجمعة اللامي وهكذا. في تقديري أن مَن سعى إلى المغامرة في الكتابة الأدبية قبل جيل الستينات يمكن أن ينضم إلى هذا الجيل. ولكي أكون واضحاً أكثر، أقول إن هناك كتابات بعض مَن سبق ظهورهم الجيل الستيني في العراق، يمكن أن نعدها ستينية. وفق هذا المنظور تكون الكتابات الستينية غير مرتبطة بحدود زمنية وإنما بطريقةٍ في الكتابة. لذلك واصل أولئك الكتاب إبداعاتهم، فكان بعضهم في طليعة مَن كتب في الأجيال اللاحقة. لم يستنفد جيل الستينات أغراضه، على الأقل عند من بقي على قيد الحياة، رحل إبراهيم أصلان قبل سنوات قليلة وقد ظل إلى آخر أيامه يعتبر مجدداً في السرد، كذلك محمد خضير إلى اليوم يعتبر مجدداً حاله حال مَن ظلّ مستمراً في الكتابة. فالأسباب أياً كانت التي دفعت جيل الستينات إلى الوجود، بتقديري، لم تتغيّر في شتى المجالات وفي مختلف أنحاء العالم العربي، لم يحصل تغيير عقب نكسة حزيران ولم تتراجع الأمية وربما تضاعفت أعدادها. الوضع الاقتصادي البائس فضلاً عن موضوع الحريات وتعدد أساليب القمع والديكتاتوريات. لكن بعد عام 2003 تغيّر الوضع مع الاحتلال الأميركي للعراق. أحدث الغزو انقسامات طائفية وعرقية وسياسية. هذا التغير استدعى كتابة من نوع مختلف وقد قدمت الأحداث مادة خصبة، بخاصة في تناول موضوعات الدين والسياسة والجنس؛ وما كانت هذه الكتابة عن هذا الواقع الجديد حكراً على الجيل الذي شهد الاحتلال. هناك كتاب من أجيال سابقة كانوا سبّاقين إلى ذلك، ليس في الكم بل في النوع، وكان لهم السبق في تناول الموضوعات الجديدة مثل قضية الهجرة والتهجير القسري. عالم القصة له مواصفات خاصة، تختلف من حيث الهيكل البنائي، لكن البعض يعطي أولوية للرواية باعتبارها أعلى منزلة من القص، هل تتفق مع هذا الرأي؟ - أعتقد أن الرواية هي الأكثر حضوراً، فهي قادرة على اقتحام أكبر عدد من الموضوعات. وبسبب خوضها موضوعات لا تتسع لها القصة القصيرة، كان لها هذا الحضور الطاغي على المشهد الأدبي، والأهم من هذا أصبح لها قراء وهذه مسألة مهمة. ولأن الرواية هي مشروع كتابة من نوع خاص، فهي تعتمد على الخبرة الشخصية ولكن هناك أشياء أخرى ربما هي بقوة تلك الخبرة مثل الوثائق والأحداث التاريخية، وربما حتى إعلانات الجرائد وغير ذلك. الوضع الحالي يحتاج إلى هذا، وعندما اعتبر جابر عصفور أن الرواية ديوان العرب فهو محق في ذلك؛ لأن القصة القصيرة انسحب دورها من المشهد الأدبي وفي الوقت نفسه ما عادت للشعر قوته السابقة. في روايتك «المقهى الإسباني»، التي تدور أحداثها في إحدى المدن الألمانية، نلاحظ أن المكان لم يعد مجرد فضاء للأحداث بل هو صانع للحدث، كيف ترى ذلك؟ - بالفعل، ليس المكان عندي شيئاً صامتاً ولا خلفية للحدث. في سياق الرواية تتضح أهميته ودوره في صناعة الحدث ولولاه ما كانت الأحداث قد جرت بتلك الصورة، ولأن المكان كان يتغيّر وتختلف مواصفاته تقريباً في كل فصل، فقد صنع الكثير من الأحداث وأن ردود أفعال بعض الشخصيات ما كان يمكن أن يكون لها وجود إلا بتأثير المكان. أرى أن المكان هو بناء لغوي يشيده الخيال، يتضمن المشاعر والتصورات التي تستطيع اللغة التعبير عنها. تصدت رواية «المقهى الإسباني» لإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب وأوضاع المهاجرين... كيف ترى دور الأدب في حوار الحضارات؟ - كانت العلاقة مع الغرب أحد الموضوعات التي رافقَت المحاولات الأولى للكتابة السردية عند يحيى حقي وذو النون أيوب وسهيل إدريس في ثلاثيته الشهيرة، ثم رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، والتي نجحت في تصوير العلاقة بين الشرق والغرب من خلال العلاقة الجنسية بين الرجل الشرقي والمرأة الغربية. وهذه الروايات تجارب ذاتية عاشها أبطالها في بلاد الغرب عندما كانوا يكملون دراستهم هناك. إن تجربة العلاقة الحضارية بين الشرق والغرب كانت في طور التأسيس وكان الكاتب ينظر إلى الآخر هناك من خلال ذاته ولم تتشعب بعد لتأخذ أبعاداً أخرى بخاصة في موضوع المهاجرين الذين واجهوا شتى أنواع المخاطر من أجل الوصول إلى الغرب «الاستعماري»؛ حيث المكان الآمن الذي لم يجده في بلاده ولا قدمته له أي دولة عربية ولا إسلامية. معادلة صعبة ما كانت معروفة سابقاً، عبّرت عنها فنياً الروايات التي كتبها كتاب يقيمون في بعض الدول الأوروبية. أصبح هناك صدام من نوع مختلف. بالنسبة لي، ربما كان الصدام في «المقهى الإسباني» يختلف، فقد كان بين المهاجرين أنفسهم، بين من وجدَ الملاذ الآمن والتعليم الإجباري لأبنائه والتأمين الصحي والقيم التي تحترمه كإنسان له حقوق وعليه واجبات، وبين مَن يرى خلاف ذلك رغم تمتعه بالمزايا التي أخذها الآخر بسبب الأعراف المختلفة، ولا ننسى التحريض الديني والعقائدي وما إلى ذلك. تقيم في ألمانيا منذ وقت طويل، هل قرأَنا الآخرون أم أن ما وصلهم له حسابات خاصة؟ - القارئ الغربي ذكي ويعرف ماذا يريد أن يقرأ. في فترة سابقة كان هناك إقبال على الأدب الأفريقي. وكان هناك إقبال على الأدب الياباني وفي ما بعد على أدب أميركا اللاتينية، سواء كان مترجماً عن الأسبانية أم البرتغالية. إيزابيل الليندي تعاد طباعة كتبها أكثر من مرة، لماذا؟ لأن هذه الآداب قدّمت الجديد إلى القارئ الغربي، في ما يتعلق بالموضوعات والأشكال الروائية، مما لم يجده عند مَن يكتبون بالألمانية أو الفرنسية أو غيرهما. هذا هو السحر الآسر في الكتابة، ومن دونه لن يقترب القارئ الغربي من الأدب المترجم، فلا شيء يجبره على ذلك. لا تجبره الجوائز الأدبية التي ينالها بعض الكتاب وبخاصة جائزة نوبل. لقد ترجمت روايات لنجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل لكنها لم تتصدر قائمة المبيعات في حينها وبعد ذلك لم يُترجَم له أي عمل. تُرجم لغيره مثل عبدالرحمن منيف، لكن في شكل محدود. لا يطلب القارئ هناك ما يمكن أن يكون هذه بضاعتنا ردّت إلينا. عندهم بلزاك وستاندال وعشرات العمالقة، فلماذا يقرأ أدباً مترجماً إلى لغته؟ نعم محفوظ له مكانة كبيرة في العربية، كذلك عبدالرحمن منيف، لكن هذا لا يكفي للإقبال على ترجمت أعمالهما. السخرية حاضرة في أعمالك... هل هي وجه آخر للألم؟ - هناك مجموعة من العوامل جعلت السخرية حاضرة في أعمالي وهي تجمع بين آليات المفارقة والتناقض والسخرية. هي ربما وجه آخر للألم بسبب ما عرفناه من أزمات زعزعت منظومة الإنسان الأخلاقية والاعتقادية فدفعته إلى التعامل مع الحياة في شكل مختلف. هناك كتاب عالميون تعاملوا مع الواقع بهذا المفهوم: ميلان كونديرا في معظم أعماله الروائية، وإيتالو كالفينو؛ مثلاً. السخرية عندي نوع من أنواع الكوميديا السوداء وهي فلسفة إنسانية مأساوية تعبر عن عبثية الواقع واندحار قيم الإنسان وأخلاقه. وإذا كانت الكوميديا على طول تاريخها هي احتفال بالحياة، فإن الكوميديا السوداء ترتكز على إحساس عميق باللاجدوى؛ وهو إحساس يتخطى مرحلة الإحساس بالفجيعة. ما التحديات التي تواجه الرواية العراقية الحديثة؟ - هناك روايات عراقية حققت حضوراً مهماً على المستوى العربي لها مستوى جمالي وحساسية فنية متقدمة، وإنجازات أسماء مثل علي بدر وسنان انطون ولطفية الدليمي وعبدالخالق الركابي، وعشرات الأسماء الأخرى تدعم قولي هذا. لكن التحديات التي تواجهها هي أن الواقع بأشكاله كافة كان قوياً لدرجة لا تستطيع الفكاك عنه. فمن الظواهر البارزة، الصراع الطائفي وما له من تبعات القتل على الهوية والتهجير الداخلي والخارجي، فيستحيل العمل الروائي إلى نسخ الواقع وربما يكون العمل أكثر فجائعية وسوداوية. التحدي الآخر انعدام الرؤية وضعف التركيز أمام هذه الفوضى في القيم الوطنية والفساد السياسي، فالأحداث لا تتحرك وإن دارت لا تراوح مكانها.