- لماذا لا تفتح مشغلاً لك وحدك؟ غسان، الولد الأصغر في عائلتي كان يعبّر بسؤاله البريء والمفاجئ عن ضيقه من اختلافاتي المتكررة مع "آباء" الفصائل الفلسطينية، تلك الخلافات التي كنت أحقق فيها كل مرة انتصاراً حاسماً، يعبّر عن نفسه بخروجي من اطار العمل الى البطالة لفترات تطول حيناً، وتقصر أحياناً أخرى، فيما تظل أسباب عودتها وتكرارها من جديد قائمة محتملة. كان غسان بسؤاله البريء المفاجئ قد وضعني من دون ان يدري أمام ما يحدث وجهاً لوجه، اذ هو لا يجد اجابات مقنعة لأسئلته الكثيرة التي تتمحور كلها حول "مهارة" الآخرين، وعدم مهارتي… حول "خط" سعيد يزور بيوتهم، وينكص عائداً قبل ان يصل الشارع الذي أسكن فيه. ومع ذلك فإن اسئلته لم تكن لتمر من دون ان تقلقني، ومن دون ان تدفعني كل مرة الى تقليب الأمور على وجوهها المتعددة، لا بقصد الانسجام مع ما هو قائم، ولكن على الأقل، بهدف تحاشي الصدام المباشر، والابتعاد عن المواجهات التي أعرف - بحكم موازين القوى - نتيجتها المؤكدة مسبقاً. قال صديق الشاعر وهو يحدثني على الهاتف عن عملي الجديد، في مجلة فلسطينية: - إياك ان يكتشفوا انك تعرف الكتابة! كنت أعرف انه يقول ذلك بسبب معرفته بجهالة القائمين على تلك المجلة، والذين كانوا عبارة عن مصور صحافي، أصبح رئيساً للتحرير فجأة من دون أية خبرة، وسكرتير تحرير كان حارساً شخصياً للمصور. قلت لصديقي الشاعر بهذل: ولكنني مضطر للكتابة! تلك "المجلة"، كانت طرفة في حدّ ذاتها، فبعد ان واصلت الصدور بكثير من الأخطاء الصحافية الأولىة، عادت وأضافت الى تلك الأخطاء، ندرة الانتظام حيث أصبحت تصدر مرة في الشهر، وأحياناً مرة كل شهرين، فأطلق بشأنها الكتاب والصحافيون الفلسطينيون في جزيرة قبرص نكتة صارت معروفة اذ قالوا انها "مجلة أسبوعية تصدر أحياناً"، ولم يعد أحد يعرف على وجه اليقين متى يصدر عددها المقبل، بمن في ذلك "هيئة" تحريرها. اليوم لا أشعر بالدهشة حين أقرأ في الصحف أخبار الشركة التجارية الضخمة التي يملكها رئيس التحرير إياه، والتي أثارت عواصف الاحتجاج من "المجلس التشريعي الفلسطيني" ومن القوى السياسية والصحافة، بل وعموم الناس، لا بل ان الأخبار لم تستطع ان تحدد على وجه الدقة نوعية الأعمال التجارية التي تمارسها تلك الشركة، التي يبدو انها تحتكر كل شيء في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع ذلك فرئيس التحرير إياه يقوم - من جملة مهامه - بتحصيل الضرائب العائدة لسلطة الحكم الذاتي، وتسلمها من السلطات الاسرائيلية، بكل أمانة ونزاهة، وأظنه قد نسي والى الأبد، موضوع تلك المجلة ولا يريد ان يتذكرها أبداً ولو أحياناً. وفي حمى التذكر، تصعد الى الذهن فوضى المؤسسة الثقافية وأحزانها التي لا تعد: في هذه الأيام ثمة صراعات من حول الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وثمة من يهتف بشعاراته دفاعاً عن مؤسسته الخاصة… اتحاده الخاص، باعتباره "الشرعي" و"الأصيل" و"المعبر الصادق" عن الكتاب والصحافيين الفلسطينيين. أسمع الهتاف من هنا، فيجيئني هتاف الرد من الطرف الآخر، فيما أغص بحشرجة حزينة، حين أتذكر انني وجدت نفسي ضائعاً بلا عمل في قبرص بينما زملاء المهنة - وكثيرون منهم قادة في الاتحاد - لا يحركون ساكناً، وكأنهم غير معنيين الا بمواقعهم التي يتشبثون بها، مسقطين من حساباتهم كل الشعارات والأفكار الجميلة التي تملأ القاعات في أيام التحضير للمؤتمرات، لا بل ان هؤلاء الكتاب ذاتهم صاروا اليوم قادة ومسؤولين ثقافيين في سلطة الحكم الذاتي. لماذا يتوجب على الكاتب ان يكون عضواً في مثل هذه المؤسسات؟ يقول الاغريقي تيوكيدس "اذا كانت مصلحتكم ان نكون عبيدكم، فما هي مصلحتنا ان تكونوا أسيادنا؟. وفي حمّى التذكر الأليم تصعد الى الذهن صورة المتخاصمين اليوم حين كانوا متفاهمين، يتفقون معاً على "كوتا" انتخابات الاتحاد، بينما يقف الكتاب الحقيقيون يتامى على مآدب تلك المؤتمرات البائسة وكرنفالاتها الانتخابية، وهم يدركون بوقفتهم المحزنة تلك انهم يغنون خارج سرب القبائل المتصارعة على كسرة وجودهم وكسرة حياتهم. يحق لغسان ان يطلق سؤاله البريء والمفاجئ: لماذا لا تفتح شغلاً لك وحدك؟ ذلك ان المسافة بين الحقيقة الواقعية وبين مخيلته الصغيرة، كانت أضيق من ان تترك مجالاً للتفصيلات الكئيبة التي نعرفها نحن الكبار والتي لا تدع أمامنا ولو قدراً ضئيلاً للتفاؤل، اذ كيف يمكن ان نصدق مثلاً ان تجاوز اتفاقات أوسلو يمكن ان يتم بتجاوز الكتاب الحقيقيين والقفز عن وجودهم وتركيب اتحاد لا يقل بؤساً عن شقيقه الآخر، صاحب أوسلو وما نتج عنه؟ غسان، ولدي الأصغر، كان وعداً في مخيلتي، منذ الشباب، وكنت مصمماً على اسمه الجميل، اكراماً لمن تطاير جسده شظايا ونتفاً صغيرة في شوارع بيروت، تاركاً لنا زاداً لا ينضب من الفن الجميل الذي لا يناله الزمن ولا يجعل منه مألوفاً أو عادياً. وفي زمن الاحباط الذي نعيش، لا تسطع في الذهن الا فكرة واحدة: دعوهم يتناحرون على عظمة المؤسسة، وعودوا يا كل الكتاب الحقيقيين واقبضوا على جمرة الابداع الحقيقي، لأنها ببساطة، جمرة فلسطين.