واذا كان بالامكان مقارنة وقع "انترنت" على المجتمع، بما قام به التلفزيون في الستينات والسبعينات على صعيد التحولات الاجتماعية والثقافية وحتى على صعيد الممارسات الديموقراطية، فإن النقاشات التي يسببها "انترنت" على مستوى دولي تقسم العالم الى كتلتين متضاربتين لا يجمعهما سوى المغالاة والتطرف في الحب كما في العداء. فبعد ان رفضت الشبكة لكونها تحبذ انسلاخ الفرد عن المجتمع والقطيعة معه ومع مؤسساته او لكونها تخلق عالماً وهمياً، أو لكونها بؤرة فساد وبذاءة، اصدرت مجلة "وايرد" الصادرة في سان فرانسيسكو والمختصة في شؤون "انترنت" عدداً خاصاً عن ولادة "الأمة الرقمية" النابعة من عالم "انترنت"! فهذا "الكيان" الجديد مكون من "مواطنين" تخطوا مرحلة الصراع السياسي أو العقائدي ليمزجوا في ممارساتهم اليومية بين انسانية اليسار والحيوية الاقتصادية لليمين... "المواطن الرقمي" يطمح الى العيش في مجتمع ليبرالي معتدل ويشكل اليوم 9 في المئة من مجموع الشعب الاميركي. كذلك، على عكس الصورة التي ترسم هذا الانسان الجديد كمنصب على التكنولوجيا على حساب الحياة الاجتماعية والمشاركة، فانه، حسب المجلة الاميركية، يعد من اكثر افراد المجتمع اهتماماً بما يجري حوله، اذ ان 60 في المئة من المواطنين الرقميين يشاركون في الانتخابات على رغم عدم حماسهم للمؤسسات الحالية المتواجدة على الساحة الاميركية. والعكس صحيح ايضاً، فكلما اظهر المواطن الاميركي عدم شغفه بتكنولوجيا "انترنت"، تبين حسب استقصاء مجلة "وايرد" انه لا يشارك فعلياً في النقاشات السياسية التي تدور في المجتمع ولا يقدم حلولاً وخيارات. كذلك فإن المواطن الرقمي هو من بين طلائع أفراد المجتمع التي تنظر نحو المستقبل ولا تخشاه. واذا كانت تعقيدات التكنولوجيا لا تخيفه، فإنه، على عكس المواطن العادي، يعتبر ان التكنولوجيات الجديدة قد تحرمه من ساعات من الراحة. و"غاوي" "انترنت" يرى في الشبكة وسيلة تعبير جماعية واداة تقدم له فُرصاً اقتصادية وثقافية عديدة. لذا فان 70 في المئة من الاميركيين المشتركين في الشبكة يشعرون ان بإمكانهم ضبط تحولات المستقبل، بينما تسقط هذه النسبة الى 42 في المئة لدى الاميركيين الذين لا يستخدمونها. هذا ما يحمل الانسان الرقمي على التفاؤل في المستقبل وعلى الاعتقاد بأن حياة الاجيال القادمة ستتحسن. وهذه اعتقادات غير واردة لدى المواطنين العاديين الذين يخشون ما يخفيه المستقبل ولا يرون ابناءهم ينعمون في خيارات مجتمع افضل... بيد ان هذا الانخراط في الحياة الاجتماعية ومشاكلها يتوقف امام اجهزة الدولة التي، في وظيفتها التنظيمية، تخيف انسان "انترنت". غير ان "المواطن الرقمي" لا يمكنه العيش خارج اطار القوانين، خاصة عندما تغدو ممارساته معادية للسلم الاجتماعي. هذا ما قررته محكمة في ولاية كاليفورنيا في محاكمتها لطالب جامعي متهم بارسال تهديدات بالقتل لزملاء له آسيويين لا لسبب سوى الاختلاف العرقي ولون البشرة... فهذه هي المرة الأولى في تاريخ الشبكة التي سيساق فيها فرد الى المحكمة بتهمة العنف العنصري، خاصة وان رسالة ريتشارد ماشادو الى تسعة وخمسين طالباً آسيوياً كانت في غاية الوضوح: "سأكرس حياتي للعثور عليكم وقتلكم فرداً فرداً". هذه المحاكمة تظهر ايضاً قدرة المؤسسات "التقليدية"، كالعدل، على هضم التقنيات الحديثة في آخر الامر وارغامها على الرضوخ للمبادئ التي بُنيت عليها المجتمعات الحديثة... كذلك فانه من خلال عدة امثلة جديدة، غدا من الممكن القول ان التقنيات الحديثة يمكنها اليوم، من دون اية تكاليف مادية تذكر المساهمة في تنشيط المجتمع وزيادة لحمته. في لندن اليوم، مركز جديد على "انترنت" مهماته الاهتمام بالجالية السوداء وتقديم معلومات وخبرات لها. "السود ليسوا فقط عارضات ازياء" هذا هو شعار مركز "كرونيكل" الذي يطمح الى ان يصبح مركزاً للنقاش بين الاجيال السوداء المتواجدة في الدول الصناعية، وأداة للصهر الاجتماعي ولفتح آفاق جديدة وآمال للشبان السود. مركز "كرونيكل" يود ايضاً تدريب عدد من الشبان على العمل الصحفي، لكي لا يبقى هذا القطاع في غالبيته في يد الصحافيين البيض. وللمركز البريطاني الجديد مراكز شبيهة في الولاياتالمتحدة مختصة في شؤون الجالية السوداء التي غدا استعمالها للشبكة من اهم مظاهر رغبة هذه الجالية في الصعود الاجتماعي والخروج من دائرة الفقر والعوز... هذا الاهتمام الأسود بدأ ايضاً يحض الجاليات العربية في المهجر على النشاط على "انترنت" ولكن المركز العربي الجديد على الشبكة قادم هذه المرة من الأراضي الفلسطينية. فبينما تهيئ اسرائيل احتفالات للذكرى الخمسين لتأسيسها مُجيشة ميزانية تقدر بثلاثين مليون دولار، ومهيئة قواها في العالم لانجاح هذه المبادرة، قام مركز ثقافي في مدينة رام الله بانشاء مركز على الشبكة اسماه مركز "النكبة" www.alnakba.org. يقدم معلومات عن القرى الفلسطينية التي دمرت لدى ولادة اسرائيل وعن اهاليها الذين اجبروا على النزوح والعيش كلاجئين. مبادرة من دون تكاليف بإمكانها خرق الاحتفالات الاسرائيلية وحتى استغلال حدوثها لإيصال وجهة النظر الفلسطينية لمن يرغب من المئة مليون مشترك على "انترنت".