فما يشهده المغرب هذه الأيام هو ليس أقل من خوض أول تجربة تداول سلمي على السلطة، يجري استناداً الى نتائج عملية انتخابية، هي تلك التي اجريت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، والى اجماع يكاد ان يكون كاملاً من قبل الطبقة السياسية المغربية، في الحكم كانت أم في المعارضة. صحيح انه قد قيل الكثير في شأن تلك الانتخابات، وفي شأن خروقات، يقال أنها تخللتها، وهي مآخذ قد تكون وجيهة لا يجانبها الصواب في بعض الأحيان والحالات، وصحيح ان بعض الأطراف في المعارضة، حتى داخل الاتحاد الاشتراكي، وربما في الادارة، لا يكاد يخفي اعتراضه على هذه التجربة التداولية، أو التناوبية كما يقول المغاربة، وفق منحاها هذا الذي اتخذته، اما لأنه قد تضرر منها، أو لأنه ما زال يحلم بتحولات أكثر جذرية وقطعية، ولكن ما يجب الإقرار به ان كل ذلك لم ينل من ارادة التغيير، أو حيل دونه ودون التحول الى ذريعة لإبطالها. واذا كان لا شك في ان المغرب قد تطور كثيراً وعميقاً، خلال العقود الأخيرة، سوسيولوجياً وذهنياً وسياسياً باتجاه الديموقراطية، فإنه يبقى أن ولوج هذه الأخيرة، وتحويلها الى واقع يندرج في مؤسسات، كان في حاجة، في البدء ولدى لحظة التأسيس، الى فعل ارادة يلتقي عليه الفاعلون الأساسيون، أي العرش وأكبر الاحزاب السياسية المعارضة، حتى يصار الى الإقبال على الأهم، أي خوض التجربة في حد ذاتها، لما تمثله من تطور بالغ الأهمية، مع غض الطرف عن بعض هنات أو خروقات قد تكون قد رافقت عملية ارسائها. وفي هذا الجانب الارادوي من فعل التغيير، يضطلع "الأشخاص" بدور اساسي حاسم. فمثل هذه التجربة ما كان يمكن إلا لحاكم قوي، مطمئن الى موقعه وفيه، كما هي حال العاهل المغربي، ان يقدم عليها، خصوصاً وانه قد برهن خلال السنوات الأخيرة على ارادة ثابتة دؤوبة باتجاه التداول على السلطة الحكومية، كما انه ما كان يمكنها ان تتحقق من دون وجود حزب قوي، لا غبار لا على تمثيليته ولا على تجذره في مواقع المعارضة مثل الاتحاد الاشتراكي وزعيمه عبدالرحمن اليوسفي، ذي الباع الطويل في العمل السياسي، منذ كان عضواً قيادياً في حزب الاستقلال، أيام الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، فرفيقاً مقرباً من المهدي بن بركة، فخصماً عنيداً للنظام، ذاق مرارة المحاكمات والسجون والمنافي القسرية والاختيارية. وذلك ما يمكنه ان يمثل بعض ضمانات نجاح هذه التجربة التداولية التي يقبل عليها المغرب، فالعرش لم يقبل عليها من موقع الضعف، حتى يخشى من ارتداده عليها حالما تغيرت موازين القوى، كما ان المعارضة لم تلجها من باب الوهن، والبحث عن أي موقع قدم داخل المؤسسات، حتى يخشى من ان يكون وجودها في السلطة مجرد ضلوع في "ديموقراطية صورية" أو "ديموقراطية ديكور" كتلك التي أينعت في بعض أقطار العرب خلال السنوات الماضية، فكانت ضجيجاً إعلامياً، أكثر مما كانت واقعاً يندرج في مؤسسات. هي، اذن، تجربة تعايش، أكثر منها أي شيء آخر، على الأقل في طورها الراهن، تخاض عن وعي، وبسابق معرفة من الطرفين، أخذاً بعين الاعتبار لواقع البلاد وتاريخها، بل ووفق قواعد لعبة حددها الدستور الأخير، ذلك الذي جرى الاستفتاء عليه في أيلول سبتمبر الماضي، بدقة كبيرة. وحسب الدستور المذكور، وقد تم التوصل اليه بعد مفاوضات مع أحزاب المعارضة استغرقت شهوراً طويلة، ودعا حزب الاتحاد الاشتراكي انصاره الى التصويت عليه بنعم، يتمتع العاهل المغربي بسلطات تنفيذية واسعة. كيف سيجري التعايش خلال الفترة المقبلة بين العرش، في ما يمثل سلطاته التنفيذية على الأقل، وبين حكومة متأتية من المعارضة، وذات صلاحيات تنفيذية بداهة؟ ذلك ما سيكون أكبر التحديات التي ستواجه التجربة المغربية الوليدة، وأكثرها أهمية بالنسبة للمستقبل. ففي هذا الصدد، لا يمكن القول بأن بنود الدستور أو سوى ذلك من النصوص القانونية ستفي بالغرض، على ضرورتها، بل أن الأمر الحاسم في شأنها سيكون ما سيتوصل الى اجتراحه بالممارسة ومن خلال معالجة الطوارئ والمستجدات التي ستنجم عن مهمات الاضطلاع بالحكم، خصوصاً في ما يتعلق بهذه التجربة التداولية الأولى، والتي يتوقع لما سيصاغ خلالها من ممارسات تعايش ان يكون لها فعل التأسيس لسابقات وتقاليد قد تصبح فاعلة وملزمة لأمد بعيد. وذلك ما يطرح على الضالعين في هذه التجربة، سواء في ذلك القصر أو الحكومة المقبلة، مسؤوليات ضخمة وجسيمة. وقد يأخذ البعض على هذه التجربة انها تبقى بعيدة عن أنظمة الملكية الدستورية بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، طالما ان العرض يبقى متمتعاً بذلك القدر من الصلاحيات التنفيذية. ولكن ما الذي يمنع المغرب من خوض مغامرته الخاصة في شأن اجتراح نموذجه الديموقراطي، ما دام لا وجود من نموذج في هذا الصدد، وما دامت كل حالة ديموقراطية قائمة هي نموذج بداته، صيغ انطلاقاً من واقع البلد المعني، ومن تاريخه السياسي والثقافي الخاص به؟ وفي الحالة المغربية، يمكن تصور نموذج يكون فيه العرش، من خلال سلطاته التنفيذية التي لا يجدله فيها أحد، والتي تتعلق اساساً بالجوانب والخيارات السيادية، ضمانة استمرارية وثبات، في تلك المجالات، بقطع النظر عن تعاقب الحكومات، واختلاف مشارعها. وتوجهاتها، خصوصاً في حالات الاضطراب وقلة الاستقرار الحكومي. وإذا ما تحقق ذلك، فإن العرش ينأى بنفسه، وبتلك المجالات السيادية، عن ان تكون من يمين أو من يسار، ويصبح بذلك طرفاً فاعلاً في الديموقراطية، تلتقي عنده الاجماعات، ويكون المؤتمن على الخيارات الاساسية للبلاد وعلى ثباتها، كلسلطة نافذة، لا مجرد مرتبة احتكام. وقد لا يكون في ذلك ما من شأنه ان ينافي الديموقراطية، اذا ما جرى في اطار تشاوري تعاقدي. يبقى ان المغاربة هم الأدرى بالانموذج الديموقراطي الذي يريدونه لبلادهم، خصوصاً وانهم قد برهنوا في هذا الصدد على ريادية كبيرة. ذلك ان التجربة التداولية المغربية الأخيرة، هي الأولى من نوعها في المنطقة العربية، تتمتع في الآن نفسه بالمصداقية، وتجري بهذه الطريقة السلمية والقانونية. وقبل هذه التجربة، لم نعتد إلا على تعدديات، تفسح هامشاً من الحركة على هذه الدرجة أو تلك من الضيق، ولكنها لا تفضي البته الى أي شكل من اشكال التداول، أو على مناورات تتمثل في إشراك بعض رموز المعارضة في بعض المواقع الهامشية للسلطة، بعد تقديم الاحزاب التي يتآتون منها، أو بانتقائهم من بين أقل الاطراف تمثيلية، أو على محاولات تداول تفضي الى الكوارث والحروب الأهلية. أهمية التجربة المغربية أنها، على ما قد يكون لها من علات، لا تنضوي داخل أي من هذه السيناريوهات البائسة، بما يجعل هذا البلد، الذي لم يزعم لنفسه يوماً دوراً قيادياً، رغم انه قد يكون له في ذلك من الامكانات أكثر من سواه، ولا زعم انه مصدر إلهام لأحد، ولا تشدق يوماً بشعارات التعبئة واجتراح المستقبل خارج حدوده، يأتي هذا الفعل التغييري الذي يضعه في طليعة الساعين الى الانتقال نحو الديموقراطية. غير ان هذه التجربة، التي نتمنى ان يكتب لها النجاح، يبدو أنها لم تنل من نخبنا الاهتمام الذي تستحقه، ربما لأن تلك النخب لا تزال مأخوذة بنماذج العنف، والتحولات الدراماتيكية، والثورات التي لا تبقي ولا تذر.