ان الثورة الحقيقية على الهندسة الاقليدية بدأت على يد العالم الرياضي الروسي لوباتشيفسكي 1792 - 1856 الذي قدم حلاً - غربياً - للفرضية الخامسة لاقليدس التي شغلت اذهان علماء الرياضيات على مدى الفي عام. استند لوباتشيفسكي في حله هذا الى ان الفرضية الاقليدية الخامسة لا يمكن برهنتها في ضوء الفرضيات الاخرى في الهندسة الاقليدية، والى ان تبني افتراض يخالف فرضية اقليدس يمهد السبيل الى ابتكار هندسة اخرى بمستوى هندسة اقليدس في صحة مبانيها وخالية من التناقضات. والفرضية الخامسة لاقليدس تقول: من نقطة خارج مستقيم معين يمكن رسم موازٍ واحد فقط لذلك المستقيم في المستوى نفسه. اما لوباتشيفسكي فقد اقترح شيئاً آخر: من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مستقيمين على الاقل في المستوى نفسه ولا يقاطعان المستقيم المذكور. لا شك في ان هذه الفرضية التي جاء بها لوباتشيفسكي تتعارض مع المفهوم - الاقليدي - السائد، لكنها كانت فاتحة عهد رياضي جديد. ومثل كوبرنيكوس، لم يبدأ لوباتشيفسكي من الصفر. واذا شئنا الدقة، ان جذور هذا التململ الرياضي، اي النزعة الى البرهنة على الفرضيات التي تبدو امراً مسلّماً به، ترقى الى العهود الكلاسيكية، ثم كان للعلماء المسلمين دور كبير في دفعها الى الامام، الى ان تمت الثورة على الرياضيات الاقليدية في عصرنا الحديث. وبهذا الصدد يقول بوريس روزنفيلد وأدولف يوسكيفتش في دراستهما عن الهندسة العربية المنشورة في "موسوعة تأريخ العلوم العربية" التي نعتمد عليها هنا: في حدود اطلاعنا، ان اول مساهمة ما بعد اقليدية تتعلق بنظرية الخطوط المتوازية كانت رسالة ارخميدس "حول الخطوط المتوازية". كان المؤرخ العربي القفطي ذكرها تحت عنوان "كتاب الخطوط المتوازية" مع كتابات اخرى لهذا العالم، اي ارخميدس، كانت متوافرة في ترجمات عربية. وقد حاول بوسيدونيوس في القرن الثاني - الاول ق. م، وبطليموس القرن الثاني الميلادي، وبروكلس القرن الخامس، وأغانس وسمبلسيوس في القرن الخامس - السادس البرهنة على هذه الفرضية الخامسة في كتاب اقليدس، وهي الفرضية المتعلقة بالخطوط المتوازية. وقد وصلنا برهات أغانس Aganis في كتاب الرياضي العربي الاسلامي النيريزي ت 922م وهو تعليق على "اصول" اقليدس. وقد بدأ كل من أغانس وبوسيدونيوس بتعريف الخطين المتوازين بأنهما خطان يقعان في مستوى واحد ويبتعدان عن بعضهما البعض بمسافة ثابتة. اما في العالم العربي فيبدو ان عباس الجوهري، وهو معاصر لأبي موسى الخوارزمي، كان اول من تصدى لهذه الفرضية الخامسة في كتابه "اصلاح كتاب الاصول"، حيث فرض بأن من الممكن رسم خط يمر بنقطة تقع داخل زاوية ويقطع ضلعيها. ثم استعمل العديد من الرياضيين المتأخرين هذه المقولة للبرهنة على الفرضية الخامسة. وقرأت في الموسوعة السوفياتية تحت مادة "لوباتشيفسكي" ان العالم الفرنسي لوجاندر Legendre قال في العام 1800: "من أية نقطة داخل زاوية حادة يمكن رسم مستقيم يقطع ضلعي الزاوية: ومثل سابقيه، استبدل لوجاندر الفرضية الخامسة بتعريف آخر". وهذا هو عين ما جاء به العالم الرياضي العربي عباس الجوهري. لكن هذه المحاولة، المساوية للفرضية الخامسة، لا يمكن البرهنة عليها ايضاً بواسطة الفرضيات الاقليدية الاخرى. بعد بضعة عقود من السنين على محاولة الجوهري طرح ثابت بن قرة برهانين مختلفين آخرين للفرضية الخامسة. احد هذين البرهانين ورد في كتابه "كتاب في انه اذا وقع خط مستقيم على خطين مستقيمين فصيَّر الزاويتين اللتين في جهة واحدة اقل من قائمتين فان الخطين اذا أُخرجا في تلك الجهة التقيا". اما البرهان الآخر فقد ورد في كتاب ابن قرة الموسوم ب "مقالة في ان الخطين اذا أُخرجا الى الزاويتين اقل من القائمتين التقيا". ان برهانه الاول يستند الى الافتراض القائل بأنه اذا قطع خط خطين يقتربان من او يبتعدان عن بعضهما البعض الآخر اذ مُدّا في اتجاه واحد، فانهما يبتعدان عن بعضهما او يقتربان من بعضهما اذا مدا في الاتجاه المعاكس. من خلال ذلك برهن ابن قرة على اننا سنحصل على متوازي اضلاع، ويمضي في اشتقاق الفرضية الخامسة بواسطته. اما اليوم، فاننا نعرف، استناداً الى الهندسة اللاقليدية التي جاء بها لوباتشيفسكي التي لا تصح فيها هذه الفرضية مع ان فرضيات اقليدس الاخرى لا تزال تعتبر صحيحة، ان هناك "خطين منفرجين" عن بعضهما البعض في كلا الاتجاهين عن عمودهما المشترك. في برهانه الثاني، ينطلق ثابت بن قرة من فرضية مختلفة، تستند الى "حركة بسيطة"، يقصد بها حركة انتقالية منتظمة على طول خط معين حركة موازية" لجسم ما على سبيل المثال مستقيم عمود على الخط، ويقول ان كل نقاط هذا الجسم أو المستقيم العمود تشكل ترسم خطوطاً مستقيمة. ويستنتج ابن قرة اننا سنحصل على مستقيمات متساوية البعد. ولا شك في ان برهانه هذا يصح في الهندسة الاقليدية فقط، اما في هندسة لوباتشيفسكي اللااقليدية فان النقاط المتحركة على طول خط مستقيم ترسم منحنيات. ومن فرضية ثابت بن قرة هذه سنحصل على مستطيل، وبذلك يتوصل الى الفرضية الخامسة التي تقول بتوازي الخطين. اما بن الهيثم فقد قدّم استنتاجاً آخر جديداً للفرضية الخامسة في تعليقاته على المقدمات لكتب اقليدس، يبدأ من حركة مستقيم عمود على مستقيم آخر. وانطلاقاً من "الحركة البسيطة" التي قال بها ثابت بن قرة، برهن ابن الهيثم ان النقطة الاخيرة في العمود الذي تبقى قاعدته على الخط ترسم خطاً مستقيماً. ويقول ان جميع نقاط العمود ترسم "خطوطاً متماثلة متساوية"، وبما ان قاعدته تتحرك على خط مستقيم، فان نهايته الاخرى تفعل الشيء ذاته. ثم ان رسم شكل رباعي الزوايا فيه ثلاث زوايا قائمة كان من ابتكار ابن الهيثم. وبعده، اقترح لامبرت J.H. Lambert مثل هذا الشكل الرباعي الزوايا في محاولة للبرهنة على الفرضية الخامسة. ان الزاوية الرابعة في "رباعي الزوايا للامبرت" قد تكون حادة، او منفرجة، او قائمة انظر الشكل. لقد فنّد ابن الهيثم الحالتين الاوليين اي الحادة والمنفرجة بالاستناد الى نظريته القائلة بان النقطة النهائية للعمود المتحرك ترسم خطاً مستقيماً. وبعد البرهنة على استحصال شكل رباعي الزوايا او الاضلاع، استنتج ببساطة الفرضية الخامسة فرضية التوازي. وفي واقع الحال، ان الفرضيتين المرفوضتين حالة الزاوية الحادة والمنفرجة هما نظريتان في هندسة القطع الزائد، والهندسة الاهليلجية على التوالي. واكد ابن الهيثم على اننا اذا رسمنا خطين، احدهما عمود والآخر غير عمود اي مائل على خط آخر، فان الخطين الاولين بتقاطعان. وفي سنة 1882 قدم الرياضي الالماني M.Paseh هذه الفرضية مرة اخرى كموضوعة او فرضية: اذا وقع مستقيم في مستوى مثلث والتقى باحد اضلاعه، واذا مُدّ هذا المستقيم فانه إما ان يتقاطع مع ضلع ثانٍ من اضلاع المثلث او يمر من الرأس المقابل للضلع الاول. وقد استعمل نصير الدين الطوسي هذه الفرضية نفسها في نظريته عن الخطوط المتوازية. وهكذا، فان ثابت بن قرة وابن الهيثم ومن جاء بعدهما، في محاولتهم البرهنة على الفرضية الخامسة، ارتكبوا الغلطة المنطقية التي اطلق عليها ارسطو Petitio Principi المصادرة على المطلوب الاول، وهي ان يُجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد به انتاجه، كمن قول ان كل انسان بشر، وكل بشر ضحاك، فكل انسان ضحاك ينظر بهذا المعجم الفلسفي: د. مراد وهبة. كما ان ابن الهيثم تطرق الى نظرية الخطوط المتوازية في اسهامته الثانية المكرسة لتعليقه على "الاصول" كتاب اقليدس، اي كتاب حل الشكوك في اصول اقليدس وتفسير معانيه. هنا، أشار الى كتابه الاول، والى ملاحظة مفادها انه بالامكان الاستعاضة عن الفرضية الخامسة "بأخرى اكثر وضوحاً وتتقبلها النفس بيسر، هي: ان اي مستقيمين متقاطعين لا يمكن ان يكونا موازيين لمستقيم ثالث". اما عمر الخيام، فقد انتقد في كتابه الاول حول "التعليقات على الصعوبات - التي يواجهها المرء - في مقدمات كتاب اقليدس" برهان ابن الهيثم واستبدله بآخر. لقد رفض الخيام استعمال الحركة في الهندسة وبرهن الفرضية الخامسة بالاستناد الى فرضية اخرى اعتبرها اكثر بساطة، هي: "الفرضية الرابعة من الفرضيات الخمس التي تقدم بها الفيلسوف" يقصد ارسطو. وبذلك تفادى عمر الخيام الخطأ المنطقي الذي وقع فيه سابقوه. ثم افترض وجود شكل رباعي الزوايا فيه زاويتان قائمتان على قاعدته وضلعان جانبيان متساويان، ودرس الافتراضات الثلاثة بشأن الزاويتين الباقيتين انظر الشكل. وفيما بعد قدم ساكيري G.Saccheri 1667 - 1733 الشكل الرباعي نفسه في نظريته عن الخطوط المتوازية وصار الشكل يقترن دائماً باسم هذا الرياضي الايطالي. من خلال هذا الحل دحض الخيام الفرضية القائلة بان الزاويتين حادتان او منفرجتان، وبرهن الفرضية الخامسة. وعُني البيروني ايضاً بنظرية الخطوط المتوازية. ضمن قائمة مؤلفاته التي اشار اليها هو نفسه، هناك "مقالة في ان لوازم تجزيء المقادير الى لا نهاية قريبة من امر الخطين اللذين يقتربان ولا يلتقيان في الاستبعاد". وقد اكتُشف حديثاً مقطع من مقالة البيروني يشتمل على طريقة يعقوب الكندي، الذي برهن بالاستناد الى الخطوط المتوازية، على ان الكميات قد تقسم الى ما لا نهاية، ويشير المقطع ايضاً الى وجهة نظر كاتبها اي البيروني حول الموضوع. ولما كان الخيام، في برهانه الفرضية الخامسة، استعمل فرضيتي ارسطو الرابعة والاولى اللتين بمقتضاهما يمكن قسمة الكميات الى ما لا نهاية، فليس من المستبعد ان نستنتج بأن الخيام كان على علم بمقالتي الكندي والبيروني. ولحسام الدين السلار ت 1262 الذي اشتغل في خوارزم وفي بلاط جنكيزخان وهولاكو، مقالة عنوانها "مقدمات لتبيين المصادرة التي ذكرها اوقليدس في صدر المقالة الاولى في ما يتعلق بالخطوط المتوازية"، يُستنتج منها انه اطلع على مقالة الخيام. وللطوسي رسالتان بهذا الصدد، هما "الرسالة الشافية عن شك في الخطوط المتوازية"، و"شرح اقليدس". ثم ان قطب الدين الشيرازي قدم برهاناً آخر للفرضية الخامسة، لكنه ارتكب الغلطة نفسها التي ارتكبها سابقوه. وهكذا، على مدى اربعة قرون على الاقل، اجتذبت نظرية الخطوط المتوازية اهتمام الرياضيين في الشرقين الادنى والاوسط، الذين عكست مؤلفاتهم تواصل الافكار. وكان ثلاثة من بينهم، ابن الهيثم والخيام والطوسي، قدموا اهم الابحاث المتعلقة بهذا الفرع من الهندسة الذي لم تبرز اهميته الا في القرن التاسع عشر. وفي الاساس كانت افتراضاتهم المتعلقة بخواص الشكل الرباعي الزوايا ارهاصاً للنظريات المتعلقة بهندسة القطع الزائد والهندسة الاهليلجية. وقد اثرت كتابات العلماء المسلمين حول نظرية الخطوط المتوازية بصورة مباشرة في الاهتمامات الاوروبية التي لها صلة بهذا الموضوع. وكانت اول محاولة اوروبية للبرهنة على فرضية الخطوط المتوازية، تمّت على يد فيتيلو Witelo، العالم البولندي من القرن الثالث عشر، عند مراجعته كتاب "المناظر" لابن الهيثم. والبراهين التي تقدم بها ليفي بن غيرسون Levi ben Gerson، الذي عاش في فرنسا في القرن الرابع عشر، والفونسو الاسباني، تستند بصورة مباشرة الى مساهمة ابن الهيثم. وفي القرن الخامس عشر، بعد احتلال الاتراك القسطنطينية، لجأ العديد من اليونانيين البيزنطيين الى اوروبا الغربية حاملين معهم مخطوطات عربية. وهكذا وجدت نسختا "شرح اقليدس" اللتان تُنسبان الى الطوسي طريقهما الى ايطاليا. وما نشر في روما كان إحدى هاتين النسختين. ولقد استقى الرياضيون الاوروبيون معلوماتهم عن الرياضيات العربية عن غير طريق: طريق اسبانيا في القرن الثاني عشر، وبفضل التجارة في البحر المتوسط في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وعن طريق الاغريق البيزنطيين في القرن الخامس عشر. هذه الحقيقة كان لها دور مهم في نشوء وتطور علم الهندسة Geometry في اوروبا.