لا شك في ان الأزمة العراقية ومواقف الادارة الاميركية في شأن سياسة نتانياهو وضعت الفلسطينيين، سلطة وشعباً، والمعنيين ببقاء عملية السلام على قيد الحياة، وجهاً لوجه امام سؤال، ماذا بعد؟ وما هي الخيارات والبدائل فلسطينياً وعربياً ودولياً، لتجنيب شعوب المنطقة ويلات حروب جديدة مدمرة وتفادي الأسوء؟ ان الاخطار المحدقة بالتطلعات العادلة للشعب الفلسطيني وانجازاته تفاقمت، وحكومة نتانياهو تنتظر خطأ ما للتخلص من عملية السلام والتحلل من الاتفاقات. وأي جواب انفعالي متسرع من السلطة الفلسطينية، أو عمل خاطئ من المعارضة، يقدم لنتانياهو خدمة كبرى، ويزيد الاخطار ويوسع رقعتها ويحولها كوارث جديدة تلحق بالشعب الفلسطيني وبأرضه وأهدافه الوطنية. ويظهر التمعن في أسباب ومكونات الأزمة الجديدة مع العراق أنها تختلف نوعياً عن أزمة عام 1991. وانه، إذا لم تكن هناك مواقف مضمرة، يمكن حلها بمبادرات عربية ودولية، تضمن تنفيذ العراق لقرارات مجلس الأمن الدولي، واحترام الادارة الاميركية لرأي الغالبية في الهيئات الدولية، واحترام الاممالمتحدة وبخاصة مجلس الأمن حقوق الشعب العراقي في العيش الحر الكريم ورفع الحصار المفروض عليه، وانهاء العقاب الجماعي الذي يتعرض له منذ ثماني سنوات. وسواء نجحت أو فشلت الجهود الروسية والدولية الاخرى، والعربية التي فاقت من سباتها متأخرة جداً، ومعها الكشف غير البريء عن الفضائج الجنسية للرئيس الاميركي، اشغلت الدول الكبرى، وصرفت اهتمام الرأي العام الدولي عن حال عملية السلام المتدهورة على كل المسارات. وغطت فشل دور الادارة الاميركية في رعايتها، وقدمت لأركان البيت الأبيض ورقة التوت لتستر بها عورة تقصيرها وخنوعها المفضوح أمام حكومة ليكود ومن يساندها في اميركا. وعطلت حركة قوى السلام في اسرائيل، المرتبكة اصلاً، واعطت نتانياهو الذرائع والمبررات للهروب فترة أطول من تنفيذ الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. وأظن ان التصريحات الاستفزازية التي اطلقها ريتشارد بتلر رئيس فريق التفتيش حول امتلاك العراق اسلحة جرثومية قادرة على "تدمير تل ابيب" ليست بريئة اطلاقاً، بل اوحي له بها لخدمة الموقف الاميركي - الاسرائيلي، ولترجيح كفة الخيار العسكري الذي تحبذه ادارة الرئيس كلينتون - اولبرايت. وانه خص تل ابيب بالذكر لتمكين نتانياهو من تسخيف قيمة الاتفاقات مع العرب، والتمسك بحزم بمطالبه الأمنية المبالغ فيها وبررت له تفضيلها على مردود عملية السلام. ومهدت الطريق امامه للتدخل في الشأن العراقي، وحتى للمشاركة بضربة عسكرية أو أمنية اجهاضية ضد العراق وقيادته، اذا وقع الهجوم الاميركي. قد نكون، فلسطينيين وعرباً، لا نزال بحاجة لأن يقنع بعضنا بعضاً بفداحة أخطاء النظام في العراق، وبمدى خطورتها على مصالح الشعوب العربية، وبخاصة شعب العراق العظيم، لكننا بالتأكيد لسنا بحاجة لأن نقنع انفسنا بانحياز ادارة كلينتون الى اسرائيل وبأن العالم لا يرى هذا الانحياز الاميركي، ولا أن لاسرائيل اطماعاً في الأراض والنفط والمياه العربية. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف بيننا كفلسطينيين وعرب على ان دور الإدارة الاميركية كراع فاعل وقادر على حماية السلام وحماية الاتفاقات التي انتجتها قد انتهى ودخل مرحلة العد العكسي، وبدأ بالانحدار السريع قبل صعود عشر المسافة المطلوبة، وقبل تزويد عملية السلام الطاقة الأولية اللازمة لبقائها على قيد الحياة. ويفترض بجميع المعنيين بشؤون المنطقة التعامل مع اللقاء الأخير الفاشل الذي عقده كلينتون مع نتانياهو ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية باعتباره محطة فاصلة في تاريخ تفرد الادارة الاميركية في رعاية عملية السلام. ويخطئ من يعتقد بأن ما فشل كلينتون وعرفات ونتانياهو في تحقيقه سيحققه الوزير صائب عريقات وداني نافيه مستشار نتانياهو في لقائهما المرتقب في واشنطن، أو دنيس روس منسق عملية السلام، اذ أظهر من جديد على مسرح المنطقة، وتجول لاحقاً بين عواصمها. فما عجز عن تحقيقه الرؤساء لا يحققه المستشارون والخبراء، خصوصاً ان نسف المفاوضات يتم في وقت تهز العاصفة أركان البيت الأبيض، وسقف الضغط الاميركي على حكومة اسرائيل صار معروفاً سلفاً للجميع. لا يصلح الاقتراح الاميركي للتداول كأساس لمعالجة أزمة الثقة بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتانياهو، ولا ينقذ عملية السلام، بل يشيع أجواء تشكيكية في النيات الاميركية تجاه الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين ويخلق سابقة خطيرة، ويقود الى اعادة فتح الاتفاقات الموقعة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائىلية واعادة صياغة بعض بنود اتفاق الخليل من جديد. ويجزئ مراحل الانسحاب لمراحل جديدة متعددة. ومساحة الأرض المقترح نقلها من السيطرة الاسرائيلية للسيادة الفلسطينية محدودة جداً ولا تصل الى 12 في المئة ولا تتناسب مع ما ورد في الاتفاق. اما الجدول الزمني المقترح اميركياً لتنفيذها، فهو "أكثر من 12 أسبوعاً" ويضيف أربعة شهور الى الزمن المهدور، ويفسح في المجال لحكومة ليكود للتلاعب بالتنفيذ، ويبقي المسألة عرضة للتأثر بالتطورات المحتملة، ناهيك عن كون الاقتراح خاضعاً للمناقصة مع الاسرائيليين، والأخطر من ذلك كله هو ان الاقتراح الاميركي يفرض شروطاً تعجيزية وقاسية جداً على السلطة الفلسطينية، ويستجيب للموقف الاسرائيلي الرامي الى قتل الوقت والتدخل في كل الشؤون الفلسطينية الداخلية، فالحديث الاميركي عن لجنة ثلاثية لمعالجة "التحريض الفلسطيني" تعني فرض وصاية اسرائيلية - اميركية على سياسة الاعلام وعلى خط التعبئة والتثقيف والتوجيه الوطني الفلسطيني. اما النص على تزامن تنفيذ المرحلة الأخيرة مع بدء مفاوضات الحل النهائي فيعني عدم تنفيذها اطلاقاً، وانما يعني زج المفاوضات في متاهات جديدة لا أفق لها، والاستمرار في دق الماء في الإناء. واذا كانت موازين القوى والأوضاع الذاتية والاقليمية والدولية تفرض على الفلسطينيين اعتماد قاعدة "خذ وطالب" ومراكمة الانجازات مدماكاً فوق مدماك كأساس لانتزاع حقوقهم، فالقبول بالشروط الاميركية المجحفة المقرونة بالعرض بالبائس تهز مرتكزات موقفهم التفاوضي وتضعفه عربياً ودولياً، والتجربة اثبتت ان ضمانات اميركا في عهد كلينتون لا يعوّل عليها. واذا كانت الرعاية الاميركية حكمت على نفسها بالفشل من دون اعلان رسمي، فإن مصالح الشعوب العربية قاطبة والنظام العربي ككل، تفرض على الحكومات العربية النهوض من سباتها العميق لتجنيب العراق ويلات الدمار والخراب والتقسيم، وتجنيب أنفسهم وبلدانهم كوارث ما بعد خراب بغداد. وتتطلب تلك المصالح أيضاً العمل على ابقاء الاضواء الدولية والاقليمية مسلطة على الصراع العربي - الاسرائىلي، وجوهره القضية الفلسطينية، وعلى احتلال اسرائيل لأراضي الدول العربية الاخرى. كما تفرض على القيادة الفلسطينية التشاور مع الحكام العرب في قرارها النهائي حتى لو تنصلوا من مسؤولياتهم، ولم يعملوا على سد الفجوات الموجودة في الصف العربي التي يمكن ان يتسلل منها نتانياهو لتحميل الفلسطينيين مسؤولية انسداد الأفق أمام عملية السلام. وإذا كانت مصالح العرب في هذه المرحلة تقتضي حل صراعهم مع الآخرين سلمياً، فالواضح ان مسقبل السلام في المنطقة أصبح بحاجة الى جهد عربي استثنائي موحد يسهم في زج ثقل الكتل الدولية في العملية السلمية الجارية مع الاسرائيليين، وفي حل الأزمة العراقية. وفي هذا السياق تبرز الحاجة الماسة لعقد قمة عربية شاملة، ووضع استراتيجية عربية مشتركة. فالنظام العربي أصبح كالرجل المريض الذي يتربص الطامعون بأرضه وامكاناته. وتأخير انعقادها لا يعالج مشاكل الدول العربية بل يفاقمها كما يزيد مطامع الآخرين وتطاولهم. وينطبق ذلك ايضاً على ترك الفلسطينيين وحدهم يواجهون ضغوط كلينتون وابتزازات نتانياهو. وأظن ان حضور القيادة العراقية لهذه القمة ضرورة قومية. فالاقناع هو الوسيلة الواقعية الوحيدة الكفيلة بثني القيادة العراقية عن بعض مواقفها الضارة بشعبها وبالعرب، وتعطيل اندفاعها نحو خطوات مدمرة للذات وللآخرين. وتجارب العرب، في عزل بعضهم بعضاً، بينت ان العزل لا يعالج الأزمات القائمة بينهم، بل يعمقها. صحيح ان خطيئة النظام العراقي في العام 1990 كانت كبيرة لكن الصحيح ايضاً ان الاستمرار في عزله يدمر شعب العراق وأرضه ويقسمه ويخلق للعرب قضية جديدة لا تقل خطورة وتعقيداً عن القضية الفلسطينية. فهل يضع الزعماء العرب المصالح القومية العليا فوق الاعتبارات الاخرى، ام تبقى المواقف الانفعالية سيدة السياسة الرسمية العربية الى حين خراب البصرة وضياع القدس؟