من فجوة إلى فجوة تنتقل عيناه المرهقتان بين أغصان شجرة السدر، تراقبان السماء المفتوحة، ثم ترتدّان إلى الشجرة الصغيرة، تقتحمان الجذوع المكشوفة في الوسط، وتنفذان إلى الأوراق المبعثرة في الأطراف. "لِمَ تأخر الغراب؟". يتساءل بصمت، وعيناه تراقبان في ضجر، بينما الهدوء يعمّ السدرة، وأسراب العصافير تجنح إلى الأرض، ثم تندفع باتجاه الحقول البعيدة، وأزهار عبّاد الشمس تتفتح وتستدير في انتظام باتجاه هالة الضوء المتصاعد من الأفق. "هل يأتي اليوم؟". كلما وسع الفجر محيط شعاعه، تزداد الكوة التي ينتظر عبرها ضيقاً حول عينيه. يسمّونه جبَير بتصغير الأسم، وهو جبر للتدليل، وفي الأصل جبار، ثم نسوه تماماً، إثر هربه قبل عشر سنين من القرية التي طعن فيها واحداً من أبناء غداف اثنتي عشرة طعنة يقول السكان اثنتين وعشرين بسبب شجار حول ابنة المعلّم. هرب إلى العاصمة، وعاش هناك في زاوية لا يعرف مكانها أحد يقول الجيران ذهب جنوباً إلى الميناء وعمل فوق سفينة تجوب البحار. إلاّ أنه لم يذهب إلى أي مكان، تخفّى في التلال القريبة لبضعة أشهر، ثم تسلّل إلى بيت والده، ليختفي داخل فجوة تحت السقف، وظل آل غداف الذين توارثوا منصب المختارية من أبٍ عن جد، على رغم شفاء ابنهم وزواجه من الفتاة، يراقبون طريق العاصمة بعين، ويثبّتون الأخرى على القرية، لأن جبير إذا لم يكن يحوّم قريباً من بيت أبيه منذ تلك الفترة، فإنه سيعود إليه خفيةً يوماً ما، لزيارة امّه، فتفتح عليه بنادق آل غداف وأزلامهم لساناً من جحيم. يبتسم جبر خلف الكوّة، بعد أن ينتزع نفسه للحظة من القلق، ويفكر أن الناس يتطيّرون من الغراب، يعرفون ان نعيقه يجلب الشؤم، يبشّر بالمصائب الجماعية، بالأوبئة وبالحرائق وبالمجاعات، بَيدَ أن هذا الغراب يمثل ناقوس الأمان بالنسبة لوضعه، إذ ما أن يقدم موكب آل غداف، الموكب المدجج الذي يكون سبب قدومه، في أحيان كثيرة، الهجوم على البيت لتفتيشه، حتى ينعق الغراب، فيرتقي جبير الجدار ليختبئ داخل السقيفة، إلى أن ينعق من جديد، فيعلم أنهم مرّوا، يسمع هدير سياراتهم الفخمة يبتعد، حينها يهبط إلى الدار. لكن، "ما الذي أخّرَ الغرابَ اليوم؟" بالنسبة لآل غداف، المشهورين بالعناد، يعتبر الثأر جزءاً من مقومات الشرف، والشرف ذاته عامل أساسي من عوامل البقاء، في جانبيه الغيبي والملموس، فشرف آل غداف، من دون اللجوء إلى البنادق، يمنحهم الاحساس بالأمان، وإذا اضطروا إليها، يضيف إلى هذا الإحساس الاعتزاز بالنفس، وكل شؤون الحياة الأخرى هي مجرد تفاصيل، تغذّي الروتين اليومي للزمن، بما في ذلك المدرسة الصغيرة التي شيّدوها حجراً فوق حجر، بأموالهم وعواطفهم، واختاروا لها مكاناً بارزاً في القرية، ليتعلّم الاولاد أغاني بلدهم وتاريخها. أما جبار، فيخاف حياة العاصمة، وترعبه السفن والبحار، لذلك لزم السقيفة، قريباً من امّه المتوحدة بعد وفاة أبيه، وأصبح النعيق، على رغم ما يثيره من فزع، القانون الوحيد الواضح في حياته، والكوّة الصغيرة منفذه الأخير على العالم، العالم الذي افتقد اليوم أهم ملمح فيه، الغراب. منذ اختيار الفجوة، لم يُطلع والدته على قصة حارسه اليقظ، لن تصدق، اضافة إلى أنها تعرف الكثير من علامات النحس التي تجلب المحن لبني الإنسان، في مقدمها الغراب، لكنه سألها يوماً، وهو يجلس على الأرض في المطبخ يتناول شاي الفطور، عن عمر الغربان. "إنها بعمر الإنسان". قالت بلهجة صارمة، مشحونة بالنُذر. وفي تلك اللحظة بالذات أطلق الغراب زعيقاً ملحاً، محشرَجاً، فسقط كوب الشاي من يد جبير وهو ينهض، ترك المطبخ وقفز على الجدار ليصبح، خلال لحظات قصيرة مفعمة بالهلع والارتباك، داخل الفجوة، وبالفعل، ما أن وصل مخبأه الضيّق حتى سمع هدير موكب آل غداف في الطريق. وهو اليوم ينظر عبر الكوة، يراقب التلال والمزارع تنكشف بضربات سريعة، جذلة، من الوهج الذهبي المتصاعد، من دون أن يظهر أي أثر للغراب. "هل حصل مكروه أخّر الغراب عن المجيء؟". يتوتر قلقه، يراقب السماء، تمرّ بقع دكناء صغيرة هائمة في الفضاء، زرازير وخطّاف ودوري، تعبر من بعيد وتمحي في الوميض. يفكّر: إذا مرّت السيارات لن يسمع ضوضاءها، إلاّ حين يداهِم آل غداف البيت، ويفتكون به. يفتقد حضور الغراب، لأن وجوده اليومي على الشجرة يسلّيه، إلى جانب الأمان الذي يبعثه في قلبه المحاصر بالجدران، يقضي معه ساعات طويلة، يراقب سواده الفاحم، عينيه الصغيرتين، هدوءه، مثابرته الغريبة على الحضور. يرمي إليه قطع لحم، فتات خبز، يرميها على الارض أسفل الكوّة ليغذّيه، ليمنع عنه الحاجة إلى البحث عن الطعام في أماكن بعيدة، لكن الغراب لا يلتقط أي شيء، يبقى في مجثمه صامتاً، يلقي على الكوّة نظرات متناوبة، سريعة، من عينه الصغيرة هذه، ثم من الأخرى، لا ينفرج منقاره إلاّ لينعق معلناً عن قدوم موكب الرعب، فما الذي أعاقه اليوم عن المجيء؟ على الرغم من الاطمئنان الذي يبثه وجود الغراب في دماء جبير، فيسمح له بالنزول أثناء النهار والتجول داخل البيت، إلاّ أن صوته المبحوح كثيراً ما يبلبل افكاره حين ينطلق محذراً من الشرّ القادم، إذ يفكر، بعد ذهاب الخطر، بالعناصر غير المتجانسة في قانون المصير، والتركيبة الساخرة التي يعمل بموجبها القدر. مع ذلك، كيف يتدبر أمره مع آل غداف1 من دون الغراب؟ "عساه يأتي غداً!". يقول لنفسه، وقد أثقل النعاس عينيه، وخيم الظلام على شجرة السدر التي ظهرت له، بين النوم واليقظة، محمّلة بثمار النبق وهو يتسلق أغصانها كما كان يفعل في صباه، يأكل ويرمي الباقي إلى الاولاد على الارض. غير أن السدرة في اليوم التالي لم تنطق بشيء، منذ أن نهضت أسراب العصافير من أوكارها، إلى أن غاب الوهج الأخير للنهار خلف التلال، وأغمض عبّاد الشمس أجفانه. لم ينزل من مخبئه، حين نادتْ امّه بعد أن انتهت من إعداد الغداء، كان يقرفص لليوم الثالث خلف الكوّة، أعصابه وجلده وشعر رأسه تبحث، في يأس مرير، عن بقعة سوداء، كبيرة، تعبر السماء. قال: منذ اليوم، ترفعين لي الطعام في صحن واحد، إلى الفجوة، يا امّي. 1 الغداف، غراب أسود ضخم.