هناك تجارب فريدة قليلة يمر بها الإنسان في حياته قد تغير كل شيء فيه وتصنع منه شخصاً مختلفاً كلياً عن الشخص الذي كانه في السابق. بطبيعة الحال لا يستطيع كل شخص مر بهذه التجارب أن يكتب عنها رواية أو قصيدة أو حتى ذكريات، لكننا هنا مع ديوان «جرعة زائدة» للشاعرة ليال بزيع (دار غوايات) سنجد تلك التجربة مجسدة بالصور واللغة والموسيقى الناعمة. أول ما يثير في هذا الكتاب هو عناوين القصائد كما هي حال عنوان الكتاب، فعنوان القصيدة الأولى هو «انتحار» ومن هذا العنوان وما يوحي به جاءت عناوين القصائد الباقية إما لتدل عليه أو توحي بما يدور حوله. ما نريد الإشارة إليه هنا هو الصدق الفني في عملية الكتابة والحفر في التجربة إلى درجة الانجراح حتى لو كان ذلك على حساب تقنيات الكتابة وجماليتها، وسيظهر ذلك في المقاطع التي سنختارها:» أيعرف أحدكم سكوناً قاتلاً / من هدير الموج وصرخة البحر / نوافذ حارقة / وقمراً يلف المدينة بالنعاس / أيعرف أحدكم أشباحاً سوداً تغازل فتاة من فراغ / زمناً حافياً من أقدام ملوثة بقمامة الغبار النفطي / سريراً بارداً لا يدفئ النيام / وبيتاً حاقداً على ضحكات المرايا». ( قصيدة انتحار). ثمة أمور كثيرة تدفع الناس إلى الانتحار، لكن الأمر الذي يدفع هؤلاء الناس إلى الانتحار من اجل مطلب جماعي يكون قضية أخرى شديدة الخصوصي، والشاعرة ليال بزيع تصور هذا الموقف في واحد من نصوصها المعنون «عالم ساذج» تقول فيه: «عالم يمسح قبح السياسة / عن أفواهه / لا يعرف من الوطن / سوى السياج / من السماء سوى الطير المهاجر / من البحر سوى مرآته / من القتلة سوى العقارب والأفاعي / من الأساطير سوى الخيل والجمال / اشتقت إلى عالم ساذج / لا أجد فيه كتاباً / في مقبرة». موقف من الحياة يتحدث الناس كثيراً عن مواقف ينبغي إن يتخذوها من الحياة والعالم قد تكلفهم غالياً أو قد تكلفهم حياتهم كلياً، والشاعرة هنا تتخذ موقفاً من العالم والحياة في نصوصها هذه التي تشير إلى مطلب جماعي يخص الوطن والناس. هذا الفعل الإنساني هو الذي يمنح الحياة قيمتها الفريدة. في مقطع آخر وتحت عنوان «حياة» نجد علامات أخرى كثيرة تشير إلى تلك المطالب الجماعية التي تخص الناس وتدفعهم إلى الانتحار لأن هذه المطالب لم تتحقق:» في الغابة بيت / في البيت غراب / يأكل ما تبقى من خبز الجياع / ويشرب ما تبقى من ريقهم / يقيم حفلة راقصة احتفالاً بانتحار الطيور / وينعق الأمل فيصير خوفاً من الموت / يصلي للهزائم اليباس اليأس / يقرأ قصص الحروب وسقوط الحضارات وإبداع القتل / يرتدي الشجر كقناص على الحرية». تصف الشاعرة الحياة هنا بالغراب الأسود الذي يأكل ويشرب متاع الجياع، الغراب الذي ينعق الأمل ويحتفي باليأس والجنون وسقوط الحضارات وموت الجمال مع أنها تتحدث عن «حياة « ولكن أي حياة ؟ إنها حياة الناس التي لا تريد لها إن تكون كذلك لأنها حياة ناقصة ولا تستحق إن يعيش الإنسان عذاباتها. في قصيدة «مرض يتفحم» تتحدث الشاعرة عن تجربة الانتحار الذي لا يتم والمشاعر التي يخلفها هذا الفشل في القضاء على الحياة التي تتحول إلى مرض متفحم ليس له دواء «استبدل القمر بدواء / كي أحلم أكثر / السنديان الذي يراقب نافذة المشفى / يهزأ من تعب نفسي / المدينة المسكونة بالغرباء لا تعرفني / أبحث عنها / الأشباح المارة في الطرقات / ترثي المرض المتفحم / محاولة الانتحار... تسخر من فشلها». قد تدرك الشاعرة إنها تصف حالة الفشل في القضاء على الحياة في حين إنها تؤنسن الأشياء فيتحول الشجر إلى كائن ينظر من النافذة والمدينة إلى امرأة لا تعرف الشخص الذي يناديها، حتى محاولة الانتحار تقوم بالسخرية من هذا الفشل. يظل دائماً في النهاية خيط من الأمل تدعو إليه ليال في هذا المقطع القصير «تأبطي الريح / احملي وردة في قلبك / إلى الله / ربما تصيرين نجمة / أهديك عيني / وأستريح».