الفضيحة الجنسية الحالية قد كلفت حتى اليوم أكثر من ثلاثمئة مليون دولار دفعها، بكل سرور، الشعب الأميركي عبر ضرائبه. للاستعراض تكاليف بالطبع، وضحاياً أيضاً. ومجتمع التلفزيون العريض بدأ يسأم من مصرع ديانا وخفاياه، انه يريد "رأساً" كونياً جديداً قادراً على ابقاء ربة المنزل الخمسينية طوال الليل والنهار أمام جهازها الصغير يعلمها بكل تطور جديد للحدث… فالأحداث الأخرى لم تعد تعني العالم على رغم خطورتها، هذا ما فهمه الكاتب الايطالي "انزو سيسليانو"، مدير عام التلفزيون الرسمي الايطالي، "راي"، الذي قدم أخيراً استقالته بعد سنة ونصف من المحاولات الفاشلة من رفع مستوى البرامج… فسيسليانو، الذي عُيّن مديراً للتلفزيون، بعد نجاح تجمع الوسط اليساري في الانتخابات الايطالية، لمواجهة "ديكتاتورية جمهور الاستعراض"، لاقى فشلاً ذريعاً. حتى ان نشرة أخبار محطة "كانالي 5" التجارية البرلسكونية أضحت تستقطب جمهوراً أكثر عدد من نشرة أخبار محطته الجادة… سيسليانو أراد ايقاف برامج التسلية والألعاب والتخفيف من عدد بث مباراة كرة القدم، والنتيجة جاءت معاكسة لطموحاته "الجمهور العريض" لم يتبعه وفكرة بيع القطاع العام التلفزيوني للشركات الخاصة غدت مقبولة بعد فشل سيسيليانو في محاولة رفع مستوى التلفزيون. اما محطة SIC البرتغالية التي بدأت بثها سنة 1993 غدت اليوم المحطة الأولى في البلاد مستقطبة حوالى 50 في المئة من المشاهدين المتشوقين للاستعراض ودموعه بعد سنين من رتابة برامج المحطة الرسمية. SIC تذيع كل أسبوع نسبة عدد المشاهدين الجدد التي جذبتهم ولا تخجل من القول جهراً بأن غايتها الأولى زيادة أرباحها المادية حتى ولو اضطرت الى تقديم، على طريقتها، نشرات اخبارية مطولة، ملأى بالفضائح، أو تخصيص عدد من اعلاناتها لمكافحة داء السرطان! التجربة الفرنسية أيضاً في العشر سنوات الأخيرة لا تقدم في مضمونها نوعية مختلفة عن البارق الايطالي أو البرتغالي. البرامج الثقافية التي كانت تقدم ساعة الپ"Prime Time"، الثامنة أو التاسعة مساءً، غدت اليوم في خانة أواخر الليل، لأن الجمهور العريض لا يريد مشاهد برامج "نخبوية"! قوانين الاستقصاء التي تربعت على عرش التلفزيون الفرنسي منذ عشر سنوات تقريباً، خلقت شخصية المشاهد الوهمية "ربة المنزل ما تحت الخمسين" التي باسمها أضحى ممكناً فرض المسلسلات التافهة والبرامج الاستعراضية وإبعاد "الثقافة" الى ساعات منتصف الليل. من هو المسؤول الفعلي؟ هل هو الطاقم السياسي الذي رحب بفكرة تخصيص محطات التلفزيون وبيعها لشركات تجارية، وبالتالي تشجيع المنافسة الرخيصة بينها؟ هل هو الطاقم السياسي الذي قبل بأن تدخل العائدات الاعلانية في موازنات محطات التلفزيون الرسمية جاعلة بذلك هذه المحطات عرضة لتمنيات شركات الاعلان وطموحاتها؟ وحدها البي. بي. سي. في أوروبا، وذلك رغم مرحلة الثاتشرية، استطاعت عدم ادخال الاعلان في موازنة التلفزيون. أسئلة عدة موجهة للسياسيين الفرنسيين والغربيين في مسؤوليتهم عن تدني مستوى البرامج التي، على رغم وجهها المحق، تخفي مسؤوليات اخرى… مسؤوليات النخب الأوروبية التي لم تهتم يوماً ما جدياً بالدور الذي يلعبه التلفزيون في حياتنا اليومية. حتى مفهوم "الجمهور" لم تشأ النخب دراسته ومعرفة الفوارق بين حضور البرامج أو شرائها وتقبلها. فالمثقفون في العالم لم يروا في التلفزيون هذه الاداة التي يمكنها جعل الثقافة أكثر ديموقراطية، بل الخصم الذي سيضعف سلطتهم على المجتمع. ظاهرة محطة آرتي التلفزيونية الثقافية التي لا تستقطب أكثر من 2 في المئة من جمهور المشاهدين تستهوي النخب الفرنسية والأوروبية، على رغم انها تساهم في خلق نوع من "ابارتهايد" بين المشاهدين، وتخول المحطات العامة اللجوء الى أرخص الأساليب، طالما أضحى للثقافة محطتها! فالتلفزيون الذي يمكنه بناء هوية للمجتمع غدا في ظل مئات المحطات المختصة عاملاً في تكريس الشق بين الفئات الاجتماعية وبين "المثقفين" و"العامة"… لذا، فبين مصرع ديانا وخيانات بيل وتوعك صحة الملكة - الأم الهرمة البريطانية، أتى دخول عشرين عاطلاً عن العمل "عنوة" احد برامج التلفزيون الفرنسية، لتذكير العالم بالواقع اليومي، كحدث غير متوقع و"صحي"… غير انه سرعان ما ظهر ان هذا الخرق للروتين الاستعراضي لم يكن سوى عملية مدروسة من مسؤول البرنامج الذي لم يعد يدري كيف يمكنه استقطاب عدد جديد من المشاهدين. حتى المآسي الاجتماعية أصبحت عرضة للاستعراض… انه التلفزيون ذاته الذي يهز عرش بيل.