يحلو لنا في بعض المفاصل التاريخية والزمنية أن نتوقف قليلاً لنسترجع الأحداث والذكريات بكل ما فيها من حلو ومر وسلبيات وايجابيات لعلنا نستخلص منها الدروس والعبر ونحاول الاستفادة منها من أجل المستقبل. وفي هذه الوقفة السريعة بين عامي 1998 و1999 اسجل أبرز محطات العام المنصرم بكل ما فيه من تطورات وشؤون وشجون وهموم حتى لا ننسى دروسها ومعانيها وأبعادها وانعكاساتها على حاضرنا ومستقبلنا. فقد كان عام 1998 بلا شك عام بنيامين نتانياهو رئيس وزراء حكومة الليكود المتطرفة ومن لف لفه من عتاة الصهاينة! فقد تكبر وتجبر وتعنت وتحدى العرب وأهان الفلسطينيين وتمرد على وليه أمره ومصدر قوة اسرائيل ونفوذها ودخلها، وهدد باحراق نصف واشنطن دون ان يتجرأ أميركي واحد على محاسبته أو الرد عليه! وأكمل تجبره بطرح ورقة استقالة حكومته واجراء انتخابات مبكرة. فطوال عام 1998 كان نتانياهو يسرح ويمرح ويملي شروطه على العرب وعلى الأميركيين ويتنصل من التزامات اسرائيل تجاه اتفاقات السلام والمبادرة الأميركية ومرجعية مدريد ويسخر من كل الافرقاء ويطالبهم بأن "يبلوا أوراقها... ويشربوا من مائها"! ويبتز ويناور ويساوم ليحصل على ما حصل عليه في اتفاق "واي بلانتيشن" ثم يحاول التنصل منه وتفريغه من محتواه. لقد تعرضت القضية الفلسطينية لسلسلة من الطعنات والنكسات والتنازلات على مدى نصف قرن حيث صادفت ذكرى مرور 50 سنة على نكبة فلسطين في أيار/ مايو 1998، وأبدى العرب والفلسطينيون نوايا حسنة لم تقابل سوى بالاجحاف والاستخفاف والصد والاستهتار من قبل الاسرائيليين الذين أدى بهم الجشع والطمع الى المطالبة بمزيد من التنازلات لالتهام أراض جديدة وحقوق أخرى في كل مرة يوافق فيها العرب على شروط تفرض عليهم من قبل الراعي الأميركي وغيره من الرعاة... فكلما قالوا لها خذي قالت هاتوا المزيد وكأنها تقمصت كدولة ارهابية جشعة شخصية تاجر البندقية "شايلوك" الذي جسد فيه شكسبير كل معاني الطمع الصهيوني المتوحش الذي لا يعرف الرحمة ولا الشبع. وهكذا نجح نتانياهو في وأد القضية الفلسطينية وعمل منذ تسلمه الحكم قبل عامين على تفريغ كل المعاهدات والاتفاقات من معناها ومبناها حتى حولها الى خرقة بالية لا قيمة لها ولا وزن. فاتفاقات أوسلو لم تكن مثالية بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين بل جاءت مليئة بالثغرات والأخطاء والنواقص والبنود المجحفة والشروط المهينة والقيود المكبلة لكل ما يتعلق بالشخصية الفلسطينية من حقوق وهوية وأرض وسيادة ومرجعية ولاجئين وعودة. ومع هذا قبل الفلسطينيون بها، ولم يعترض العرب، لأن معظمهم تبنى نظرية "نقبل ما يقبل به أصحاب القضية". ولكن حتى هذا القبول الذي يشبه ورقة التوت الأخيرة استكثرته حكومة نتانياهو على أصحاب الأرض والحق فطالبت بنزعها إكمالاً لمأساة التعرية الكاملة. واستجاب الفلسطينيون لطلب الغاء بنود الميثاق التي تتحدث عن تدمير اسرائيل من أجل عيون كلينتون الذي قام بزيارة تاريخية لغزة. عملية النصب الكبرى بحق فلسطين تحولت الى نسب وكسور وأعشار في اطار خطة جهنمية محكمة من قبل الصهاينة بدأت باستخدام ورقة عامل الوقت والتضليل ثم أكملها نتانياهو بخطوات التقزيم والتشويه تمهيداً للفصل الأخير الرامي الى التكفين والوأد والدفن. فالقضية الفلسطينية لم تتعرض طوال نصف قرن لمثل ما تعرضت له خلال عام 1998 على يد نتانياهو وعصابته: رفض الانسحاب، وعدم الالتزام بالاتفاقات وخرق بنود اتفاقيات أوسلو، واقامة المستعمرات وانتهاك المقدسات وتهديد المسجد الأقصى وتسريع خطوات تهويد القدس وتوسيع نطاقها لتحويل العرب من سكانها الى أقلية محصورة في أحياء ضيقة ورفض الانسحاب من الجولان والتحايل على القرار 425 بالنسبة للانسحاب من لبنان بفرض شروط تعجيزية واكمال عملية بناء الترسانة العسكرية والنووية. فهل نجح نتانياهو في وأد القضية الفلسطينية... ووأد السلام؟ ونستطيع القول انه لا عزاء للعرب في كل ما يجري من أحداث حولهم وفي ديارهم وفي ما يطرأ ويقع بين عام وعام فهم اما مغيبون أو غائبون عن مركز القرار ومعهم "الضمير الغائب"... الضمير العالمي أو ضمير ما يسمى بالشرعية الدولية المزعومة والضمير العربي الذي لم يتحرك بعد من سباته رغم كل الصدمات والصفعات والمؤامرات. العالم كله يتجه نحو التكامل وتجميع صفوف الكتل المتماثلة والقوى الاقليمية التي تسعى لبناء قوة مرهوبة الجانب تستطيع مواجهة متطلبات النظام العالمي الجديد، والعرب ما زالوا متشبثين بالفرقة والتشرذم و"مسرورين" باستمرار الخلافات رغم ادراك الجميع للمطامع الأجنبية والمخاطر الصهيونية المتمثلة في ممارسات حكومة الليكود الاسرائيلية ومخططات نتانياهو وعصابته للهيمنة على العرب. محاولات عقد قمة عربية تتخذ مواقف حاسمة وجديدة آلت الى الفشل خلال العام المنصرم، ولكن بارقة أمل وحيدة ظهرت في الأجواء العربية وتمثلت في القمم الثنائية والتوافق التام بين المملكة العربية السعودية ومصر وسورية وانعقاد لجنة القدس برئاسة الملك الحسن الثاني في الدار البيضاء واتخاذها توصيات، قد لا ترقى الى مستوى الطموحات والآمال ولكنها كرست على الأقل مبدأين هامين: وحدة المسلمين بالنسبة للقدس، ورفض أي تغيير في وضعها وتأكيد لا شرعية أي قرار أو اجراء اسرائيلي في المدينة المقدسة. وجاءت الضربة العسكرية الأميركية والبريطانية للعراق لتودع العام بتفجير "النوايا" بعد تردد استمر طويلاً وصبر على لعبة "القط والفأر" تأرجح فيها الوضع بين تصعيد خطير وتبريد مفاجئ يجمد الضربة المنتظرة الى أن نفد صبر واشنطن ولندن ونفذتا ضربتهما بدون سابق انذار وسط مزيج من المواقف وردود الفعل والانعكاسات والتوقعات بشأن مستقبل العراق وتأثير تطوراته على الخليج والمنطقة بأسرها. فالشرخ الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت عام 1990 لم يثم ردمه حتى الآن وبقي حال التأزم والشد والجذب على ما هو عليه خلال العام المنصرم حتى وقوع الضربة العسكرية بعد أشهر قليلة على نجاح الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان في نزع فتيل الانفجار الكبير في المنطقة. ضربة عسكرية كبرى ضد العراق من قبل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وبعد تراجع العراق عن شروطه الخاصة بلجان التفتيش ولا سيما في القصور الرئاسية ثم في الأزمة التالية بشأن وقف التعاون مع اللجان. ونسجل هنا نقطة ايجابية مهمة تتمثل في اجماع الدول العربية على معارضة الضربة العسكرية، ولا سيما موقف المملكة العربية السعودية ودول الخليج، لم يتجاوب معه العراق مما أدى الى اضاعة فرص الحل السلمي. ولكن الحصار ما زال مستمراً، والشعب العراقي يعاني ويتألم ليس بسبب اثار الحصار فحسب بل بسبب ظلم النظام وقراراته الجائرة، وقد فتحت بعض الدول العربية وبينها سورية ومصر نوافذ على العراق للتخفيف من محنة شعبه، كما أسهمت عدة دول خليجية في ارسال معونات له لكن النظام العراقي سارع الى سد هذا الباب ومنع استقبال المساعدات الانسانية للشعب العراقي. ثم سد الباب أمام الأممالمتحدة معرضاً بلاده للضربة الخطيرة التي تأجلت عدة مرات. وباستثناء تطورات القضية المركزية، قضية فلسطين وانتكاسات مسيرة السلام التي أشرت اليها لم يشهد العام 1998 أحداثاً عربية مثيرة ولا مصالحات يمكن ان تغير الأوضاع السائدة. خلافات الحدود ما زالت قائمة وبورصة اسهمها تصعد وتهبط حسب الأجواء، وقضية لوكربي شهدت انفراجاً جزئياً قد يسهم بالغاء قرارات الأممالمتحدة بمقاطعة ليبيا بعد قبول الولاياتالمتحدة وبريطانيا بمحاكمة المتهمين الليبيين في هولندا، والأممالمتحدة ما زالت تسجل اسماء الصحراويين الذين سيشاركون في الاستفتاء على الصحراء بعد اتفاق المغرب وبوليساريو على تفاصيله، ومرض الملك حسين بالسرطان أحدث قلقاً في الأردن والمنطقة، ولا سيما بالنسبة لموضوع خلافته ووضع الأردن بعده. على صعيد العلاقات العربية مع الخارج شهد العام المنصرم عدة تطورات مهمة بينها التقارب مع ايران في عهد الرئيس خاتمي وانعقاد القمة الاسلامية في طهران وتوتر العلاقات مع تركيا بسبب تحالفها مع اسرائيل ونزع فتيل المواجهة العسكرية بين سورية وتركيا. وهناك نقطة أخرى مهمة لا بد من تسجيلها وهي بداية انحسار العنف في الوطن العربي الكبير. فرغم الأحداث الدموية المؤسفة التي وقعت في عدة دول عربية خلال العام 1998 إلا أنه يمكن القول إن موجة العنف والارهاب قد بدأت بالانحسار إلا أنها لم تقتلع من جذورها ولم تتم إزالة الأسباب التي أدت الى انتشارها خلال العقدين الماضيين واعتقد اننا بحاجة الى عقد آخر حتى نطمئن جدياً الى أن هذه الموجة قد انتهت الى غير رجعة وان العقل قد انتصر ومعه الاعتدال والعودة الى مفهوم أمة الوسط بلا قتل ولا تفجير ولا ارهاب فكري وجسدي ولا تكفير وتنفير. ومن ايجابيات العام الماضي ليس فقط انخفاض عدد العمليات الارهابية داخل الدول العربية التي ابتلاها الله بهذه الآفة بل في بروز تيار فكري وتشكل رأي عام يجمع على الحوار ويدعو لوقف أعمال العنف التي أدت الى تدمير البنى التحتية وتشويه صورة الاسلام وضرب الاقتصاد الوطني والسياحة التي تدر دخلاً مهماً وتؤمن اعمالاً لمئات الألوف من المواطنين. هذا التيار بدأ يكتشف شيئاً وشيئاً مخاطر الانزلاق الى دوامة العنف وسيطرة المتطرفين على مقاليد الأمور في عالم يتجه نحو الانفتاح واحترام حقوق الانسان والدعوة للتعايش والتساكن خاصة وان ديننا الحنيف هو دين التسامح والمحبة والمغفرة والمجادلة بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة، ودين الحوار ومقارعة الحجة بالحجة والكلمة بالكلمة. فهل من المعقول ان يقبل الانسان في هذا العصر مجتمعاً متناحراً يتحاور فيه الناس بالقنابل والذبح والتفجير وتكفير الآخرين؟ وهل تتحمل أوطاننا المزيد من الدمار والصراعات والانقسامات؟ لا شك أن ما يجري حولنا يدفعنا الى التنبه والحذر وتوحيد الجهود والطاقات لمواجهة المؤامرات على الأمة العربية والاسلامية من قبل الصهيونية العالمية داخل فلسطينالمحتلة وخارجها، ومجابهة التطرف الصهيوني بموقف موحد لا تؤثر فيه محاولات إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والنزاعات والممارسات المرفوضة. كما ان ما يجري داخل صفوف التطرف، وفي عدة أماكن جربت هذا الموضوع من الممارسة يجب أن يستخرج منه الدروس والعبر، ففي افغانستان مثلاً تستمر المذابح الرهيبة والاشتباكات وأعمال التدمير الكامل للبشر والحجر، وتتواصل ممارسات ايصال البلاد الى حافة الانهيار الكامل فيما يلتهي الحكام بتحديد طول اللحية وعرضها وتحطيم أجهزة التلفزيون وصحون الاستقبال وسجن اصحابهما فيما يعاقب من يملك صحنا للاستقبال دش في العراق بارساله لمستشفى الأمراض العقلية لمدة 6 أشهر. عام 1998 شهد عدة أحداث عنف متفرقة في مصر واليمن والجزائر حيث وقعت عدة مذابح وأعمال تفجير فيما تلاشت مثل هذه الأعمال في البحرين والخليج، ولكن هناك تباشير أمل بعودة العقل وتغليب الحكمة والاعتدال وانحسار العنف، وندعو الله أن يكون عام 1999 عام التسامح والمحبة والاعتدال. وان نشهد مستقبلاً نظيفاً لا عنف فيه ولا تطرف بل جهاد حقيقي لتحرير الأرض والمقدسات ووضع حد للعهر الصهيوني وعودة ضمير العرب الغائب! * كاتب وصحافي عربي