مسرحية إدوارد ألبي الجديدة التي تحمل عنوان "المسرحية عن طفل" تقود المتفرج الى منطقة شائكة، فهي تتحدى ببعض جوانبها المعتقد المسرحي الراهن، من دون أن تتصنع حداثة أو تتكلف غموضاً. حوارها قد يتجاوز المنطق، لكنه لا يقترب من اللامعقول. ثم إن مشاهدها متداخلة، لكن العين تظل يقظة للترابط والمفاجأة. يسود اطمئنان في اللحظات الاولى أننا نشاهد فصولاً عادية: شاب وفتاة يتحدثان عن الحب والذكريات، بعضها يوحي بألم قديم. الاتجاه لايسير نحو التعقيد أو حل الأزمة. لا يتوقع المرء من كاتب مثل ألبي أن يروي قصة. لم يعد ذلك مهماً في حد ذاته. التركيز يظل على جانب آخر مثل الطريقة والشخصيات والدوافع وغيرها. يفتح ألبي مسرحياته الجديدة في عواصم بعيداً من أميركا قدر المستطاع. وهو يؤكد بهذا أن المسرح العالمي لا يتوقف على برودواي في نيويورك، ولا حتى على الوست إند في لندن، ذلك أنه يعتمد على مسارح صغيرة في أوروبا، كما فعل مع أخيرته "ثلاث نساء كببيرات" التي قدمها في "فيينا"، وفاز عليها بجائزة بوليتزر للمرة الثالثة. ويعيد الآن التجربة مع هذه المسرحية التي تعرض في لندن في مسرح جانبي للمرة الأولى. هذا الاختيار لايناسب موضوع المسرحية فحسب، ولكن أجواءها واتجاهاتها. وإن كانت الطروحات لاتختلف عما اعتدناه في أعمال الكاتب، فاننا نشعر أنه يجازف في هذه القطعة الى مناطق أخرى اعترف هو نفسه في مقدمة كتبها لبرنامج العرض أنه لم يكن يعرف تماماً الى اي نتيجة ستقود. وظهر في لهجته قناعة بعملية الاستكشاف في الكتابة، او ماسماه "الاندهاش". ولعلّ التحليلات التي ظهرت في أعقاب ليلة الافتتاح أغرقت ذلك الاحساس في بحر من تنظير، وربما فوجئ الكاتب به أو بدوافعه. لكن ناقداً اعترف أنه لم يفهم المسرحية. وفضل أن ينقل آراء الحضور عنها. ومن هؤلاء أتت صورة متعددة الجوانب، فيها إطلالة من غير محاولة التركيز على مفهوم معين. كل متفرج أخذ جانباً منها. في حين اتجه الحوار نحو تساؤلات. ولعل في هذا ما كان يهدف اليه الكاتب. يبدو أن ألبي تخلص من آثار تشخيص آفات المجتمع: الاميركي، أو العالمي. فهذا جانب تحول الى لغط على الإنترنت. المجتمعات صارت تنظر الى نفسها في مرآة الشاشة الصغرى. لم يعد يهم ما تراه. عدم الاكثرات له مرادف آخر. وهو موت جانبي يتحول الى سراب. والتشبث بالوهم له قيمة عند هذا الكاتب. إلا انه يضع الناس أمام إشكالية التفرج على التزييف: كيف يتم في حلقة مفرغة، وفي اسلوب لايوثر على أصحابه في شيء: الحقيقة والوهم هما سواء. واذا كان هذا إطاراًً، فان الهدف يظل متعلقاً بعملية الرؤيا نفسها: كيف نرى ممارسة التزييف ونحن نعلم الحقيقة تماماًً. لا يتعلق الامر بعلاقة بين فتاة وزوجها وحديثهما المستمر عن الحب والذكريات وطفلهما الصغير، وانما عن صدى ذلك في النفس ونحن ندرك شيئاً فشيئاً أن لا وجود لطفل. رد الفعل يحدث نيابة عنا، هناك على الخشبة، في صورة رجل وامرأة يزوران الزوجين للتحقيق في ماضيهما، ومن ثم في حياتهما كلها. ما الدافع الى هذه الزيارة التي يستنكرها الزوجان؟ من هما الشخصيتان اللتان تعاملان الزوجين وكأنهما ارتكبا جريمة شنيعة؟ لا جواب. ندرك في النهاية ان الرجل والمرأة انما ينظران في ماضيهما الذي يمثله الزوجان الشابان، من اجل ان يستكشفا الاوهام التى عاشا بها، تفادياً لآلام الحقيقة. الممثلون يتبادلون الشخصيات، مما يثير ان النتيجة التي يتم التوصل اليها ليست حاسمة. فالناس يعيشون "الاكذوبة" بطرقهم المفضلة. الاهم هو كيف يتم ذلك. إن هذا يفترض وعياً مسبقاً. العملية شبه مستحيلة. إلا أن مشاهدة النفس قيد التطور والتغيير تشبه الطريقة التى كتب بها ألبي المسرحية. لكن هذا يضعنا امام صفة أخرى يلتقي حولها عدد من الكتاب: بيكيت، بينتر، ويونيسكو، وهي قضية وعي الذات، هل تحدث بعملية من الداخل، أو هي مجرد ملاحظة من الغير. الناس يلومون الناس لتحديد النقص الذاتي، او على الاقل بناء جسر خاص للتعرف على النفس. يقوم المسرح بهذا الدور الى حد ما، في أجواء مضمونة النتيجة. تتحول "المسرحية عن طفل" في الفصل الاخير الى مرآة. ولأن هذا تشبيه مفضل عند كتاب كثيرين، فان ألبي يلجأ الى لعبة مسرحية تتلخص في تصدع تلك المرآة، فلا يتأكد المشاهد أنه يرى لمعاناً ما يشبه ملامح حياة يعرفها... نتيجة هذه الخدعة غموض مثمر، يثير استفزازاً الى حين يتم الربط في النهاية عندما يجبر الرجل الفتاة على الاعتراف بأن ما تحمله بين ذراعيها ليس سوى صرة فارغة. ومع ذلك يظل الشاب مصراً على أن له طفلاً وليداً يتعنى بحبه. كيف يتلقى المشاهد هذاالنوع من خداع النفس؟ هل في كونه جنوناً؟ أو نتيجة صدمة هالكة؟. الحقيقة ان الاهتمام لم يكن في اتجاه معقولية الحدث الذي قد يتحول الى نوع من رزمة فارغة، يحملها الكاتب بين ذراعيه، موهما إيانا أن هناك كائناً ينبض بالحياة. لقد سعى ألبي أن يكون هناك لقاء بين الواقع والخيال في ذهن المشاهد، عن طريق استفزاز تلجأ اليه الشخصيات بعضها بين بعض عندما تبدأ في وصف مقاطع من الحياة الخاصة مما يؤدي الى خروج الممثلين عن الشخصية المتقمصة للتعليق على الحدث، أو الى إعادة تمثيل مقاطع في الحوار. كل هذا لا يرهق في شيء. فالمتابعة تظل متواصلة حتى يتم الانتقال الى حالة جديدة. الكاتب يحاول ان يضع حاجزاً بين مشهد وآخر، وغالباً ما يكون هذا الحاجز: قصة او اسطورة شخصية، وهنا تلعب الذكريات والحقيقة المتصورة دوراً مؤثراً. الحقيقة يواجهها التزييف. والرواية تقوضها الذكرى. وعندما نشعر أن كل شيء مفتعل ولا ضرورة له، تعيدنا الشخصيات مستفزة، فهي لم تنته من التحقيق في الاوهام التى لا تزال تراودنا