في تلك الأزمان المبكرة، نسبياً، كان الصراع - ولا نقول التنافس فقط -، محتدماً بين جماعة راسين وجماعة كورناي، أي بين مجموعتين متحلقتين من حول هذا وذاك اللذين كانا قطبي المسرح التراجيدي الفرنسي في ذلك الحين، مقابل زميلهما موليير الذي كان زعيم المسرح الكوميدي من دون منازع. في ذلك الصراع، الذي كان يغذّيه الكاتبان الكبيران بالتأكيد، كان الانتصار حيناً لراسين وحيناً لكورناي. ويتمثل الانتصار إما بكتابة عمل يلفت الانظار، أو برضا القصر الملكي. وفي شكل عام، كان كورناي يعتبر أكثر قدرة على كتابة المسرحيات التاريخية من راسين. أما راسين فكان يعتبر، من ناحيته، أكثر قدرة على رسم عواطف الشخصيات، ولعب لعبة الإسقاط المعاصر على ما يستخدم من تواريخ في مسرحياته. وبفضل هذا التمايز بين الاثنين، كان ثمة نوع من الأرجحية يعطى لكورناي. ففي ذلك الزمن كان عامة المشاهدين بمن فيهم متفرجو الطبقات العليا والقصر، يفضّلون مشاهدة أعمال ترفّه عنهم، من دون أن تزعجهم في تفسيرات راهنة. وبالنسبة اليهم كان مسرح كورناي التاريخي يستوفي هذا المطلب. وراسين، اذ ادرك عمق ذلك التفضيل ذات مرة، قرر أن يقارع خصمه في عقر داره: قرر أن يكتب مسرحية تاريخية خالصة من الصعب الموازاة بينها وبين ما يعتمل من أحداث في زمنه. ومن هنا كانت مسرحية «بريتانيكوس» التي اقتبسها عن نص تاريخي وجده لدى تاسيثيوس. والحقيقة أن النتيجة كانت مبهرة، حيث إن المهتمين والدارسين اعتبروا دائماً أن راسين قدم في «بريتانيكوس» عملاً مأسوياً تاريخياً، ولكن من دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن نزوعه الدائم الى جعل النص سياسياً، في شكل أو في آخر. سياسياً وحتى من دون لعبة الإسقاط التي كان يمكن، في مثل حال هذه المسرحية، ان تشكل خطراً ما. بالنسبة الى راسين كان من المطلوب تسييس التاريخ لا أكثر. وهو تمكّن من هذا مسجّلاً على منافسه انتصاراً واضحاً. أما اليوم، ومنذ اكتشافات فرويد ودمج هذا الأخير عالمي الحلم والابداع في مسائل التحليل النفسي، أضاف الباحثون الى «بريتانيكوس» بعداً جديداً، إذ قالوا انها مسرحية سيكولوجية، حتى أكثر منها سياسية أو تاريخية، حيث إن الكاتب مارس، حتى في هذا العمل المستقى من أحداث التاريخ، براعته في سبر دوافع الشخصيات والخلفيات الذاتية للعلاقة بين البشر وما يفعلون. وضمن اطار هذا البعد، صار ممكناً مذّاك النظر الى «بريتانيكوس» كعمل استثنائي يقفز من حيّز القرن السابع عشر الذي كتبت المسرحية فيه، الى القرن العشرين مباشرة. ومع هذا، فإن أحداث «بريتانيكوس» قديمة جداً ومعروفة في كتب التاريخ، حتى وإن كان تاريخ شخصيتها الرئيسة، أي الأمبراطور نيرون، الفعلي والمعروف، يبدأ بعد أن تنتهي احداثها. فإذا كان نيرون اعتبر دائماً وحشاً قاسياً، خلال سنوات حكمه، وحشاً لم يتورع عن الغناء وإبداء السرور وهو يشاهد روما تحترق، فإن المسرحية اهتمّت، قبل أي شيء آخر، بأن تقدّم الوحش في مرحلة التكوين: متى وكيف اكتملت وحشيته ولماذا؟ وراسين، الذي عبّر عن هذا في تقديمه للطبعة الأولى من «بريتانيكوس»، أوضح أن رسم صورة الوحش في شبابه، كانت غايته هنا، أكثر مما كانت غايته التأريخ للجزء الذي يعرفه الناس أجمعين من حكاية ذلك الأمبراطور الدموي. وللوصول الى هذا، كان على راسين أن يعود في الزمن الى فترة تسبق كثيراً حريق روما: الى فترة كان فيها نيرون لا يزال شاباً يضع على وجهه قناع الحكمة والفضيلة، ما جعله يشعر بانجذاب نحو الحسناء جوني، حفيدة اوغسطس، على رغم معرفته بأن بريتانيكوس يحبها وأنها تحب هذا الأخير. من هنا كانت تجليات وحشية نيرون الأولى، حين سجن الحسناء في القصر مفرقاً بينها وبين حبيبها. هنا تتدخل أم نيرون آغريبين، وهي كذلك أم بريتانيكوس ولكن من زوج آخر غير والد نيرون، هو كلاوديوس. وكانت آغريبين قد ضحّت بحقوق ابنها بريتانيكوس، كي توصل نيرون الى العرش معتقدة بأنه الاصلح لذلك. لكنها الآن وإذ بدأت تتلمس وحشية الامبراطور الشاب، وإذ أدركت ما فعله نيرون بجوني، بات واضحاً انها صارت تميل أكثر الى بريتانيكوس، خصوصاً انها باتت تلاحظ كيف أن نيرون يحاول جهده الافلات من سيطرتها عليه. وكان نرسيس المدعي الولاء لبريتانيكوس، هو الذي أخبر نيرون بحكاية الغرام بين جوني وأخيه غير الشقيق. لكن جوني سكتت عن حبها حين التقى بها نيرون عارضاً حبه والزواج. ثم حين التقت بريتانيكوس بتدبير من نيرون الذي كان يريد أن يتأكد من الحقيقة، لم تتفوه بكلمة حب واحدة لأنها تعرف أن نيرون يتجسس عليهما. المهم في الأمر أن غيرة نيرون وقسوته إزاء سلبية جوني، أفلتتا من عقالهما وانتهى به الامر الى سجنهما معاً، وكذلك أمر بوضع أمه، إذ حاولت أن تتدخل، في الإقامة الجبرية. لكنها لم تسكت... ذلك انها حين التقته ذكّرته بكل ما ضحّت به من أجله، بل بالجرائم التي ارتكبتها كي توصله الى العرش. ناكرة انها أرادت مساعدة بريتانيكوس في الاستيلاء على السلطة. في البداية، يبدو على نيرون انه صدّق أمه، لكنه في الحقيقة قرر الانتقام من الجميع، وهكذا وعلى رغم نصائح مستشاره بوروس أقام مأدبة «صلح» مع أخيه، وضع له خلالها السم تخلصاً منه. وحين علمت آغريبين بهذا، وجهت الاتهام مباشرة الى نيرون بقتل أخيه وراحت تفضح جرائمه متوقعة كل ما سيرتكبه لاحقاً من جرائم. أما جوني، فإنها انصرفت الى عزلة تعبّد نهائية على رغم غضب نيرون الذي ظل على هيامه بها، ما سيؤثر في حياته كلها وفي كل تصرفاته الإجرامية في المستقبل. تتوقف مسرحية راسين هنا، أي في زمن لم يكن نيرون قد تجاوز فيه أواسط العشرين من عمره بعد. في معنى أن نيرون «الآخر» المجرم الكبير والذي خلّف لنا أسوأ ذكرى لأمبراطور على مدى التاريخ، - قبل أن يحفل قرننا العشرون هذا بأمثاله بل بمن تجاوزه شراً، ومن بعيد، وهذه حكاية أخرى -. وفي هذا الصدد، ودفاعاً عن رغبته في أن يوقف احداث مسرحيته هذه قبل أن يصبح نيرون ما عرفناه لاحقاًَ، قال راسين: «أنا نظرت الى نيرون نظرتي الى وحش حقيقي، لكنني هنا في هذه المسرحية انما اردت أن أصوّر ولادة الوحش. أردت أن أصوره في زمن لم يكن قد أضرم النار في روما بعد، ولا كان بعد قد قتل أمه ولا زوجته ولا كل الولاة الذين كانوا يعملون تحت إمرته». بل إن تحليلاً معمقاً لمسرحية «بريتانيكوس» هذه ستقول لنا إن راسين انما يبدو مهتماً قبل أي شيء آخر برسم ملامح قوتين لشخصية آغريبين التي قد يرى كثر أنها، هي، البطلة الحقيقية للمسرحية. وهو نفسه قال في معرض الحديث عن شخصيتها: «لقد كانت آغريبين الشخصية التي بذلت كل ما لديّ من جهد لكي أصوّرها... في معنى أن مسرحيتي هي عمل عن فقدان الحظوة التي كانت تتمتع بها آغريبين تماماً، كما انها مسرحية عن موت بريتانيكوس». والحقيقة أن راسين في كلامه هذا، ليس بعيداً عن واقع مسرحيته، حيث إن الدراس المدقق لها، كما أشرنا، سيكتشف بسرعة أن آغريبين وبريتانيكوس هما محوراها، أما الشخصيات الباقية، لا سيما نيرون وجوني ونرسيس، فليست هنا سوى لرسم خلفية ما حدث لتينك الشخصيتين القويتين، من ناحية رسمهما مسرحياً. ما يعني أن راسين استخدم صورة نيرون رمزياً، ليرسم الشر المطلق في تأثيره في مصائر الآخرين سواء أكانوا من المتواطئين معه الخائبين، أم من منافسيه الذين كانوا، هم، أجدر بالسلطة منه. ويقيناً أن راسين شاء ايضاً ومن خلال هذا كله وهذا جانب سيكولوجي أساسي في العمل، ألا يعزو الشر الى عوامل اجتماعية فقط، بل الى عوامل نفسية جذرية أيضاً، ليؤكد أن السلطة قد لا تكون هي ما يفسد البشر، بل إن بعض البشر الفاسدين أصلاً يفسدونها. حين كتب جان راسين (1639 - 1699) مسرحية «بريتانيكوس»، كان في حوالى الخمسين من عمره، وكان يعيش قمة ذلك المجد الذي صنعته له عشرات المسرحيات التي كتبها، والتي وضعته في مكانة أولى بين كبار كتاب المسرح التراجيدي في كل الأزمان. [email protected]