يبحث روجيه غارودي، في كتابه "موجز تاريخ الاتحاد السوفياتي" الصادر حديثاً بالعربية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ترجمة نورا أمين هذا، ماضي وحاضر "روسيا"، منذ "عشية ثورة تشرين الأول أكتوبر"، وانتهاء بما سماه "إحلال الرأسمالية" في الوقت الراهن. وهي مساحة زمنية تمتد ثلاثة أرباع القرن. والكتاب يتموضع، من هذه الزاوية، كبحث يجمع ما بين المقاربة الفلسفية والتناول السياسي التاريخي للنظام الاشتراكي السابق، والذي شكَّلت روسيا قطب الرحى فيه. وغارودي - بنزعته العميقة ضد أشكال الاستغلال والقهر السياسي، إذ يتأمل في الأسباب النظرية التي أدت إلى صعود هذا النظام، ثم الى فشله أخيراً، لصالح النظام الرأسمالي الغربي، والذي وجد قادته "عميلهم المنفذ"، بحسب تعبيره، في شخص بوريس يلتسين - يهدف، من وراء كل ذلك، وفي ظل تفاقم تناقضات "أمبراطورية الفوضى"، على حد تعبير سمير أمين، إلى ما أطلق عليه عبارة "رسم المسارات الممكنة لمستقبلنا". ففي عالم لا تتأسس الاشتراكية فيه إلا "على أساس أخلاقي". والكتاب، من هذه الزاوية إذاً، استمرار لرؤية غارودي السابقة في نقد "النظام السوفياتي". والتي جسدها على سبيل المثال، في كتابيه "ماركسية القرن العشرين" و"منعطف الأشتراكية الكبير"، والكتابان يقعان، كما هو معروف، ضمن ما أطلق عليه تعبير "المقاربات الماركسية المنبوذة من قبل السلطة السوفياتية"، والتي نادت، في الماضي، بضرورة تحرير الماركسية من مختلف أشكال الدوغما. وهو ما تعكسه كتابات أسحق ديوتشر وغرامشي وألتوسير وغيرهم. إلا أن غارودي، وبشيء من التفصيل، يضيف الى ذلك، ومن خلال أدوات منهجية ماركسية، لا تخلو موضوعاتها، وفق معطى الثورة العلمية الثالثة، من معلومات رقمية، نقده المقارن لسيطرة آليات السوق، وما تقود اليه من تفكك وفوضى مجتمعية شاملة، مثلما هو عليه الحال في روسيا اليلتسينية؟! ما يعني، في التحليل الأخير، أن الرؤى النقدية، لهذا الكتاب، لا تطال، بدرجة أساسية، أسس النظرية الماركسية، بقدر توجيهها سهام النقد للنموذج العلمي السائد، في السابق، لمواجهة تلك النظرية، بوصفه نموذجاً شائناً ومبتذلاً فيما أعقب التطبيقات اللينينية. ويطال نقدها، من ناحية أخرى، آليات الرأسمالية الغربية، بوصفها آليات تراكم للثورة في قطب، أمام تراكم الفقر في قطب آخر. ففي روسيا، على سبيل المثال، حيث مجال عمل هذه الآليات حالياً، يعيش تحت خط الفقر، وبحسب تقدير علماء الأقتصاد، حوالى 80 في المئة من عدد السكان. والآن، يقدر غارودي، "ولأول مرة بحق" نجد الخيار بين "الاشتراكية أو الهمجية"، الهمجية التي تؤدي الى هذه الانقسامات وهذا الانفصال القاتل، سواء على مستوى العالم أو على مستوى كل مجتمع، والأشتراكية التي لا تزيد على كونها بحثاً عن وسائل تمنع تقسيم العالم إلى أقطاب بإعطاء الأولوية إلى الوحدة الإنسانية وإلى ازدهار كل إنسان واكتمال انسانيته. مع ذلك، يواصل غارودي، فلا تعتبر الاشتراكية أمراً لا مفر منه. فالحتمية الوحيدة هي حتمية "الإنسان المغترب" في النظام الرأسمالي، ذلك النظام الذي أدت بنا انحرافاته اليوم الى همجية قطبي الثراء والفقر المتزايدين، والى انتحار كوكبي. لكن، وكما قال ماركس، لا يمكن "أن يصل تزايد الاغتراب أبداً الى الدرجة التي لا تدع اية امكان للكفاح ضده" هذا الكفاح الذي اعتبره ماركس في تحليلاته، لا ينفصل عن كفاح الإنسان للسمو على الحتمية الطبيعية؟! وما يجدر ذكره ان غارودي كان تعرض اخيراً لحملة مغرضة شنتها ضده بعض الجهات الاصولية الغربية في فرنسا