المجتمعات العربية ورغم الاختلاف في طبيعة الحكم والمستوى الثقافي والمادي، إلا أن هناك قواسم مشتركة وعلامات وصفات متشابهة تؤسس لإمكانية إجراء فرز لتوزيع طبقي يمتد عبر هذه المجتمعات. لكل طبقة من هذه الطبقات خصائص مشتركة تجعل من الممكن التعامل معها كطبقة عربية ذات تكوينٍ وصفات وعقائد مشتركة. فالبرجوازي المصري والسعودي والعراقي والمغربي والليبي تجمعهم صفاتٌ متقاربة أكثر وأقوى من تلك التي تجمع بين البرجوازي السعودي والفقير السعودي أو البرجوازي المصري والفقير المصري، وكذلك الحال بالنسبة لطبقة الحكام أو الليبراليين أو رجال الدين وغيرهم. من هذا المنطلق يمكن القول إن المجتمعات العربية يمكن تقسيمها إلى الشرائح أو الطبقات التالية من حيث التجانس الفكري (السياسي والديني) والمادي: 1 – طبقة الحكام: وهي طبقة سياسية تعتمد المركزية والاستقلالية في الإدارة السياسية والحكم. لا تأخذ بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان منهجاً لإدارة الحكم وإن أظهرت قبولاً ظاهرياً وشكلياً لها. أسلوبها في الإدارة السياسية من حيث الاستيلاء على الحكم وعلى الشعوب شبه واحد وإن اختلفت المسمّيات. لذا، فإنها جميعاً تمارس قمعاً شديداً للأفراد والجماعات الّتي تحاول الإطاحة بها أو الحد من احتكارها للسلطة. 2 – طبقة الأغنياء: هي طبقة اهتمامها الأساسي التجارة وجمع المال، لذا، فهي قريبة من الحاكم ، تؤازره وتدعم استقراره وتلبي حاجته عندما يحتاج، تستعين بسلطته على تحقيق مشروعاتها وتحقيق مصالحها المادية. هذه الطبقة كانت ظاهرة بشكلٍ أكثر في البلاد العربية، شمالاً وغرباً، قبل النفط وما إن ظهر النفط وكثر حتّى ظهرت البرجوازية الجديدة في الجزيرة العربية. من أهل هذه الطبقة من يعنيهم الشأن العام والصالح العام لكنهم في الغالب قلّة لا يميلون بشكلٍ كبير إلى الليبرالية السياسية أو يدافعون عنها ويدفعون بها في وجه الحاكم المسيطر، فهم أقرب إلى تكريس ودعم بقاء الحال والاستقرار. 3 – طبقة الجماعات والأحزاب الإسلامية: الإسلام هو الدين السائد بشكلٍ عام والمنتشر عقيدةً في المجتمعات العربية. وقد تختلف المدارس الفقهية بين بلدٍ وآخر، كالحنبلية في السعودية والمالكية في المغرب، لكن يبقى الإطار العام في الفكر الديني الإسلامي مشتركاً بين هذه الشعوب. الإسلام السياسي من حيث التأصيل التاريخي أُوجد منذ بداية الدولة الإسلامية وتوزيع السلطة بين قبائل المسلمين وزعمائهم في سقيفة بني ساعدة في المدينة المنوّرة بعد وفاة نبي الأمة، محمد (صلى الله عليه وسلم). في تاريخنا الحديث بُعث الإسلام السياسي في بداية القرن العشرين وفي مصر بالتحديد، وتجلّى سياسياً وتنظيمياً بجماعة الإخوان المسلمين. الإسلام السياسي يبحث عن الحكم كوسيلة لتطبيق رؤيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على المجتمع العربي والإسلامي، لذا، كان الاصطدام بينه وبين طبقة الحكام في جميع الدول العربية مع اختلاف الظروف والأحوال. وحيث إن القوة الأمنية والعسكرية بيد طبقة الحكام، كانت السجون والعمل السري والهجرة هي نصيب الجماعات الإسلامية. ولأن الطبقة الحاكمة، مسيطرة، مستبدة، غير عادلة، ومستغلة للمال العام، كان التعاطف الشعبي بشكلٍ رئيسي وكبير مع الجماعات والأحزاب الإسلامية. الجماعات الإسلامية رأس هرمها مجموعة محدودة من المفكرين والدعاة الإسلاميين، ووسطها مجموعة أكبر من الطبقة الوسطى من المثقفين، ويتناسب حجم هذه المجموعة مع اعتدال الفكر الإسلامي، فهم في الإخوان المسلمين أكثر من الجماعة السلفية ذات الفكر الإسلامي المتشدد، أما قاعدتها العريضة فهي في الطبقات الفقيرة، محدودة الدخل والعلم. 4 – الطبقة الاجتماعية الليبرالية: هذه الطبقة معظمها من الشباب ممن لهم نصيب من العلم ولهم أو لذويهم نصيب من المال، يؤمنون بالإسلام ديناً كبقية أفراد المجتمع، كما أنهم يؤمنون بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة والدولة المدنية والعدالة الاجتماعية والانفتاح على العالم ونبذ العنصرية بأشكالها، واحترام جميع الأديان وحرية الاعتقاد. هذه المبادئ تُشكّل القاعدة الفكرية، الثقافية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية الّتي تجمع أفراد هذه الطبقة. وتضمّ هذه الطبقة مجموعات من المثقفين والليبراليين. وبما أن الاضطهاد وانعدام الحرية والظلم والقيد على حرية الرأي والفكر هي من سمات الحاكم العربي، فإن هذه الطبقة أيضاً كانت معارضة للحكم، لكن منهجها ليس عقائدياً أيديولوجياً كالمعارضة الإسلامية، وإنما كانت معارضة سلمية بالقول والقلم. من الناحية المادية هذه الطبقة هم أبناء طبقات برجوازية أو هم أنفسهم من البرجوازية الصغيرة الجديدة. هذه الطبقة بحكم تعليمها التقني، فإن مسائل الاتصال الجماعي كالفيس بوك وتويتر وغيرها، كانت جزءاً من ثقافتها ووسائلها بالاتصال العالمي والمحلي. 5 – الطبقة الفقيرة: يختلف حجم والحالة المادية لهذه الطبقة من دولة عربية لأخرى رغم تشابه خصائصها الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية، وذلك بسبب اختلاف الوضع الاقتصادي في كل دولة، خصوصاً ما يتعلق بالثروة البترولية الّتي قللت نسبياً حجم هذه الطبقة في دول الخليج العربية وشمال إفريقيا النفطية. وتجب الملاحظة هنا أن انخفاض العدد النسبي للطبقات الفقيرة في البلاد العربية الغنية بالنفط، لم يكن بسبب السياسة العادلة في توزيع الدخل أو نجاح الخطط الاقتصادية، وإنما بسبب الزيادة المضطردة في الدخل من البترول.الحرية والديمقراطية، الدولة المدنية وجميع القيم الحداثية والليبرالية لا تعني الشيء الكثير لهذه الطبقة بقدر ما تعنيها حالة الفقر الّتي تلفّ حياتها وحاجتها الماسة إلى السكن والغذاء والصحة وغيرها من المتطلبات الأساسية والحدود الدنيا للحياة الإنسانية الكريمة. أبناء هذه الطبقة في دواخلهم غيظ وحقد يتناسب طردياً مع حجم الفقر الّذي يعانونه، هم غاضبون معارضون للحاكم الذي يعرفون أنه سبب فقرهم وعوزهم، لكنهم لا يملكون وسائل التعبير. القبضة الأمنية الحديدية من جهة وانعدام المعرفة والقدرة على التعبير من جهةٍ أخرى، أفرزت من هذه الطبقة مادة جاهزة للانفجار تنتظر عود ثقابٍ يشعلها. هذا التقسيم الطبقي للمجتمعات العربية، بزواياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما أسلفت، قد يختلف قليلاً من دولةٍ لأخرى لكنه يبقى في اعتقادي معبّراً عن الصورة المجتمعية العربية قبل اندلاع ثورات الربيع العربي.كل شيءٍ تحت الأرض كان جاهزاً للانفجار لكنه كان مسجوناً تحت طبقاتٍ من الأمن الحديدي. شباب الطبقة الوسطى المؤمنون بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية والمتطلعون إلى فجرٍ جديد، وجدوا في وسائل الاتصال الاجتماعية مثل فيس بوك وغيرها ضالتهم في نقل مشاعرهم وتجميع قواهم. استبدلوا الساحات المحرمة بساحات الإنترنت، وعرفوا أنهم كثر فزاد ذلك من عزيمتهم ودفع بمجموعة منهم إلى الشارع الممنوع، ولم يعلموا أن هناك الملايين ينتظرون فجوةً يخرجون منها، فتدافعوا كالسيل العرم وامتلأت بهم الشوارع واهتزت الأرض تحت أقدامهم وسقط الطاغية. شباب الطبقة الوسطى من المتعلمين والعاملين والبرجوازية الصغيرة فتحوا الثغرة وأشعلوا عود الثقاب فامتلأت الشوارع والميادين بالملايين من كل الطبقات الّتي مررت على ذكرها، تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان واقتلاع الفساد وإعادة الكرامة للإنسان وللأمة. هذه الجموع البشرية الّتي يُمكن تسميتها بجمهور الثورة يُمكن تقسيمها من ناحية التنظيم السياسي إلى ثلاثة أنواع: 1. جماعات ذات تنظيمٍ سياسي وعقائدي قديم، لها قادتها وأجهزتها ونظمها وتمويلها، ويندرج تحت هذه الجماعات الإخوان المسلمون والسلفيون. 2. أحزاب سياسية ليبرالية، ضعيفة التنظيم، مختلفة الاتجاهات والمقاصد وإن جمعتها الليبرالية بمفهومها العام. 3. مجموعات الشباب والطبقات الوسطى الذين أشعلوا الثورة وضحّوا من أجلها، يملكون الإيمان بالقيم التي أشعلوا من أجلها الثورة لكنهم لا يملكون القيادة والتنظيم والمال. الجماعة الإسلامية بفرعيها الإخواني والسلفي بما لديها من عمقٍ تاريخي في المعارضة وقوةٍ في التنظيم ووحدةٍ في العقيدة وخبرةٍ في جمع المال وقادة لهم السمع والطاعة، رسمت لها خارطة طريق واستراتيجية توصلها إلى الحكم فوصلت. وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة لم يكن عجيباً أو غريباً لأنه متسقٌ مع الواقع السياسي والتاريخي للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية للمجتمعات العربية. وهنا يبرز سؤالٌ مهم: هل استقرت ثورة الربيع العربي نهائياً في حضن أحزاب الجماعات الإسلامية وتحت لوائها؟ والإجابة هي أنني لا أرى ذلك. إن ثورة الربيع العربي، التي وإن سكنت في بيت الجماعات الإسلامية بعد ثورتها، إلا أنها لن تستقر عند هذه الأحزاب بشكلٍ أبدي. ثورة الربيع العربي قاعدتها الأساسية والعريضة هي جماهير الشعب بكل طبقاته. ورغم أن الطبقة الفقيرة ذات القسط الأدنى من المال والعلم هي الغالبة، إلا أن المسيرة الطبيعية التاريخية هي: 1. مزيدٌ من العلم والمعرفة ومزيدٌ من الإيمان بحرية الفرد وحقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية. 2. مزيدٌ من التوجّه نحو الحرية السياسية والديمقراطية. وهذا من شأنه أن يقلل من شراسة وحجم الطبقة الحاكمة ويزيد من حجم الطبقة الوسطى. الدين الإسلامي دين هذه المجتمعات بكل طبقاتها، كان وسيبقى، لكن التطور التاريخي بخصائصه الّتي ذكرتها، من حيث انتشار العلم والمعرفة وزيادة الدخل، ستدفع إلى الفقه الإسلامي المعتدل، الحاضن للقيم الإنسانية والحضارية والحرية والعدل والعدالة، لأن هذه المبادئ والقيم هي من صلب مصادر الإسلام الأساسية، القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية.لذا، فإنه وبعد أن تمرّ تجربة الحكم بعد الثورة في كلٍّ من مصر وتونس وليبيا بقيادة الإخوان المسلمين والسلفيين بمعارك وصراعات أيديولوجية وسياسية، ستستقر الأمور في المنطقة الوسطى، دولةٌ مدنيةٌ قاعدتها العريضة إسلامية دون إقصاءٍ أو تهميش للأديان الأخرى، تحت مظلّة الوطن للجميع. دولة تسير نحو الديمقراطية الحقّة وصيانة حقوق الإنسان وسيادة القانون وتحقيق العدل الاجتماعي. هذه الرؤية المستقبلية المتفائلة هي انعكاسٌ لما أعتقد أنه يسكن عقل الإنسان العربي وضميره.