حين تُجعل صور حاملات الطائرات والقاذفات الاستراتيجية والقنابل المحمولة على أكتاف أربعة رجال، من جهة، وصور نعوش الاطفال وأجساد الرجال المبتوري الاطراف ووجوه النساء المغسولة بالدمع، من جهة أخرى، جنباً الى جنب، وتلخص حال العراق على هذا النحو، لا عجب إذا لم يملك الناظر الى هذا التوليف والتأليف مونتاج، أو سامعه، إلا الإجهاش في البكاء، على ما صنع بعض مصلّي جامع الأزهر، الجمعة الفائتة، بينما يخطبهم الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر وأستاذه الأكبر، خطبة الجمعة. وجوار الصور على هذه الشاكلة تأويل للحادثة وتوليف لها. ولكنه تأويل يُنكر فعلَه وعمله، وينكر قصده وغايته. فهو يريد أن ينفي عن نفسه أي تبعة، لعل الناظرين إلى الصور يحسبونها الحقيقة الماثلة والملموسة، وكل ما عداها زيادة وتكلف و"تنظير" مصدرها الهوى والميل والخروج عن الجماعة وعليها. ومثل هذا العمل المنكر نفسه، والمتخفي وراء وقائع خام، وحوادث محض، يريد عامداً، من وجه آخر، نفي صفة الحرب عن الوقائع التي يرويها بالصور والأخبار، ومن طريق هذه وتلك. فليست حرباً، على معنى مقارعة القوة للقوة مهما كان الفرق بين القوتين كبيراً، ليست حرباً مجاورة الأطراف المقطوعة والنازفة والقنابل التي تزن نصف طن من المواد المتفجرة" وليس التأليف بين المستشفى وأسرته الميدانية المتداعية وبين حاملة الطائرات المزهوة بطاقتها المحركة الذرية وبرسوم طائراتها الكاسرة المناقير والنارية القوائم والمخالب، ليس هذا التأليف تقريباً لميزان قوتين وإرادتين الى الأفهام والأنظار. فالجوار المتنافر على هذا المثال، والتأليف عليه، يكنيان عن تبدد الحرب وعدمها، أي عن "اللاحرب"، على ما نرطن ونترجم يائسين. وحمل الحوادث العسكرية، الثابتة النسبة الى القوة وآلاتها ومساكلها، على عدم الحرب، وعلى بطلانها، يوهم بخلاف الحرب وبنقيضها، أي بعدوان الجبروت المحض على الحق الصراح. وهذا كذب ومراوغة. فالسلطان العراقي، المستبد بحكم العراقيين، يختار الصور التي يعرضها على الأنظار اختياراً عامداً. فيحذف من الصور المتوفرة، ومن الوقائع الإنسانية والمادية التي يغلفها بصوره ويحل صوره محلها وهذه تهمة تظن بها سي.إن..إن. وحدها يحذف منها صور الصناعات العسكرية، والقواعد، ومباني الإتصالات والمخابرات، وصور الآليات. وهذه الأشياء، إذا صُوّر دمارها وتهاويها، وعرضت مزقاً ونتفاً ملتوية ومتقوضة، تأنسنت ودخلها ضعف البشر والإنس، ولابسها زمنهم، ونحن لا يرينا السلطان العراقي، الصدامي، آلاته ومبانيه ومخابئه إلا على هذه الصورة من الدمار والتصدع. فهي عندما تكون سليمة ومزهوة بقوتها، أسرار عسكرية وأمنية، ومن المحال ان تنتهي اليها عين أو عدسة. فلا تباشرها العيون والعدسات الا أشلاء وأنقاضاً، أي ضحية غاشمة وظالمة. وينطلي التوليف علينا عندما يعمد طاغية العراق الى تسمية عدم حربه بأسماء الحرب المدوية: أم المعارك من قبل، والفتح المبين اليوم. فهذه الأسماء، وهي من باب الطباق البلاغي والخطابي، تسمى الضحية المسجاة على الأرض شلواً باسم المقاتل الذي يصول ويجول. وعلى هذا فالحرب، أي عدمها، تزدوج وتُثنَّى. فهي حرب ظاهرة ترى على شاشات التلفزة، وفي صور الصحف وتقرأ في أخبارها. وهذه حرب يبدو فيها المعتدي "الصهيوني الأميركي"، على قول صدام حسين وغيره، منتصراً. وهي، على وجه آخر وباطنٍ، حرب الظلم، الخاسىء دوماً، على الحق والطهر، والرذيلة على الفضيلة، والكفر على الإيمان. وهذه الحرب، الثانية، لا تتطاول اليها الصورة ولا يتناولها الخبر. وهي حرب خلقية. والحرب الخلقية والمعنوية هي ما يسعى التوليف، على الطريقة الإعلامية "الأميركية" وخلافها، في نقلها الى الأعين والأفهام. وعلى حسب التوليف هذا ليست الحرب حرباً، إذ لا قياس بين القوة الساحقة وبين الضحية العزلاء" وعلى حسب التوليف، المنتصر فعلاً هو من يجبه الحرب "الأطلسية الجديدة"، على ما يعتقد العسكريون الروس "الجدد" وبعضُ أنصارهم القدامى، بدمه وإيمانه وحقه، ويهزم المعتدي. ولا يقتصر التوليف على الأشياء وصورها، أي على حجب ما يحجب منها وعرض ما يعرض. فهو يتناول كذلك الأوقات. فالعراق، في مرآة توليف اليوم وتأويله، هو أهداف القصف، وليل بغداد الأليل، وسماؤها الملبدة بغبار الضوء الناري والمنفجر، وهو خوف الناس، وحزنهم، ويأسهم، وبؤسهم" والعراق، في هذه المرآة، هو تمثال صدام حسين المكتئب والجامد، والمتمم كلاماً على "وجه" ذي الجلال والإكرام، والفتح والنضال والبطولة. وهذا وقت من أوقات الرجل وسلطانه وطاغوته. أما الأوقات الاخرى، السابقة، أوقات القوة والتجبر والحرب والسَّجن والإقتلاع والإبادة والتبديد، ومعظمها أوقات ووقائع أوقعها في أهل العراق أو كانت سياساته السبب في إيقاعها فيهم، فيخرجها التوليف من الأخبار ومن الصور. ويتواطىء الإعلام، والتعليقات التي تتخلله وتتعهد تعقل الأخبار "الخالصة" و"تحليلها" وفهمها، يتواطأ مع الإقتصار على الحاضر ومع إظهار وجه الضحية. ومثل هذا التواطء ليس شأن الإعلام وحده، ولا سبيله وحده. فتظاهرات المتظاهرين في القاهرة وصنعاء وعمان وطرابلس الغرب والخرطوم ودمشق، إنما تندد بالعدوان على الضحية، وتنكر جوار القاذفة الإستراتيجية والرضيع المهشم الرأس، وقيام الثاني مقام الند للأول. والمتظاهرون يأخذون برواية الخبر المولَّف، وبتأويل الرواية الوقائع والحوادث، ويقبلون وقت هذه الرواية. فهم كذلك يذهبون الى ان هذه الحرب ليست حرباً، والى ان ضحية اليوم هي اللباس الوحيد الذي لبسه صدام حسين وعراقه ويلبسه. ومتظاهرو اليوم - تظاهروا من تلقاء أنفسهم وهذه حال معظمهم أو بعثوا على التظاهر صراحةً أو إيماءً - لم يتظاهروا حين اجتاحت القوات العراقية "الشقيق" الكويتي، ولا تظاهروا حين دخلت هذه القوات شمال العراق الكردي، وقمعت عراقيي الجنوب" ولا هم تظاهروا حين قصفت القوات الايرانية بغداد بصواريخ "سكود"، وكان "الشقيق" الليبي القذافي أهدى بعضها مشكوراً الى الحليف الايراني الخميني" ولا نددوا بإصرار القوات الايرانية على قطع طريق البصرة الى بغداد طوال ستة أعوام بعد هزيمة قوات صدام حسين في خورمشهر وانكفائها الى أراضي العراق... وهذا غيض من فيض عربي يأخذ من لبنان وفلسطين وسورية واليمن والسودان والجزائر بطرف، ويلم بكل بلد من هذه البلدان. فكأن التضامن مع "العراق"، ويَجْمع "العراق" صدام حسين وسلطانه الى عامة أهل العراق الذين يسومهم سلطانه، هو تضامن على القوة العسكرية الأميركية التي تضرب القوة العسكرية والأمنية والسياسية العراقية. ويتسلط صدام حسين وعشيرته على العراقيين الفعليين بواسطة هذه القوة" وهو يحارب الأكراد وأهل الجنوب وعشائر الوسط وأهل بغداد وبعض أحيائها، وحارب هؤلاء، بهذه القوة، ولم يحاربهم بأطفال العراق الجياع وبالنساء والمرضى، ولا بالنساء الثواكل والأرامل. فهل غفلنا حقاً، طوال العقدين المعروفين والمشهورين من تسلط الرجل، عن سعيه، وسعي هذا المثال من القوة، في ملابسة الناس المحكومين؟ فرضينا إدخال الناس، شعب العراق وشعب ليبيا...، تحت "دولهم" و"قياداتهم"، وكأنهم وإياها واحد لا يتميز ولا ينفصل، على ما تزعم "القيادات"، ويزعم المتسلطون. وتفضي هذه الغفلة، اليوم، ليس الى التظاهر وحده، بل الى السبب في التظاهر. وليست "مقاومة" صدام حسين الإنقلابات عليه، ومحاولات إطاحته، شأن بعض زملائه الراسخين في السلطان، إلا ثمرة هذه الغفلة، ونتاج الرضا بإدخال الشعب تحت "قيادته" المتسلطة عليه. فمصدر قوة صدام حسين وأمثاله هو صمود مثال سياسي واجتماعي يكاد وحده، اليوم، يعرِّف العروبة، مجتمعاً وسياسة واقتصاداً وثقافة. * كاتب لبناني