اذا صدقنا السيد ابو العلا ماضي وكيل مؤسسي "حزب الوسط" المصري فإن جماعة الاخوان المسلمين في بلاده وصلت الى طريق مسدود بعد سبعين عاماً من النشاط العام، ودخلت الآن احدى أسوأ المراحل في تاريخها بسبب هيمنة رجال النظام الخاص على القيادة وضربهم عرض الحائط باللوائح والشورى والديموقراطية، ما أدى الى عسكرة الجماعة، وعزلها عن مجابهة تحديات الواقع، وسيادة رؤية تكفيرية خطيرة في صفوفها. هذا غيض من فيض الاتهامات التي وجهها ابو العلا لجماعة الاخوان مرات كثيرة خلال العام المنصرم، وقد جمعها ذات مرة في حديث لمجلة "الوسط" نشرته في 5 تشرين الأول اكتوبر 1998، واضاف فيه انه يعتبر نفسه احد الذين خدعوا بتجربة جماعة الاخوان، كما ادعى ان قيادة الجماعة تفتعل الاسباب لتفادي الحصول على رخصة للعمل الحزبي القانوني حتى تتفادى الرقابة الحقيقية الجادة من قبل مناصريها ومن قبل المجتمع والقانون. اما جماعة الاخوان فتبدو في الظاهر غير عابئة بمثل هذه الاتهامات، غير مستعجلة لتحقيق هدف محدد او مبتئسة لتأخر مصلحة استراتيجية ما. بهذه الروح يكتب مصطفى مشهور المرشد العام للجماعة "رسالة الاخوان" 11 كانون الاول/ ديسمبر 1998 موضحا ان على الداعية "الا يتأثر بحصيلة جهده بالدعوة، فلا يداخله الغرور اذا فتح الله عليه وانطلق لسانه بالدعوة واقبل عليه الناس، كما لا يداخله يأس او فتور اذا لم يستجب لدعوته الا القليل، واذا تعرض للاذى ممن يدعوهم". وكأنّ المرشد سمع همسات المطالبين بخطة محددة واهداف قريبة تحاسب قيادة الاخوان بقدر اقترابها او ابتعادها منها، فأضاف في خطاب يشحذ همة المناصرين من خلال تذكيرهم بالابتلاءات التي احاطت بالرعيل الاول من المسلمين: "ما احوجنا على طريق الدعوة الى الصبر والثبات، فلا تردد ولا شكوك ولا تخل عن العمل، وان نقوم بالواجبات مهما ثقلت او كثرت ومهما طال الطريق ونستبشر بأن نصرالله قريب، والا نتأثر بالتهديد والتخويف من اعداء الله". وعندما نتأمل خطاب وكيل مؤسسي "حزب الوسط" فإننا نجده يتحدث عن تجربة جماعة من المصريين في القرن العشرين، فشلت في تحديد اهداف واقعية يمكن تحقيقها في عمر جيل او جيلين، واستمرأت البعد عن المحاسبة والتقويم الجاد لمسيرتها، ثم خضعت لجناح عسكري الطابع تورط في وقائع يشيب لها الولدان. لكن الرؤية تختلف تماما عند المرشد العام، فرسالة الحركة، او الدعوة بالمصطلح الاخواني، هي الرسالة الاسلامية نفسها، والهدف الأكبر هو تطبيق الاسلام بشموله كلاً لا يتجزأ، واسلوب العمل الاكثر نفعا هو اعداد الافراد المسلمين او رجال الدعوة الخلصاء الجديرين بحمل الامانة وادائها على الوجه الاكمل. الاسلام والدعوة شيء واحد، والمرشد يتحدث عنهما في فقرة واحدة من المقال الذي اشرت اليه في سياق الترادف والتماثل فيقول: "نحن نريد نفوسا حية قوية وقلوبا جديدة خفاقة ومشاعر ملتهبة وارواحا منطلقة متوثبة. ان الاسلام يريد في الفرد وجدانا شاعراً يتذوق الجمال والقبح وادراكا صحيحا يتصور الصواب والخطأ". وواضح انه يستحيل عقلا ان يكون السيدان ابو العلا ماضي ومصطفى مشهور مصيبين في ما ذهبا اليه في آن واحد، لان حديث الواحد منهما ينسف رؤية الآخر نسفا. وبما ان الامر مهم حقا للمسلم وللباحث الموضوعي، لذا فإن علينا ان نقلب الحجج والبراهين والادلة ونرى من منهما الاقرب الى الصواب والاجدر بأن يؤخذ كلامه على محمل الجد. فإذا ثبت حديث المرشد العام فإن امر الاسلام لا يهمه وحده وانما التكليف فيه موجه لخاصة المسلمين وعامتهم مما يوجب عليهم اتباعه او مناصرته قلبيا على الاقل. اما اذا ثبت حديث وكيل مؤسس "حزب الوسط" فإن علينا ان نطلب منه ومن المرشد حصر الخلاف في دائرة الاجتهاد الحركي والحزبي بين جماعات مصرية معنية بالعمل العام، وابعاده عن الدائرة الاسلامية الشرعية التي يتجه خطابها للامة كافة وليس لحزبين متنافسين في العقد الاخير من القرن العشرين. اول ما يتهم به ابو العلا ماضي في سياق هذا التحقيق هو انه عمل لفترة طويلة وسط جماعة الاخوان ثم انشق عنها وحاول تأسيس حزب جديد. فلعل اجواء الشقاق التي تنجم عن مثل هذه الخصومات الحزبية جعلته لا يرى غير الفشل والمكر والقصد السيء في قيادة الجماعة، ولعل تخلي عدد من مناصريه لتأسيس الحزب الجديد عن الفكرة بضغط من الاخوان، جعله يرد عليهم بهذا السيل الجارف من الاتهامات الحادة والقاسية . والحق ان مثل هذا التساؤل لا يرد عنه بوضوح الا ابو العلا ماضي نفسه، واني لارجو ان يفعل تعميما للفائدة. لكن مما يخفف عنه في نطاق الادلة المتوفرة لدينا هو اعترافه بأنه احد الذين خدعوا بتجربة جماعة الاخوان، وان عددا من رموز التيار الاسلامي البارزين دعموا قضيته، ونفرا من المحامين الاسلاميين دافعوا عنه في المحاكم ضد الاخوان، واتهموا قيادة الجماعة باخلاف تعهدات قطعتها لهم ولقيادة "حزب الوسط". ويخفف عنه ايضا ما يشاع من ان بعض القيادات الاخوانية البارزة استقالت من مناصبها في الجماعة تعاطفا معه واحتجاجا على المعاملة التي لقيها من المرشد ومن نائبه السيد مأمون الهضيبي بوجه خاص. اذا غلب علينا الظن بصدق دوافع مؤسس "حزب الوسط". فإننا مضطرون لأن ننزع الرداء الشرعي الاسلامي عن جماعة الاخوان، ولأن نرفض الترادف بين دعوتهم والدعوة الاسلامية، ليس لاننا نعلم ما في خفايا قلوبهم او نملك حق منح الصفة الدينية لمن نحب ونزعها عمن نكره، ولكن لاننا لا نريد لشمول الرسالة الاسلامية ولخطابها المتجه للانسانية عامة ان يضيق نطاقهما فيصبح رديفا لتجربة جماعة حزبية معاصرة دخلت غمار السياسة والحرب، وشكلت التنظيمات العامة والخاصة، وناصرت بعض الاحزاب والحكومات وعادت اخرى، فأصابت واخطأت، لكن صوابها لها وخطأها عليها وليس على الدين الذي انزله الله رحمة للعالمين. لكننا قد نكون مناصرين متحمسين للاخوان، او أعضاء عاملين في الجماعة لمدة طويلة من الزمن، ومن الذين يثقون بصواب رؤيتها وحكمة قيادتها وسلامة قصدها، ومن الذين يعتقدون ان حزب الله، او حزب المؤمنين المخلصين لرسالة الاسلام، لم يتمثل في هذا العصر كما تمثل في الاخوان. وسنرى في كل اتهامات وكيل مؤسسي "حزب الوسط" مكيدة اخرى من المكائد التي تعرضت لها الجماعة في تاريخها، وجرأة غير مقبولة على مرشدها العام الذي يعد الآن بمثابة الوالد الاكبر للدعاة الاسلاميين في مصر، واسفافا غير مقبول في الخصومة، وربما نرى في طرح هذا الموضوع مجددا والدعوة لمناقشته على صفحات هذه الجريدة اساءة اخرى للإخوان وتحرشا بهم. غير ان هذا التعارض الواضح بين الرؤيتين لا يبرر ابدا تجاهل الموضوع وإنما يحتم اثارته ومناقشته، ولعل اجواء رمضان المبارك تمنح المتدخلين فيه قيم الصبر والسماحة وسعة الصدر فيأتي الجدل مبنيا على الحجج القوية، ملتزما اخلاقيات الخلاف، قاصدا معرفة الحقيقة او الاقتراب منها وليس الانتصار على اصحاب الرأي الآخر بأية طريقة، حتى لو كانت حجتهم اعدل واظهر. ان المرشد العام لجماعة الاخوان لا يمكنه ان ينكر ان حالة أبو العلا ماضي ليست شاذة، فهناك كثيرون امثاله تخلوا عن الجماعة، وتغيرت آراؤهم فيها، بعضهم يستطيع ان ينقدها جهرا وآخرون ينتقدونها نقدا لاذعا في المجالس فقط، ويجاملونها في المنابر العامة. ولو اقتصر النقد على كفاءة القيادة الحالية لجاز تجاهله، ولكن الامر تخطاه الى القول بأن الجماعة تسير الآن من دون بوصلة تحدد لها الاتجاه السليم، وبالاعتماد على افكار معزولة عن الواقع، واهداف لا يمكن تحقيقها في جيل او جيلين او اكثر، واساليب عاجزة عن استقطاب الاجيال الجديدة من الشباب او تغيير الواقع. وبما ان هذه الاتهامات توافقت مع الذكرى السبعين لتأسيس الجماعة فإن ذلك كله مما يشجع المرشد العام ومساعديه على دخول غمار المناقشة العلنية وتقديم ردود قوية ومقنعة على هذه الاتهامات، والاجابة عن الاسئلة الاساسية التالية. 1- ماذا حققت الجماعة خلال سبعين عاما من النشاط العلني والسري في مصر، وهل صدر عنها اي تقويم علمي وموضوعي متكامل لحصاد هذه الفترة؟ 2- ماهي اهدافها خلال العقود الثلاثة المقبلة، وهل تعتقد ان خلاياها وأسرها وشعبها مازالت هي الاطار الافضل لاستقطاب الشباب المصري، أم انها قد تتخلى نهائيا عن كل وسائل العمل السري؟ وهل تعتقد القيادة ان الحكومة المصرية ستتخلى عن رفضها منح الرخصة القانونية للجماعة خلال هذه الفترة ام انها لا تراهن على حصول مثل هذا التحول؟ وفي هذه الحالة ما هي البدائل المتاحة للإخوان؟ 3- هل تريد الجماعة ان تبقى على صفتها القديمة هيئة دينية وحزبا سياسيا في آن واحد، ام انها قد توزع عملها الى جناحين منفصلين مستقلين، الاول يهتم بالنشاط الدعوي وتعزيز القيم الدينية في الحياة العامة متضامنا ومتلاحما مع كل الجهود الرسمية والشعبية القائمة في هذا السياق، والآخر يحاول دخول الساحة السياسية او ينخرط في حزب من الاحزاب القائمة؟ 4- هل تقبل الجماعة ان الربط الكامل بين رسالتها والرسالة الاسلامية قد يجعل من نقدها هي لونا من انتقاد الاسلام نفسه على رغم ان ذلك غير صحيح، وان هذا الربط يعطي الانطباع بوجود ضرب من التمايز او التراتبية بين اهل الملة، اذ يقسمهم الى مسلمين واسلاميين، كما انه يوفر المنطلقات الفكرية للذين يشتد حماسهم للقيام بدور طليعة الاصلاح المكلفة إحياء قيم الدين، الى ان ينحرفوا ويتورطوا في حروب صغيرة مدمرة مع مجتمعاتهم؟ 5- اذا توصل قطاع واسع من المهتمين بالعمل الاسلامي في مصر الى نتائج مشابهة لتقويم ابي العلا ماضي، فهل يقبل المرشد وزملاؤه فكرة حل الجماعة مثلا والمساهمة في تأسيس كيان جديد يستفيد من دروس الاعوام السبعين الماضية ويصوغ اهدافه الجديدة في ضوء معطيات القرن المقبل وتحدياته القادمة. اما السيد ابو العلا ماضي فإنني آمل ان يقدم هو نفسه اجابات لكل الاسئلة آنفة الذكر كإخواني سابق، إضافة الى سؤال اساسي يطرح عليه وعلى امثاله من الغاضبين على قادة الاخوان، وهو التالي: لماذا الاصرار على تأسيس حزب جديد تعلمون ان السلطات لن تجيزه، وتجاهل فرص العمل القائمة من داخل الاحزاب الشرعية القائمة، وعلى رأسها "حزب العمل" الذي تبنى توجهات اسلامية حركية واضحة خلال الاعوام الماضية؟ ام ان العصبية الحزبية ماتزال هي الاعلى والاقوى نفوذا، بحيث لا يعتد بحزب ما لم يؤسسه اسلامي اصيل او اسلامي سابق؟ وما هي الفروق بين ادبيات "حزب الوسط" و"حزب العمل"، بل حتى جماعة الاخوان، حتى يبرر مسعاه الى تكوين تنظيم جديد؟ واذا وجدت هذه الفروق، ألم تكن متاحة معالجتها من داخل اطار "حزب العمل" ومؤسساته القانونية. ان سجالا حرا وصريحا حول هذه القضايا سيكون مفيدا للاخوان قبل غيرهم، ولمؤسسي "حزب الوسط"، وللنخب المصرية الحاكمة والمعارضة جميعا، إضافة الى المعنيين بملف الحركات الاسلامية في انحاء الوطن العربي، كما انه سيكون هدية مفيدة جدا الى عدد كبير من شباب الامة العربية الذي يستعدون لدخول ميدان العمل العام، اذ بناء عليه، سيقرر كثير منهم ما اذا كانوا سينخرطون في تتظيم من التنظيمات الاخوانية وحمل راية المرشد العام وافكاره، او ابداع افكار ومناهج عمل جديدة يظنونها اكثر توافقا مع زمانهم وتطلعاتهم. * كاتب تونسي، رئيس تحرير جريدة المستقلة ومجلة الديبلوماسي في لندن