يبدو الحديث عن اجراءات اقتصادية نمطية ومنظمة قبل الاسلام بعيدا عن الحقيقة التاريخية. فقد كان هناك غياب لسلطة مركزية، في ظل سيادة نوع من المشاعية او الملكية العامة للمراعي وعيون الماء والواحات ولذلك فان حرب البسوس قد انفجرت بسبب اقدام كليب على خرق نظام المشاعة هذا حين وضع في حماه عددا من المراعي وعيون الماء وحيوانات الصيد فكانت الحرب رفضا لنظام الحمى التي حاول اشاعتها في الحياة العربية. الابل قبل النقود وكانت الابل تقوم مقام التداول النقدي.ونعرف من كتب التاريخ ان فدية عبدالله بن عبد المطلب كانت مائة من الابل، بعد ان وضع عبد المطلب عشرة من الابل واجرى القداح عليها حتى وصلت الى مئة. وكانت سيادة واهمية الاشخاص في قبائلهم ولدى بقية العرب تقاس بمقدار مايملكونه من إبل، قال الشاعر: لنا ابل غر يضيق بها الفضا وتفتر عنها ارضها وسماؤها فمن دونها ان تستباح دماؤنا ومن دوننا ان تستباح دماؤها. كما كان هناك غياب لاقتصاد مستقل ومنظم، وكان التداول النقدي محدودا اذ كانت قريش تجمع الاموال من عدد كبير من التجار في قافلة واحدة بين مكة والشام او بين مكةوالعراق، كما كان التداول النقدي معتمدا على التبعية للساسانيين في العراق وللروم في بيزنطة، فقد كان العرب يتداولون الدراهم الساسانية والدنانير القيصرية من الروم، كما يول المقريزي في كتابه "النقود الاسلامية. وكانت الدراهم على نوعين: السوداء الوافية وهي دراهم فارس والطبرية العتق، وكانت زنة الدرهم هي زنة المثقال الذهب، ولما جاء الاسلام اقر الرسول وبعده ابو بكر التعامل بهذه النقود. وكان سعر صرف الدينار عشرة دراهم. وقد ورد في حديث ابي عبيد عن الصدقة، كما اثبته ابن زنجويه في كتاب "الاموال" "في ان الرجل اذا كان قد ملك في اول السنة من المال ماتجب في مثله الصدقة وذلك مائتا درهم او عشرون دينارا او خمس من الابل او ثلاثون من البقر او اربعون من الغنم"، وهذا يعني ان سعر الصرف في صدر الاسلام كان عشرة دراهم للدينار، كما يعني ان سعر الناقة كان أربعة دنانير أو أربعين درهما وان سعر البقرة ستة دراهم وستة وستون فلسا وان سعر الشاة كان خمسة دراهم. لكن الفرق في الصرف لأي سبب سرعان ما روعي في الزكاة، فقد كانت هناك زكاة على الدرهم بالدرهم وزكاة على الدينار بالدينار، تجنبا للفروقات في سعر الصرف. وكانت الدورة الاقتصادية بالنسبة لرأس المال سنة كاملة، فقد روى ابن المبارك عن سفيان الثوري، انه اذا كان عند الرجل مال يزكيه فلم يبق منه إلا درهم واحد، ثم استفاد مالا فليزكه، ولا زكاة في الربح حتى يحول عليه الحول. وكان مالك بن انس يسمي رأس المال "نصاب المال"، اما اهل العراق فيسمونه "أصل المال". ويبدو انه لم تكن للدرهم قيمة شرائية كبيرة، فقد ذكر مولى سعد بن ابي وقاص ان سعداً أعطاه درهما فاشترى به تمرا وعلفا لدوابهما، ولم يذكر ابن زنجويه أين حدث ذلك ولعله أثناء فتح العراق او بعده. ويذكر ابن سعد في طبقاته ان الهجرة الاولى الى الحبشة ضمت أحد عشر رجلا وأربع نسوة دفعوا أجرة على ظهر سفينتين نصف دينار. وواضح ان السفينتين لم تكونا سفن نقل للركاب، وربما كانتا سفن بضائع ،فإن سعر النقل من جدة الى الحبشة كان ثلاثة وثلاثين فلسا للشخص الواحد. وكان نظام الضرائب مختلفا في الاصقاع الاسلامية المفتوحة تبعا لطبيعة الضريبة التي كانت مفروضة قبل الفتح. ففي رسالة عمرو بن العاص الي الخليفة عمر بعد فتح مصركتب ان في الاسكندرية أربعين الفا من اليهود يدفعون الجزية الى الامبراطور البيزنطي. وذكر المؤرخ ملن ان الجزية كانت عشرين درهما، كما فرضت عشرة دراهم على الجمل الواحد وفرضت ضريبة العشر على التجارة، وفرضت ضريبة على المنازل بمقدار مئة درهم وعلى البحارة عشرة دراهم عن كل بحار وعلى البغايا مئة وثمانية دراهم. بدايات التراكم النقدي اما في العراق فقد كان نظام الضرائب في الدولة الساسانية قاسيا ايضا الى أن قام كسرى الاول سنة 531 بإصلاحاته للتخفيف من عبء الضرائب فألغى نظام المقاسمة وأقر نظام المساحة وقد سمى الطبري في تاريخه هذه الاصلاحات بپ"وضائع كسرى". وكانت هناك ضريبةالرأس في كل من الدولتين الساسانية والبيزنطية. وتناولت الضرائب على الانتاج الزراعي الحنطة والشعير والارز والكرم والرطاب والنخيل والزيتون ووضع لكل جريب أرض من حنطة وشعير درهم وقفيز وعلى كل جريب ارز نصف وثلث، وجعلت جباية الخراج على ثلاثة اقساط في العام، في كل أربعة اشهر، وهو النظام الذي ظل متبعا في الدولة الاسلامية حيث أقره زياد بن ابيه في زمن معاوية فأعاد خراج بعض المقاطعات التي جبى ولاتها الخراج في مرة واحدة أو جبى ولاتها ثلثين في أربعة اشهر اذ اعتبره اثقالا لكاهل المزارعين. وكدليل على ثراء الدولة الساسانية يورد المسعودي وصفا لثراء كسرى بقوله ان كسرى ابرويز كان يملك اثنتي عشر ألف امرأة وجارية وألف رأس خيل وخمسين ألف دابة. واذا كانت احصائية البلاذري في فتوح البلدان دقيقة من ان الذين وجبت عليهم الجزية في جميع أنحاء العراق من تخوم الموصل الى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرق دجلة ومن منقطع الجبل من أرض حلوان فوق خانقين وجلولاء الى منتهى طرف القادسية المتصل بالعذيب من أرض العرب، وهي حدود العراق التي وقع عليها الخراج، كانوا 550 الف رجل وان الجزية قدرت حسب طاقة الرجل فأخذ من الفقير 12 درهما ومن المتوسط 24 درهما ومن الغني 48 درهما، فإن المبلغ الاجمالي السنوي للجزية دون الخراج حسب المعدل وهو 28 يكون خمسة عشر مليون وأربعمئة الف درهم. وكان سعر الصرف في تلك الفترة حسب الطرطوشي في كتاب "سراج الملوك"، "اثني عشر درهما بدينار". وهذا يعني ان سعر الصرف قد اختلف خلال خلافة عمر بدرهمين عما كان عليه في دراهم الصدقة التي ذكرها ابو عبيد. ويختلف ايضا عن السعر الذي ورد في خطبة لعلي بن ابي طالب في الكوفة مخاطبا اهلها على كثرتهم بقوله: "وتالله يا أهل الكوفة لوددت أني صرفتكم صرف الدنانير، العشرة بواحد". وتذكر كتب التاريخ المسعودي والطبري وابن الاثير ان سعد بن ابي وقاص قسم الفئ بين الناس وكان عددهم ستين الفا معظمهم من الفرسان، بعد ان عزل الخمس، فكان نصيب الفارس يبلغ اثني عشر الف درهم وهو مبلغ كبير يعادل سعر 300 ناقة او بعير مما يعد ثراء واضحا. كما انه يعني ان مجمل ما غنمه المسلمون يبلغ 720 مليون درهم وهو مبلغ كبير جدا ربما يساوي الجزء الاكبر من أموال الدولة الساسانية اذ اشتمل على غنائم ذهب وجواهر وحلي وأحجار كريمة وجدت في الخزائن فضلا عن الخيل والاموال والجواري. وبسبب السيولة الناتجة عن وفرة اموال الخراج والجزية فرض الخليفة عمر في العطاء خمسة آلاف درهم في السنة للمسلمين السابقين في الاسلام والمقربين من الرسول مثل أهل بيته، علي والعباس والحسن والحسين، وفرض لمن شهد بدراً أربعة الاف درهم ولأمهات المؤمنين ستة آلاف وفرض لنساء المهاجرين من مئتين الى ستمئة، وفرض لكل مولود مئة درهم فإذا ترعرع بلغ به مائتين. وكان عمر قد فرض الضريبة التصاعدية في عهده فقد كتب الى واليه على البصرة ابي موسى الاشعري ان "خذ ممن مر بك من تجار المسلمين من كل مئتين خمسة، فما زاد على المئتين فمن كل أربعين درهما درهما"، وهذه الضريبة ليست الا الضريبة الجمركية فهي تخص تجارة المرور عبر البلدان. وكانت التجربة الضرائبية إرتجالية لم تدخل في منظومة اقتصادية وتعتمد على الملاحظة فقد باع رجل الى عبدالرحمن بن يعلى فرسا بمئة ناقة شابة ثم ندم فأخبر عمر بن الخطاب ان بن يعلى غصبه فرسه فأرسل عمر الى بن يعلى فأخبرة الخبر فاندهش عمر من ارتفاع اسعار الخيل وقال: تأخذ من أربعين شاة شاة ولا تأخذ من الخيل شيئا، وفرض على كل رأس خيل دينارا. وقد تكونت التجربة الاقتصادية لصدر الاسلام عبر التجربة والاختبار. وقد بدأت في اسارى بدر، فقد كان فداء الأسير الواحد أربعين اوقية، والاوقية اربعون درهما وبهذا يكون بدل الفداء 1600 درهم الاموال لابن زنجويه ص 310 غير ان ابن هشام في زياداته على السيرة قال ان فداء الاسير يومئذ بلغ أربعة الاف درهم. وربما كان هذا صحيحا فيما يتعلق بأثرياء قريش دون فقراءهم حيث اننا نعرف من خلال السيرة قصة الذين لم يجدوا من يفاديهم فكان فداءهم تعليم أبناء المسلمين. وربما عمم ابن هشام سعر فداء ابي وداعة الذي بلغ أربعة الآف درهم على بقية الاسرى. وكانت موارد اسارى بدر هي الموارد المالية الاولى التي جاءت الى المسلمين منذ بدء الدعوة. اما في زمن الخليفة عمر بن الخطاب فقد فدى عمر كل رجل بأربعمئة درهم وتم فداء البعض بستة نوق شابة ابن زنجويه - الاموال ج1ص 350 وبهذا يكون سعر الناقة قد ارتفع عما كان عليه من قبل اذ بلغ ستة وستين درهما بعد ان كان أربعين درهما. وبعد فتح العراق في زمن عمر قدرت ضريبة الفدان المزروع قمحا بأربعة عشر درهما. النظم الاسلامية للصالح ص360 واعتبر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك ان الواجب في ضريبة الأرض أي الخراج هو ما فرضه عمر وهو في كل جريب كرم عشرة دراهم وفي كل جريب نخل ثمانية دراهم وفي كل جريب رطبة او شجرة ستة دراهم ومن كل جريب شعيردرهمان سراج الملوك ص405، والجريب يساوي حسب مقاييس المستشرق هنتس في الكمية 22.517 كيلو غراما ومساحة 1952متراً مربعا. ولما فتحت مصر سنة 20 هجرية فرض عمرو بن العاص على الاقباط فيها دينارين على رأس كل رجل بالغ، دون النساء والشيوخ والصبيان فجبيت في اول عام 12 الف الف دينار وقد روي في رواية اخرى ان ما جبي كان 16 ألف ألف دينار فأقر ذلك عمر بن الخطاب. ويبدو ان الروايتين اللتين ينقلهما المقريزي مبالغ فيهما كليهما او لم يحسبا جيدا اذ يعني هذا ان سكان مصر آنذلك كان يفوق العشرين مليونا على أقل تقدير. * كاتب عراقي.