قرأت، بشيء من الألم، في جريدة "الحياة" عددها الصادر في 10 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، مقالاً لعصام أبي جمرا "ضابط ووزير سابق في حكومة العماد ميشال عون"، بعنوان "الرئيس اللبناني بين الطائفودمشق". تألمت اذ اتضح لي ان معظم ما ورد في المقال يقصد به، حصراً واساساً، الإساءة الى العماد اميل لحود الذي، كما هو معلوم، ينتمي أصلاً الى الجيش اللبناني، تلك المؤسسة، بل العائلة الواحدة التي ينتمي اليها كاتب المقال. لن أتوقف طويلاً عند البحث، أو الجدل القانوني، بل الدستوري، الذي أثاره كاتب المقال حول صلاحيات الرئيس وفقاً "لدستور" الطائف الذي، كما هو معروف، شذب تلك الصلاحيات ونقل معظمها، خصوصاً في الحقل الاجرائي، الى مجلس الوزراء. ان العقلاء في لبنان، وهم، من دون ريب، اكثرية، يعتبرون ان التوازن السياسي شرط اساسي لاستقراره ووحدته وازدهاره. وليس، على كل حال، من مصلحة لبنان، عموماً، ولا من مصلحة مسيحيي لبنان، والموارنة، خصوصاً، ان يكون الرئيس اللبناني الماروني، وحده، وبحكم صلاحيات واسعة موسعة، "قاطع رؤوس"، بل ان مثل تلك المسؤولية ينبغي ان تكون جماعية يضطلع بها الرئيس ومجلس الوزراء، بالتنسيق والتفاهم. ان جميع القرائن تشير الى ان مثل هذا الأمر - الإصلاح السياسي والإداري - سوف يتحقق بالتعاون الوثيق بين الرئيس وبين الحكومة، خصوصاً بعد ان أصبح الدكتور سليم الحص رئيساً لها، يشاركه فيها وزراء جدد يحظون بصدقية كبرى لدى الرأي العام اللبناني. وليسمح لي كاتب المقال ان أقول له، بكل بساطة، ان الحكم في لبنان شراكة، أو لا يكون حكم. أتراه قد نسي ما حل بحكومة العماد عون، وقد كان عضواً فيها، عندما استقال منها جميع الوزراء المسلمين؟ لقد أصبح لبنان بحكومتين تقاسمتا المسؤوليات والصلاحيات. فلا هذه ولا تلك استطاعتا ان تمارسا الحكم بفعالية وجدية. ولو استمر ذلك الوضع الشاذ طويلاً لكان قضى على وحدة الوطن، لا سمح الله. من أجل ذلك أجيز لنفسي ان أذكر صاحب المقال بأن "السرعة من الشيطان"، وان أوصيه، بالتالي، ان يتذرع بقليل من الصبر، وان يُعطي الرئيس لحود فرصة معقولة في نهايتها يحكم له أو عليه. "فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان". انتقل الآن الى الأمر الذي آلمني اذْ هو يشكل، من قبل كاتب المقال، طعناً بالرئيس لحود ومحاولة صريحة للحط من قدره ومن كرامته، ولاتهامه بما يشبه الخيانة العظمى! فعلى سبيل المثال - لا الحصر - أورد بالحرف الواحد فقرات من ذلك المقال: "كافأ سيادة الرئيس السوري حضرة العماد على سيرته منذ 1989 وعيّنه رئيساً ليتابع السير بلبنان الى ما يحقق مصلحة سورية في لبنان أولاً". وكذلك: "إن الوصاية على لبنان لن تزول بمجيء العماد رئيساً". وكذلك ايضاً: "طالما تميز فخامة الرئيس العماد بممارسة الولاء لسورية منذ عشر سنين وأعلنه مراراً، وتم تعيينه من قبل سيّدها رئيساً مكافأة على فهمه لمضمون هذه العلاقة وأبعادها". انتهى النص. بعد قراءة هذه الفقرات، اسأل كل لبناني عاقل وواقعي ومخلص، بل اسأل صاحب المقال نفسه: - هل من مصلحة لبنان، خصوصاً في الظروف الشرق أوسطية الراهنة، ان يكون رئيسه عدواً لسورية، أو خصماً لها، أو على خلاف مع المسؤولين فيها؟ - بل هل من مصلحة لبنان ألا يكون رئيسه على علاقة ممتازة - أو مميزة - مع سورية، وعلى تفاهم تام معها؟ - وهل من مصلحة لبنان، في مثل هذا المحتوى، ان يعقد صلحاً منفرداً مع اسرائيل، أو أية اتفاقية، من دون التنسيق مع سورية؟ - هل نسينا ما آلت إليه تلك الاتفاقية التي عقدها لبنان، في عهد الرئيس أمين الجميل، مع الدولة العبرية، مندون التنسيق مع سورية، وبمعزل عنها؟ - هل يجوز للعقلاء منا ان يجهلوا ويتجاهلوا التطور الحاسم الذي جرى في المنطقة، بل في العالم، من جراء غزو الكويت، ذلك الغزو الذي أدى الى تحالفات جديدة والى قلب الأمور رأساً على عقب، والى تبديل جذري في موازين القوى، والى الاعتراف لسورية، خصوصاً من قبل الولاياتالمتحدة وفرنسا، بدور مميز في لبنان، الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا؟ إن ما كتبه اللواء أبو جمرا في مقاله، خصوصاً في الفقرات التي ذكرناها، هو بمنزلة طلقات رشاش أصابت جميع النواب اللبنانيين، قبل ان تصيب الرئيس لحود بالذات. فإذا صح قول اللواء أبي جمرا، فذلك يعني ان أولئك النواب - وهم يمثلون شبه إجماع المجلس النيابي - الذين انتخبوا العماد لحود رئيساً، انما فعلوا ذلك ضد قناعتهم، وضد ارادتهم، وتنفيذاً لتعليمات - أو أوامر - الرئيس الأسد الذي - حسب قول كاتب المقال - "عيّن" العماد لحود رئيساً... . وبتعبير آخر - إذا صح كلام اللواء أبي جمرا - فذلك يعني ان أولئك النواب، لو تركت لهم "الحرية"، لما كانوا انتخبوا العماد لحود، بل مرشحاً آخر يقف في وجه سورية ويعلن عليها الحرب، كما فعل العماد عون يوم أعلن "حرب التحرير" المعروفة التي انتهت بالشكل المأسوي المعروف! لا ريب ان الرئيس الأسد قد اسهم، بالنسبة الكبرى، في وصول العماد لحود الى سدّة الرئاسة الأولى في لبنان. ولكن الرئيس الأسد، بما فعل، لم يكن سوى منفذ لإرادة الكثرة الكثيرة من اللبنانيين، فلقد دلت جميع استطلاعات الرأي وجميع التحريات والتحقيقات، الى ان العماد لحود يأتي، بين المرشحين، في المركز الأول، ويسبقهم جميعاً بأشواط وأشواط. ذلك ان مؤهلات العماد لحود تنبع من ذاته، من أصالته، من تربيته وتنشئته، ومن عناصر ذات صلة بمدرستين اساسيتين كان لهما الدور الأكبر في تكوين شخصيته. المدرسة الأولى: هي التي نشأ وترعرع فيها منذ نعومة أظفاره حتى سن شبابه، في البيت العائلي، في كنف والده اللواء جميل لحود، رحمه الله. فلقد كان هذا الأخير، باعتراف جميع عارفيه، يتحلى بالمناقبية والاخلاقية والروح الوطنية والشجاعة الأدبية، فانتقلت تلك الصفات، بصورة طبيعية، الى ابنه. المدرسة الثانية: هي مدرسة الجيش اللبناني الوطني الذي وضع حجر أساسه اللواء فؤاد شهاب، رحمه الله، فكان، في جوهره وفي واقعه، مدرسة التنشئة الوطنية، وما يتفرع عنها من قيم وصفات تؤهل صاحبها للاضطلاع بالمسؤوليات الجسام. ولأن العماد اميل لحود، باعتراف القاصي والداني، يتحلى بتلك الصفات، النابعة من ذاته، فقد رشحه الشعب - و"صوت الشعب من صوت الله" - قبل ان يرشحه أي مرجع آخر. وإذا كان العماد لحود، منذ سنين، قد انسجم مع الأشقاء السوريين فمشى، وإياهم، جنباً الى جنب، في طريق واحد، فذلك مرده الى قناعة وجدانية تنبع من ضميره، ومن المدرستين اللتين تخرج منهما. فالعماد اميل لحود، في الأصل، ذو تفكير لبناني وطني عربي، لا فضل عنده لمسيحي على مسلم، ولا لمسلم على مسيحي، الا بالولاء للبنان ولما يمثل من قيم وطنية وقومية وانسانية. أما أن نساوي، في هذا المجال وفي غيره، سورية باسرائيل - "أن نساوي أنف الناقة بذنبها" - فهو خطأ جسيم تترتب عليه عواقب لا يعرف إلا الله خطورتها ومداها. في ما مضى، طالب الرئيس أمين الجميل، علناً ورسمياً وبالصوت العالي، سورية بالانسحاب من لبنان. فلم يتجاوب معه المسلمون، بقي صوته صرخة في واد ونفخة في رماد. أكثر من ذلك: لقد استعان الرئيس الجميل، ضد سورية، بالولاياتالمتحدة وبفرنسا وايطاليا وانكلترا، وجميعها أرسلت جيوشاً الى لبنان، بقطع النظر عن قطع الاسطول الحربي التي رابطت في المياه الاقليمية اللبنانية. ماذا كانت النتيجة! انسحبت الدول الأربع مع جنودها تجر أذيال الخيبة والهزيمة، وبقيت سورية فيه! لا بد ان كاتب المقال يعرف ان مصير لبنان، على الصعيدين الدولي والشرق أوسطي، لا يقرر في القصر الجمهوري وفي السراي الكبير، ولا حتى في دمشق، فحسب، ان للبنان كلمته، ولسورية كلمتها، ولكنهما لا يمارسان سلطة القرار المطلق. فالقضية اللبنانية ذات تعقيدات كثيرة. ثم ان تحرير الجولان انطلاقاً من الجولان أمر مستحيل في المحتوى الشرق أوسطي الحالي، لأن القضية الأساسية - النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني - التي منها وعنها تفرعت قضايا كثيرة، كجنوب لبنان والجولان، لم تحل بعد، وهي، يوماً بعد يوم، تصطدم بعقبات كأداء مردوده، بنسبتها الكبرى، الى موقف الحكومة الاسرائيلية والى كون مصير نتانياهو، كرئيس حكومة، رهناً باليهود المتطرفين المعروفين "بالأصوليين التوراتيين"، فأصبح، لهذا السبب، رهينة بين أيديهم. ولقد أثبتت الولاياتالمتحدة ان سلطتها وتأثيرها على اسرائيل تقفان عند خطوط حمر لا يسعها - رغم "عظمتها" - تجاوزها. إن حل النزاع السوري - الاسرائيلي موضوع على نار خفيفة، وما يجري في العلن هو جزء يسير مما يجري بين الكواليس. إن الاعمال الفدائية التي تمارسها المقاومة اللبنانية انطلاقاً من الجنوب ليست الغاية منها تحرير الجولان، بل تحرير الجنوب. ومن المعروف ان سورية تدعم تلك المقاومة، بوسائل متنوعة، لتساعدها على بلوغ الهدف. أفلا يغدو من واجب لبنان، بل من مصلحته، ان يبادلها بالمثل؟ إن الدول الكبرى المعنية بالشأن اللبناني مقتنعة بأن انسحاب سورية من لبنان رهن بانسحاب اسرائيل من الجولان. فطالما ان المجموعة الدولية لم تستطع ارغام اسرائيل على الجلاء عن لبنان وعن الجولان، رغم قرارات الاممالمتحدة الصريحة في هذا الشأن، فكيف يمكنها إرغام سورية على الانسحاب من لبنان، وليس هنالك أي قرار أممي يفرض عليها مثل ذاك الانسحاب؟! ومن يدري؟ فقد تتوصل الدولة اللبنانية، بالتعاون الوثيق بين الرئيس لحود وحكومة الرئيس الحص، على اقناع الأشقاء السوريين بالانسحاب من لبنان، بل انسحاب اسرائيل من الجولان. ولكن، لكي يصبح مثل هذا الأمر ممكناً ينبغي على اللبنانيين - جميع اللبنانيين - أياً تكن ميولهم وأهواؤهم، ان يدعموا الدولة اللبنانية بكل الوسائل، لا ان يوجهوا الى رئيسها - قبل ان يعرفوا خيره ولا شره - مثل تلك الانتقادات الجائرة التي قرأناها، مثلاً، في المقال الذي نحن بصدده. فليس الحكم، في لبنان في الظروف الراهنة، مشوار شم هواء. و"الحرب بالنظارات هينة" كما يقول المثل العامي. ان لبنان مسؤولية جماعية ملقاة على عاتق الدولة وعلى عاتق المعارضة في آن. وإن كل محاولة تهدف، حالياً، الى اضعاف الرئيس لحود - وهو في أول الطريق - تؤدي، بذات الفعل، الى اضعاف لبنان والى تسديد ضربة قوية الى استقراره السياسي. فهل هذا ما يريده كاتب المقال؟ * كاتب لبناني