لم يكن خطاب قسم اليمين الذي أعلنه الرئيس اللبناني الجديد تحت قبة البرلمان، مختلفاً عن الخطاب الأول الذي أذاعه إثر انتخابه بإجماع 118 نائباً. ذلك انه حرص في المناسبتين على التأكيد بأنه يضع مبدأ احترام القانون والنظام في طليعة اهتماماته وأولوياته. وكان بهذه النبرة الجازمة يجيّر شعارات المؤسسة العسكرية إلى مجلس النواب، متبنياً في خطاب القسم أسلوب الصرامة في تطبيق القوانين التي يعتبرها الأسس المتينة لبناء دولة العدالة والنظام والمساواة. وحول هذه النقطة المركزية بالذات تعمد الرئيس لحود تكرار لازمة "احترام القانون" كأنه بهذا التذكير المُعاد يريد تأسيس قناعات جديدة في أذهان المسؤولين والمواطنين ترشدهم الى المعيار الحقيقي لميزان حكمه. ولقد استخدم لنقل رسالته الى النواب والجمهور، أسلوب الكاتب السياسي البريطاني تيم بال الذي اعتمدته السيدة ثاتشر لتدبيج خطاباتها. أي الخطابات الهادفة الموجهة الى الرأي العام والمتميزة بكثرة الاسئلة وتكرار الأجوبة بحيث ترسخ في الأذهان. واستعمل الرئيس لحود اكثر من عشر محطات "نعم" في خطابه لتأكيد ما يهمه تأكيده. ومن الأمثلة على ذلك: "عنيت به احترام القانون وتطبيقه. "نعم"، احترام القانون وتطبيقه. اننا نمارس ونطاع بقوة القانون لا بقوتنا... "نعم" بقوة القانون. أقول للناس حتماً ستكون هناك بداية... "نعم" ستكون هناك بداية"! المراقبون في البرلمان... والمشاهدون عبر شاشات التلفزيون، لاحظوا ان الرئيس لحود ارتدى البذلة المدنية، ولكنه لم يخلع من ذهنه بزة العماد لحود. ولقد بدا ذلك واضحاً في خطواته العسكرية، ولهجته الآمرة، خصوصاً أثناء أداء قسم اليمين الدستورية. ويستفاد من القراءة المتأنية لمضمون الخطاب ان الرئيس الجديد تعمد فصل عهده عن العهد السابق بدليل انه لم يذكره بخير، وانما رسم صورة قاتمة للفوضى السياسية المستشرية وللوضع الاقتصادي المشوش، مذكراً بأن الشعب يطالب بالتغيير لأسباب كثيرة بينها: "لأنه يرىد قضاء نزيهاً مستقلاً عن كل التدخلات... وإدارة نظيفة تخضع لرقابة صارمة بعيداً عن الحماية السياسية والطائفية... ومسؤولين يحكمون بالقانون ولا يعتبرون انفسهم فوق النظام والقانون". واستخدم مجازاً عبارة قطع يد السارق والمنتفع أياً كان لكي يحذر من مغبة سقوط الموظفين في تجربة الرشوة. وانتقد بقسوة السياسة الاقتصادية - المالية، التي أدت الى تفاقم الأزمة المعيشية، وتساءل بلسان المواطن العادي عن: كيفية تراكم الديون... وطريقة تلزيم المشاريع ومراقبة الاموال العامة؟ وحث المتنفذين والمسؤولين على التقشف لأنهم يطالبون المواطن باتباع أساليب معيشية تختلف عن نمط الحياة المترفة التي يعيشونها. وهو في كل هذا يقدم نفسه المثل والمثال معتبراً ان رأس الدولة يجب ان يكون القدوة الحسنة والرمز المثالي لكل ما يتعلق باحترام النظام والقانون. وربما يكون اميل لحود الرئيس الأول الذي استخدم في ظل الدستور الجديد عبارة "رأس الدولة" كأنه بذلك يريد ان يميز دوره عن أدوار رئيسي المجلس والحكومة. و"الرأس" هنا معناه سيد القوم ومقدمهم. يجمع السياسيون والمعلقون على وصف خطاب الرئيس لحود بأنه "بلاغ رقم واحد" وانقلاب سياسي أبيض يشير الى تغيير جذري في اسلوب الحكم وطريقة الأداء. وهو يتوقع من خلال توجهات خطابه بناء مؤسسات الدولة على نحو مماثل لمؤسسة الجيش. أي على أسس الكفاءة والجدارة والمساواة بعيداً عن المحسوبية والطائفية وكل ما يمنع حدوث تغيير عميق في حياة المجتمع اللبناني. ولقد وعد بأن يكون هو البادئ بإطلاق حركة التغيير، ملمحاً الى عدم الاستعجال في إصدار الاحكام على أسماء الوزراء في التشكيلة المرتقبة. وطالب بالحكم على الممارسة لا على الاشخاص، ليقينه بأن العمل معه سيكون مختلفاً عن العمل مع سواه. وكان بهذه الإشارة التي ختم بها خطابه يلمح الى بعض الأسماء التي تعتبر من ثوابت الحكم. ومع انه كان يخاطب اعضاء مجلس النواب، إلا انه وجه كلامه "إلى اللبنانيين" طالباً منهم ان يكونوا الحكم على وعوده وتعهداته، كأنه بذلك يريد بناء جسور الثقة مباشرة مع الذين فرحوا بوصوله واطمأنوا الى حكمه. في ظل التوقعات الكبيرة يتساءل الديبلوماسيون في بيروت عن الأسباب التي اعطت الرئيس لحود دعماً شعبياً أكثر صدقية من الاجماع الموجه الذي حصل عليه في مجلس النواب. الجواب على هذا يكمن في حادثة سياسية رمزية رواها الرئيس الاميركي الأسبق ريتشارد نيكسون أثناء جولته الواسعة سنة 1974 على عدد من عواصم العالم. قال انه زار بوخارست تلبية لدعوة رسمية من تشاوتشيسكو، وحدث اثناء مرور السيارة في الساحة الكبرى ان أمطرها المشاهدون بالأزهار بحيث اضطر السائق للتوقف احياناً. ونظر نيكسون باستغراب الى مضيفه يسأله: ترى، الى هذا الحد يحب أهل رومانياالولاياتالمتحدة؟ وأجابه تشاوتشيسكو بخبث: لا. الى هذا الحد يكرهون الاتحاد السوفياتي! ضمن هذا الاطار يجب ان يفسر العهد الجديد عواطف الغالبية الشعبية المتضررة التي تمثل اكثر من تسعين في المئة من الناس. ومن ضمن هذه المقارنة يجب قياس ردود الفعل باعتبارها وليدة غضب دفين وسخط شامل. صحيح ان السيرة الحسنة التي ميزت العماد لحود ساهمت في خلق صورة نموذجية لقائد نجح في رعاية مؤسسة الجيش... ولكن الصحيح ايضاً ان الاهتراء الذي أصاب ادارات الدولة كان الدافع الاساسي لمطالبة غالبية الشعب بضرورة التغيير والاصلاح. وفي زمن "الترويكا" الصعب أطل لحود كرمز للأمل، خصوصاً وانه يدعو الى بناء دولة جديدة وعد بإرساء قواعدها على اسس النظام والقانون. ومع انه يعرف جيداً انه يسبح ضد تيار الواقع، إلا انه تعهد في خطابه باجتراح بداية... قال إنها ستبدأ مع عهده. السبب الآخر الذي عمم فرحة اللبنانيين وشجعهم على الاحتفال بالرئيس الجديد هو حب التغيير كل ست سنوات. ذلك انهم شعروا بعد قرار دمشق التمديد للرئيس الهراوي ثلاث سنوات اضافية، ان التراث الدستوري الذي تميز بمبدأ التواصل والتداول، قد ألغي فجأة. وحسب كثيرون ان هذا الإلغاء سيدخل الرئاسة اللبنانية في مجموعة الرئاسات الشرق أوسطية المتجددة دائماً بحكم الاستمرارية. من هنا يرى المؤرخون ان لبنان لم يصب بعدوى الانقلابات التي اجتاحت المنطقة بسبب زوال الحاكم بنص دستوري كل ست سنوات، أو بسبب التغيير الرئاسي الذي خبره لبنان منذ عام 1926 في وقت كانت المانيا واسبانيا والبرتغال وايطاليا تعاني من ديكتاتوريات مستمرة مثل هتلر وفرانكو وسالازار وموسوليني. ولقد عزز هذا الترابط والتواصل التاريخي استقرار الديموقراطية، وانتعاشها في ظل المؤسسات الدستورية. ويرى المشرعون ان الاستحقاق الرئاسي سيساعد الرئيس الجديد على بناء دولة المؤسسات اذا نجح في تخطي الحواجز السياسية والطائفية والميليشياوية التي يعتبرها عائقاً في طريق تحقيق ما حققه في مؤسسة الجيش. وبما ان تركيبة المجتمع اللبناني لا تحتمل قيام رئيس قوي، فإن البديل انشاء دولة قوية. أي في دولة مسلحة بسلطة القانون، على كل المستويات ولكل الطوائف والفئات. أول ردّ فعل جهر به دوري شمعون كان يحمل شعوراً مختلطاً يتراوح بين الاعجاب ببناء دولة القانون... والتحفظ على تفسير الرئيس لحود للعلاقات السورية - اللبنانية. ومع ان العماد لم يتطرق في خطابه الى ضرورة استعادة السيادة الوطنية الكاملة، إلا من زاوية الانسحاب الاسرائيلي، فإن مجمع المطارنة ينتظر الفرصة المناسبة لإثارة ما حدده الدستور الجديد من مبادئ عامة ومن صلاحيات ملزمة. أي الصلاحيات التي تطالبه بالمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه . من أغرب المظاهر الاعلامية، كانت ظاهرة تجاهل التغيير الرئاسي في لبنان. ولولا ما كتبته ثلاث صحف فرنسية لما عرف الأوروبيون ان هناك رئيساً جديداً قد اختير بالاجماع تقريباً. أما الصحف الاميركية فقد تجاهلت الموضوع برمته واكتفت بما نشرته "الهيرالد تريبيون" من صيغة لا تتعدى العلم والخبر. والسبب - كما يبرره الاعلاميون الغربيون - ان سورية كانت عراب التغيير، بدليل ما أعلنه الرئيس الهراوي اثر اجتماعه الأخير بالرئيس حافظ الأسد. على كل حال، الولاية الرئاسية الحالية بدأت هذا الاسبوع مع كثير من الأمل بأن يحقق لحود وعوده بإقامة دولة المؤسسات السياسية على غرار ما حققه في مؤسسة الجيش. وربما تكون المرحلة المقبلة التي تشهدها المنطقة من أخطر المراحل واكثرها تعقيداً. ولقد تزامنت كل الاستحقاقات الدولية والاقليمية مع موعد وصول العماد لحود الى رئاسة الجمهورية. ومن المؤكد ان لبنان سيتأثر بمضاعفاتها، خصوصاً اذا رفضت اسرائيل التنازل عن القدسالشرقية، وحل قضية اللاجئين، والانسحاب من الجولان. وهذه كلها احتمالات واردة قبل نهاية هذا القرن، أي قبل ان يجدد نتانياهو برنامج انتقال اسرائيل الى القرن المقبل، مشترطاً انتقال ولايته الثانية التي من المفروض ان تنتهي مع نهاية عهد لحود... أي عام 2004. تراهن دمشق في المرحلة المقبلة على قيام أوروبا الموحدة لعلها تتدخل بشكل مستقل عن الولاياتالمتحدة، وتمنع الأذى الذي تخططه اسرائيل لمنطقة الشرق الأوسط. وهي تتوقع متغيرات كثيرة على الساحتين الفلسطينية والعربية، لا بد وان تربك الساحة اللبنانية ايضاً بسبب ارتباطها العضوي بكل قضايا المنطقة، لهذا السبب وسواه أيدت سورية انتخاب العماد اميل لحود لقناعتها بأن تحصين البلاد من الداخل يعين على ردع الأذى الخارجي. وعليه تبقى المسألة اللبنانية رهينة الوضع الاقليمي المتوتر الى ان تظهر احتمالات التسوية الاقليمية الكاملة مع ظهور الحدود النهائية لدولة اسرائيل الموسعة! يبقى السؤال الأهم: هل ينجح الرئيس لحود في اقناع السياسيين بتبني طروحاته المخالفة لطبيعة مهماتهم... أم يتراجع ويعتريه اليأس كما تراجع سلفه في قيادة الجيش اللواء شهاب؟ يقول أصدقاء لحود ان سلوكه الشخصي يمنعه من تغيير نمط تفكيره، وان مسؤولياته السياسية الجديدة يعتبرها جزءاً مكملاً لمسؤولياته العسكرية. وبناء على هذه الذهنية، يتوقع المراقبون ان ينجح الرئيس لحود في رسم حدود جديدة لعلاقات الرؤساء الثلاثة في مؤسسة الحكم. خصوصاً وانه يحمل في أدائه ذهنية المهندس لا ذهنية المحامي أو الديبلوماسي أو الإداري أو الصحافي ممن تعاقبوا على الحكم في لبنان. والفرق - كما يقول النقيب عاصم سلام - ان الوقائع والارقام والحسابات هي التي يعتمدها المهندس لرسم المعطيات، بينما يعتمد الآخرون على الحدس والتكهن والاستشراف. وفي ضوء هذا التغيير الذي شهده قصر بعبدا، يتوقع النواب مزيداً من التعاون الذي ينقصه الانسجام بين مهندس - عسكري يرسم حدود السلطة.... وبين مقاول يحاول تنفيذ مشروعه الضخم... وبين محام يبحث عن قضية ساخنة يشغل بها الرئيسين! * كاتب وصحافي لبناني