أعلن الرئيس الأميركي بيل كلينتون انه اتخذ قرار ضرب العراق يوم الثلثاء الماضي، وهو على متن الطائرة في ختام قمة ثلاثية فاشلة عقدها مع نتانياهو وعرفات عند حاجز "ايريز". وقال انه اتخذ القرار اثر اطلاعه على التقرير الذي قدمه رئيس اللجنة الدولية الخاصة بنزع اسلحة العراق المحظورة ريتشارد بتلر. علماً بأن التقرير لم يكن يحمل الأدلة الكافية التي تستحق مثل هذا العقاب المتسرع، بدليل ان كوفي انان نصح مجلس الأمن الا يعتمد في مراجعته الشاملة على عمليات التفتيش الاخيرة. والسبب ان الحادثين اللذين تعرض لهما المفتشون لا يمكن اعتبارهما من الامور المؤثرة على تعاون العراق مع اللجنة. فالحادث الأول الذي وقع يوم الأربعاء الاسبق، اتخذه ريتشارد بتلر ذريعة لسحب المفتشين بطريقة اثارت مخاوف كوفي انان وأعضاء مجلس الأمن. ذلك انه تعمد الدخول الى مقر حزب البعث مدعياً ان قرارات الأممالمتحدة تنص على حق تفتيش جميع المواقع. ولكن السلطات العراقية لم تعول كثيراً على هذا الحادث الذي عولج على الفور، الأمر الذي حمل وزير الخارجية محمد سعيد الصحاف الى الاعراب عن امله بأن يتبنى مجلس الأمن موقفاً موضوعياً من تعاون بلاده مع المفتشين. وقال ان بلاده نفذت كل التزاماتها الواردة في القرار 687، وانها تنتظر المراجعة الشاملة من قبل مجلس الأمن في منتصف كانون الثاني يناير المقبل. وفجأة، امر بتلر ثمانين مفتشاً بمغادرة العراق فوراً بعد الغاء عملية تفتيش كانت مقررة يوم الأربعاء الماضي، اي يوم بداية الهجوم. واعترض امين عام الأممالمتحدة على قرار سحب المفتشين، مؤكداً ان الحكم على التعاون يجب الا يستند الى حادثة واحدة بل الى مراجعة كاملة. واتهم مندوبو فرنساوالصين وروسيا رئيس لجنة "اونسكوم" لأنه في نظرهم، افتعل اسباب الانسحاب مع قائد الفريق روجر هيل وهو اوسترالي مثله لكي يعطي العذر للرئيس كلينتون باتخاذ قرار الضرب. والمعروف ان بتلر قدم لأميركا خدمات جلى خصوصاً عندما كلفته الوزيرة اولبرايت بوضع صيغة لنقل موضوع اتفاقية حظر التجارب النووية من جنيف الى نيويورك. ولقد كافأته واشنطن على عمله ورشحته لرئاسة لجنة "اونسكوم" بعدما انتهت مهمته الديبلوماسية. وكان من الطبيعي ان تفتح له المهمة الجديدة باب التعاون مع اسرائيل التي تمده مخابراتها بالمعلومات المضخمة عن المواقع المشبوهة في العراق. الحكومة الروسية اتهمت بتلر بالانحياز، ووصفته بالاداة الطيعة التي استخدمتها واشنطن ولندن لتنفيذ هجومها ضد العراق. وأوحت في اتهامها وحملتها بأن بغداد التزمت اكثر من أي وقت مضى شروط التفتيش والتعاون. وقالت الصحف الروسية ان ورطة كلينتون الداخلية، وخوفه من اجراءات عزله في مجلس النواب، دفعاه لاستعجال قرار ضرب العراق قبل يوم الخميس. وقد تكون المرة الأولى في تاريخ البيت الأبيض يتخذ الرئيس الاميركي قراراً بهذا المستوى من الخطورة وهو في الطائرة بعيداً عن كبار الوزراء في ادارته. وهو يبرر قراره باعتماد توصيات مجلس الأمن لكي يحدد توقيت الضربة التي وعد الشهر الماضي بتنفيذها في حال رفض العراق التعاون مع لجنة التفتيش. ولكن عددا كبيرا من رجال الحزب الجمهوري يتهمونه بافتعال حرب غير مبررة لانقاذ سمعته الشخصية ومستقبله السياسي. ويبدو ان هذا الاتهام قد احرجه، كما احرج صديقه طوني بلير، بدليل ان الحملات المضادة استؤنفت بشكل مكثف لكي تمحو هذا الانطباع الواسع الذي تشترك فيه اغلب شعوب العالم. وتخشى ادارة كلينتون من ان يتحول انجاز الحرب الى نكسة سياسية خطيرة للولايات المتحدة ولكل الجهود الرامية الى احتواء القدرة على تطوير اسلحة دمار شامل عراقية. ولكي تعمم هذا الشعور، فقد لجأت الدول المتعاطفة مع بغداد الى الاعلان بأن الخيار العسكري الاميركي اتخذ رغم تراجع صدام حسين وتعاون موظفيه. لهذا وصفت الصين القرار الاميركي - البريطاني بالعمل المتهور متهمة كلينتون وبلير بتضليل الرأي العام العالمي. يجمع المحللون على القول بأن الرئيس الاميركي قام بمراجعة كاملة لسياسته تجاه العراق بعدما منعه تدخل كوفي انان خلال شباط فبراير الماضي من تنفيذ الضربة. يومها اعترضت غالبية الدول العربية على عملية التأديب معبّرة عن احتجاجها بواسطة تظاهرات الغضب في الضفة الغربية. وكان الرئيس مبارك في طليعة المستنكرين اذ قال: بماذا اجيب على اسئلة الطلاب الذين يستوضحون دائما عن اسباب السماح لاسرائيل بامتلاك اسلحة الابادة... ولماذا لا يفرض عليها تنفيذ قرارات الأممالمتحدة؟... وواضح من هذا الكلام ان زعماء العرب كانوا يعبّرون عن خيبة امل شعوبهم من توقف عملية السلام، ومن مواصلة سياسة الاستيطان وسلب الأراضي الفلسطينية. التطور البارز الذي طرأ على السياسة الاميركية خلال الاشهر التسعة الاخيرة، كان باتجاه السعي لارضاء ياسر عرفات ولو بمشروع هزيل 13 في المئة على أمل الا يشعر الفلسطينيون بأنهم كالعراقيين، ضحايا السياسة الاميركية. ولقد دعم موقفه هذا بزيارة تاريخية لمدينة غزة، مفتخراً بأنه أول رئيس اميركي ينتقل الى الضفة الغربية اثناء ولايته. ولمس كلينتون في غزة تظاهرات الاحتفاء بقدومه مع رفع الاعلام الاميركية التي كثيراً ما شاهدها على التلفزيون وهي تحرق في الشوارع الى جانب الاعلام الاسرائيلية. وقبل ان تهدأ مشاعر الامتنان والتقدير داخل المجتمع الفلسطيني، قرر الرئيس الأميركي ضرب العراق مستغلاً موقفه المتسم بالتعاطف مع عرفات. وظهر هذا التعاطف جلياً في القمة الثلاثية عند "حاجز ايريز" ساعة فشل في اقناع نتانياهو بتنفيذ انسحاب عسكري ثان وفقاً للجدول الزمني المحدد في مذكرة "واي ريفر". في هذا السياق شعر الرئيس كلينتون بأن ارضاء الفلسطينيين ليس كافياً لارضاء الكونغرس الاميركي الذي تتأثر غالبية اعضائه باسرائيل. اي الغالبية التي عبّر عنها 82 عضواً برفعهم مذكرة احتجاج تحذر من ممارسة اي ضغط على نتانياهو اثناء زيارته للبيت الأبيض مع ياسر عرفات. وفي قمة "حاجز ايريز" ادعى نتانياهو ان الانسحاب الثاني سيعرضه لخطر انفراط الائتلاف الوزاري لأن الاحزاب الدينية ترفض اعادة اراض جديدة الى الفلسطينيين. ولكي يتحاشى هذا المصير يمكن ان يقرر اجراء انتخابات مبكرة يعيد بعدها تأليف حكومة مختلطة مع "حزب العمل" تساعده على تنفيذ مقررات "واي ريفر". اي المقررات التي تطرقت الى الغاء اهم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني، والتي جاء كلينتون الى غزة للمشاركة في الاحتفال بشطبها. وفي واشنطن تطرقت المحادثات الى الأمن الاسرائيلي، والى ادعاءات نتانياهو بأن الضمانات الامنية الفلسطينية لا تلغي مخاوف الاسرائيليين من تكرار عملية ضرب تل أبيب بواسطة الصواريخ العراقية. وأجاب كلينتون على هذه المخاوف بأن العراق محاط بقوات اميركية وانه ليس بمقدوره تهديد جيرانه ولا حتى اسرائيل. وذكّره بأن طائرات "اف - 151" يصل مداها الى ابعد من العراق، وان وزارة الدفاع الاميركية سمحت لاسرائيل باقتنائها لكي تحمي نفسها من اي هجوم مباغت. وعاد نتانياهو ليكرر ما نشره في كتابه "مكان بين الأمم" من ان الاعتماد على الدفاعات الاميركية ليس كافياً، وانه في صدد توجيه ضربة للعراق تستهدف قصور صدام، ومراكز قيادات الحزب والجيش، ومصافي النفط. وحذره كلينتون من النتائج السلبية التي ستحصدها الحليفة الاستراتيجية اميركا، في حال قامت اسرائيل بهذه العملية المدمرة. ومن خلال هذه الزاوية يمكن النظر الى العملية الاخيرة كتطور في الموقف الاميركي ربما يطمئن المجتمع الاسرائيلي الى الضمانات الامنية المعطاة من الفلسطينيين والاميركيين معاً. من هنا يتردد في الصحف ان توقيت ضرب العراق افاد كلينتون لأنه انقذه من ورطة الادانة والعزل في مجلس النواب ومنحه فرصة زمنية كافية لاسترداد سمعته السياسية، وذلك عن طريق تحويل الانظار من الشأن الداخلي الى الخطر الخارجي. كما افاد نتانياهو في الوقت ذاته، ومنحه القدرة على مواجهة الاحزاب المتزمتة الخائفة من ضربة عراقية، او من انسحاب يعرّض امن اسرائيل للخطر. وهذا ما يفسر التحول المفاجئ الذي حصل داخل الحزب الجمهوري الذي اعلن تأييده لقرار كلينتون على اعتبار ان الأمن القومي في خطر. ولما سئل الناطق الرسمي الاميركي عن تعريفه لحدود الأمن القومي، تلعثم وتردد وتحاشى الاجابة. وفهم مشاهدو محطة "سي ان ان" ان اسرائيل هي جزء من الامن القومي الاميركي! هل استفاد صدام حسين داخلياً بواسطة هذه الضربة؟ الحكومة الفرنسية سربت معلومات منذ شهرين عبر بعض المسؤولين العرب، بأن الوضع المتأزم داخل العراق يشجع صدام حسين على عرقلة عمل لجنة التفتيش لأن الضربة العسكرية تعيده الى الواجهة دولياً، وتوفر له فرصة انتقاد اميركا وبريطانيا امام الشعب. ومعنى هذا انه سيستغل هذه الأعمال ليتحدث عن الجرائم غير المبررة ويضيف اليها ثماني سنوات من الفقر والحصار لم يكن ضحيتها سوى الشعب. وعليه يتساءل المعلقون البريطانيون عن الهدف الأساسي من وراء العملية العسكرية المفاجئة: هل هي معدة لاسقاط نظام صدام حسين؟ هل هي تستهدف قتل صدام حسين؟ ام هي محصورة بهدم الآلة العسكرية والبنية التحتية الحربية التي يحتمي بها النظام؟ تقول المصادر الاميركية الرسمية ان العملية ستكون محدودة الوقت بحيث تتوقف قبل اول شهر رمضان المبارك. ومع ان البريطانيين يقولون ان صدام حسين لم يوقف حربه ضد ايران حتى في الاشهر الحرم... الا ان المحللين لا يأخذون بجدوى هذه المقارنة لأن اميركا وبريطانيا ليستا العراقوايران. وهم يحذرون من تنامي الحركات الاسلامية كرد فعل على هذه العمليات خلال شهر رمضان المبارك، والتي ولد "حزب الله" من رحمها يوم استأنفت اسرائيل اجتياحها للبنان عام 1982 خلال هذا الشهر الفضيل. اذن، ما هي الغاية من حصر العمليات قبل رمضان بثلاثة أيام، اذا كانت الولاياتالمتحدة ستتوقف عن مواصلة الضرب بحجة الشهر الفضيل؟ الاجوبة على هذا السؤال كثيرة ومتناقضة: جواب يقول ان كلينتون لم يختر الموعد، بل ان موعد ادانته اختار موعد الهجوم. وجواب يقول ان بدء المعارك قبل ثلاثة أيام من دخول شهر رمضان المبارك قد يعطي واشنطن ولندن الحجة بمواصلة القتال، على اعتبار ان الحرب كالسلم الكهربائي، يسهل الصعود فوقه... وانما يستحيل النزول عليه. الجواب الثالث قدمه الرئيس كلينتون في تبرير قراره بأن تقويض الآلة العسكرية العراقية يؤخر المخاطر التي يمثلها صدام حسين ضد دول الخليج اولاً... وضد اسرائيل ثانياً. وهذا ما وصفه بالضربة الوقائية التي اعتمدها مناحيم بيغن يوم قرر تفجير المفاعل النووي العراقي بهدف منع بغداد من الحصول على القنبلة. ويعطي كلينتون امثلة عديدة على فوائد الضربة الوقائية، ويقول ان واشنطن درست بعد عام 1940 وعام 1950 احتمال ضرب المفاعل النووي الروسي لكي تمنع الاتحاد السوفياتي من اقتناء سلاح الدمار مثلها. وبما انها احجمت عن الاقدام على مثل هذا العمل، فقد عانت من مخاطر توازن الرعب مدة تزيد على الاربعين سنة. ويرى طوني بلير ان حالات الاحراج ستضطر الرئيس العراقي الى اخراج كل ترسانته العسكرية دفاعاً عن نظامه، وبذلك تظهر الحقيقة عما يروجه ويكتبه بتلر. ولكن معارضي بلير يختلفون معه في النتيجة، لقناعتهم بأن الهزيمة العسكرية في الشرق الأوسط، ليست بالضرورة ان تؤدي الى الهزيمة السياسية. وبناء على هذه المعطيات فان صدام حسين يستعد الى تحويل هزيمته العسكرية الثانية الى نصر سياسي يجمع من خلاله المتضررين والمحاصرين! سؤال اخير يتعلق بدور ريتشارد بتلر ومستقبله السياسي في بلاده استراليا. وهو دور بالغ الاهمية يتحمل من اجله كل الاوصاف والنعوت المهينة التي اطلقها عليه طارق عزيز والصحافة العراقية: "جاسوس اسرائيل… وكلب مسعور". والمؤكد انه تلقى هذا الاسبوع سيلاً جديداً من النعوت بعدما اتهمه بعض شيوخ الكونغرس بالتواطؤ مع الوزيرة اولبرايت لتدبيج تقرير مُختلق استخدمه كلينتون لتبرير الضربة العسكرية. واضطر بتلر الى عقد مؤتمر صحافي دفاعاً عن مهمته قال فيه انه "صادق وأمين وموضوعي". ولكن دفاعه لم يقنع حتى الامين العام كوفي انان الذي قرَّعه بقسوة وقال عنه انه يستخدم لهجة استفزازية منفرة… وانه يخلط بين مهمته كرئيس للجنة "اونسكوم" وبين عواطفه الشخصية بحيث انه وصف الشعب العراقي مرة "بشعب لا ينتمي الى الحضارة الغربية التي تتميز بقول الصدق". وبما انه مكلف باداء دوره من قبل مجلس الامن فان تقريع انان لا يخيفه، خصوصاً وان طموحه السياسي يتعدى حدود وظيفته ليصل الى رئاسة جمهورية استراليا. ولقد عبّدت له صحافة بلاده الطريق عندما اختارته هذا العام "رجل استراليا الاول". وتحدثت عنه الصحف الاميركية كرئيس محتمل لبلاده بعد نهاية الاستفتاء المُقرر سنة الفين. وفي هذا السياق أبدى بتلر اعتراضه على نظام بلاده بالقول: "ان رئيس الدولة الاسترالية هو رئيس المملكة المتحدة ايضاً". والثابت ان واشنطن وعدته بتصحيح هذا الخطأ الدستوري في نهاية القرن، بحيث يكون اول رئيس جمهورية لاستراليا المستقلة عن التاج البريطاني والمنضمة الى "التاج الاميركي". * كاتب وصحافي لبناني