تثير التطورات المرتبطة بنشر تقرير المحقق المستقل كينيث ستار، ثم نشر نص الإفادة التي أدلى بها الرئيس كلينتون أمام هيئة المحلفين العليا وبقية الوثائق المرتبطة بالموضوع، أسئلة عميقة حول العلاقة بين السلطات في النظام الاميركي، كما تطرح تساؤلات مهمة حول مسار الديموقراطية الاميركية ذاتها. فهناك البعض الذي يعتبر ما حدث تطبيقاً للديموقراطية، في أعلى مستوياتها، باعتبار ذلك تأكيداً على أنه لا يوجد شخص أو سلطة فوق القانون والدستور، وأن رئيس الجمهورية، أعلى منصب في البلاد، يخضع للمساءلة والتحقيق، شأنه في ذلك شأن أي مواطن اميركي. أكد هذا المعنى، أعضاء مجلس النواب من الحزب الجمهوري الذين صوّتوا لمصلحة بث أشرطة الفيديو ونشر الوثائق. فقال أحدهم: "هذه هي الديموقراطية، فلندع الحقائق تتحدث عن نفسها"، وقال آخر: "علينا أن ندع المواطنين ينضمون إلى عملية صنع القرار". ولكن وجهة النظر هذه لا تمثل سوى وجه واحد للحقيقة. وهناك رأي آخر، يعتبر أن ما قام به مجلس النواب من إجراءات، يمثل تهديداً للعملية الديموقراطية، وافتئاتاً على التوازن الذي حدّده الدستور بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأن غالبية أعضاء المجلس من الحزب الجمهوري كانت مدفوعة إلى ما قامت به من إجراءات تجاه الرئيس بروح "التنافس الحزبي"، والرغبة في الانتقام من رئيس ينتمي الى الحزب المنافس، وأنها وظّفت ما حدث للحصول على مكاسب سياسية في انتخابات التجديد الجزئي للكونغرس، المزمع اجراؤها في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وأن أعضاء الحزب الجمهوري لا يزال في ذاكرتهم ما حدث للرئيس ريتشارد نيكسون في فضيحة "ووتر - غيت"، عندما اضطرته الظروف الى التقدم باستقالته حتى لا تتم تنحيته بواسطة الكونغرس، ويريدون أن يشرب الحزب الديموقراطي من الكأس نفسه. خلاصة هذا الرأي، أن ما يحرك الغالبية الجمهورية في مجلس النواب ليس تطبيق الدستور أو البحث عن الحقيقة، وإنما روح التحزب الضيقة ضد الحزب الديموقراطي وسياسات الرئيس كلينتون. ومن ثم، يعتبرون أن ما يحدث ليس تعبيراً عن ممارسة ديموقراطية سليمة، وإنما عدوان على الديموقراطية، ومحاولة لتنحية رئيس فشلوا في هزيمته عبر صناديق الانتخابات، ويسعون الى تنحيته بطرق أخرى. ويدّلل القائلون بهذا الرأي على موقفهم، بالتناقض البيّن في الإجراءات التي اتبعها مجلس النواب أثناء تعامله مع الرئيس كلينتون، مقارنة بالإجراءات التي اتخذها في التحقيقات التي تمت، قبل أقل من عامين، مع رئيس مجلس النواب نيوت غينغريتش، وهو من الحزب الجمهوري. فعلى سبيل المثال، قرر مجلس النواب نشر إفادة كلينتون أمام هيئة المحلفين العليا قبل أن تأخذ اللجنة القضائية المشكلة في المجلس قرارها في شأن جدية الاتهامات التي أوردها تحقيق المحقق ستار. هذا، في حين أن إفادة غينغريتش، أمام المحقق المستقل، كذلك شهادته أمام لجنة الأخلاق في المجلس، لم تنشر بكاملها حتى الآن. فنحن نعلم أن المحقق المستقل في قضية غينغريتش، وصل إلى حد أنه فشل عمداً، أو بسبب الإهمال، في التزام قوانين الضرائب، كما أنه ضلل، عمداً أو إهمالاً، المحقق أثناء عمله. وغينغريتش مثل أمام لجنة الأخلاق مرتين، ولكن لم تُنشر قط تفاصيل ما حدث وراء الأبواب المغلقة. أضف إلى ذلك، أن قرار مجلس النواب بث إفادة كلينتون أمام هيئة المحلفين يعد إجراءً غير عادي، كما يقول المعارضون له، لأن مثل هذه الإفادات عادة ما يبقى سرية. ويظهر التباين في الإجراءات، مرة أخرى، في شأن طلب هيئة الدفاع عن كلينتون منحهم فرصة للاطلاع على تقرير المحقق المستقل قبل رفعه إلى مجلس النواب، ونشره. فقد رُفض الطلب. أما في التحقيق مع غينغريتش، فقد أتيحت له ولهيئة دفاعه فرصة الاطلاع على تقرير المحقق المستقل قبل نشره. ويعلق فريد فيرتهايمر، في مقال له في جريدة "الواشنطن بوست" بقوله "إذا كان الجمهوريون الذين يسيطرون على مجلس النواب، يريدون من المواطنين والتاريخ أن يقبلا شرعية ونزاهة أي إجراء قد يؤدي إلى عزل رئيس يعارضونه سياسياً، ولكن لم يتمكنوا من هزيمته عبر صناديق الانتخاب، فإن عليهم الالتزام بتوفير الإجراءات القانونية المرعية للرئيس كلينتون. وهم، إلى الآن، فشلوا في الوفاء بذلك الالتزام. ويرى مراقبون أن ما يقوم به مجلس النواب ليس دعوة إلى الشفافية، وإنما هو استخدام متعسف لسلطة الغالبية، ومحاولة لإثارة الرأي العام والمشاعر الغوغائية، وأن ذلك يمكن أن يعرّض الديموقراطية الاميركية للخطر. القضية الثانية التي يثيرها المتخوفون على الديموقراطية الاميركية من جراء تصرفات مجلس النواب، تتعلق بالدستور الاميركي، وتفسير المادة الخاصة بتنحية الرئيس فيه، وهل ينطبق ما جاء فيها على المخالفات التي ارتكبها كلينتون. فالفقرة الرابعة من المادة الثانية في الدستور، تنص على أن تنحية الرئيس، وكبار المسؤولين في الحكومة، تكون بسبب ارتكابه جريمة الخيانة، أو الرشوة، أو غيرها من الجرائم والجنح الخطيرة. ولما كان كلينتون لم يتهم بالخيانة أو الرشوة، فإن مناط البحث يكمن في تعريف "الجرائم والجنح الخطيرة"، وعما إذا كان ما ارتكبه كلينتون يدخل في عداد ذلك أم لا؟ ويشير مفسرو الدستور إلى أن تحديد "الجرائم والجنح الكبيرة" ينبغي ألا يخضع للأهواء الحزبية، وإنما يتم استنباطه من الممارسات البرلمانية في القانون العام، وأنه عندما يشير الدستور إلى "الجرائم والجنح الكبيرة"، فإنه يقصد التمييز بين هذا النوع من الجرائم، وبين الجرائم العادية. ووفقاً لجيمس ويلسون أحد المشاركين في كتابة الدستور، فإن الجرائم التي تستوجب إجراءات سحب الثقة والتنحية تنحصر في المجالات السياسية، والجرائم السياسية التي تتطلب عقاباً سياسياً. يؤكد هذا المعنى أنه عندما اقترح البعض، أثناء كتابة الدستور، إضافة "سوء الإدارة"، إلى جانب الخيانة والرشوة، كأحد أسباب التنحية، فإن جيمس ماديسون اعترض على ذلك لغموض مفهوم "سوء الإدارة"، ولأن مثل هذا النص يضع الرئيس تحت هوى أعضاء الكونغرس، مما يخل بالعلاقة بين السلطتين. وفي الاتجاه نفسه، سار تقرير اللجنة القضائية في مجلس النواب، الذي صدر العام 1973 في شأن قضية "ووتر - غيت"، وتحديد الأسباب الداعية لتنحية الرئيس، إذ ورد فيه "لا تعتبر كل الجرائم سبباً للتنحية، كما أن كل الأسس التي تؤدي الى التنحية ليست بالضرورة جرائم، وأن السبب الدستوري للتنحية، هو حماية الأمة ضد استخدام سلطة الرئاسة بشكل تعسفي". ويخلص أصحاب وجهة النظر هذه الى أن المخالفات التي ارتكبها كلينتون لا تدخل في عداد "الجرائم والجنح الكبيرة"، وأنه إذا كان أحد الأسس المهمة للدستور الاميركي هو إقامة علاقة توازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، والحيلولة دون قيام سلطة مطلقة أو تعسفية، فإن ما يقوم به مجلس النواب الآن هو انتهاك لروح الدستور، وتوغل للسلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية. وما يذكرنا بما حدث في اميركا، مع بداية القرن العشرين، عندما ضعفت سلطة الرئاسة لحساب الكونغرس، ما أدى بالرئيس وودرو ويلسون، قبل توليه الرئاسة، وعندما كان باحثاً شاباً، إلى اصدار كتاب عن نظام الحكم في اميركا باسم "حكومة الكونغرس"، وصف فيه الكونغرس بأنه أصبح السلطة المركزية المهيمنة على النظام السياسي الأميركي. فهل يعود نظام الحكم في الولاياتالمتحدة، في نهاية القرن العشرين، إلى ما كان عليه في أول القرن؟! * عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.