لا يحتاج المرء إلى كبير عناء كيما يتحقق من الضيق الشديد الذي تعاني منه أقنية الحوار والسجال، وهو ضيق يكاد يسم الحال المعرفية العربية الراهنة. ويُفضي بالتالي إلى ما يمكن تسميته ب "حوار الطرشان"، حيث الأفكار تدور حول نفسها من دون أن يعمق اتجاهها رأي من هنا، أو رد من هناك. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، ولا يتجاوزه، كما هو جار الآن، إلى الرغبة في القضاء ليس على الفكرة وحسب، وإنما على مُطلقها والهاجس بها، ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يتحول "السجال" إلى بحث ينبش ماضي المُحاوَر، ويتجول في ردهات أصوله ومنابته وأهوائه وميوله ومرجعياته الدينية والفكرية والعقائدية، بغية القبض على ما يصلح كدليل إدانة للشخص الذي اختلفنا معه أو اختلف معنا في رأي أو قضية. ولعل حادثة "الجابري - طرابيشي" ماثلة للأذهان، وكيف انزلق مفكر كبير - نظّر وما يزال للعقلانية والتنوير - إلى مهاوي بؤس الاستنتاج بأن طرابليشي يصدر في منظوماته التفكيرية والتحليلية عن جذر ديني يجعله يتعصب ويتهم الآخرين على أساس من ذلك الجذر وخدمة لمقولاته المقدسة. ثمة، إذن، إحلال للاتهام محل الحوار، حيث يصبح لحساب النوايا اليد الطولى في حسم أي قضية، على ما يرافق ذلك الحساب من تخوين وطعن بالولاءات وضرب مقيت تحت الحزام، وقتل معنوي بدم بارد، وكل ذلك تسديداً لضريبة الخلاف والاختلاف. ولا غرو في هكذا واقع ان تكون للاشاعة الحظوة الأثيرة، وأن يغدو الفكر النقدي رجساً من عمل الشيطان أو كفراً يستوجب القتل والنفي وهدر الدم، ومأساة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد حاضرة في ذاكرة الفكر العربي الذي لم يقوَ حتى الآن على إعادة الاعتبار لباحث، كل "جريمته" أنه اختار التفكير خارج المنظومة السائدة، وخارج مسلمات العقل الخامل، وانتمى بكليته إلى المعرفة الفردوسية باشراقاتها المعذِّبة. ومن السهل أن يبدأ أي سجال بحوار هادئ سرعان ما يتحول إلى معركة ضروس تستخدم فيها سائر الأسلحة المحظورة، وبالتالي فإن أكثر سجالاتنا يتم وفق قواعد كيدية، وتتم المصادرة فيها على المطلوب - بحسب اصطلاح الناطقة - ويكون هدف المتساجلين تتفيه آراء بعضهم البعض والانتقاص منها ونقضها - بدلاً من نقدها - وإلغاء صاحب الرأي المضاد أو المخالف ونفيه تماماً كما يجري في أي شجار أو اقتتال أهلي، ولكن، في "السجالات" يكون الشجار بالألفاظ والكلمات التي يتجرد فيها الفكر من عقلانيته ويتحول إلى سياط هدفها إيلام الآخر وتعذيبه والتلذذ بذلك إلى أقصى الحدود. المعرفة هي الخاسر الأكبر في هذه المعمعة، فبدلاً من تجذيرها بالجدل الخلاّق الذي يحفر في طبقات الوعي ويغوص في أغوار المعنى، يتم اغتيال العقل وتشويه الوجدان بكليشيهات موروثة من أزمنة القمع البائدة ومحاكم التفتيش... كليشيهات مسلحة بأقذع ما احتوته اللغة من بذاءة معطوفة على كينونات بشرية مسكونة بأرواح شريرة لا يحنمل بناؤها الهش أي اختلاف أو اعتراض أو حتى مجرد تساؤل. المثقفون العرب في جلّهم يتخندقون خلف سواتر وهمية ولا يتورعون عن اطلاق النار على كل من ليس يسبح بآلاء ابداعهم آناء الليل وأطراف النهار، والسجال في عرفهم أن تكون معهم أو ضدهم، ولا توسط بين المنزلتين، وهم مصابون بتضخم عنيف في ذواتهم يشبه الأورام السرطانية، فكل شيء يبدأ بهم وينتهي عندهم، وهم بالتالي سدنة العلم المطلق والمعرفة الكلية. ليس في ما سبق أي تجنٍ أو مبالغة، بل أن الأمر يكاد يكون في حدود التوصيف البارد لظاهرة مزمنة تطل برأسها وأنيابها إن أنت قرأت صحيفة أو مجلة، أو استمعت إلى محاضرة أو شاركت في مهرجان أو مؤتمر أو كنت شريكاً أو شاهداً على مناسبة يتم فيها الحديث عن موضوع اشكالي أو قضية تستوجب التعدد في وجهات النظر. كيف نستقبل الرأي الآخر ونتعاطى معه حتى لو اختلفنا مع حيثياته اختلافاً كلياً؟ كيف نبقى في حيز موضوع الاختلاف ونعمقه بالرؤية الثاقبة والتحليل المتعمق؟ وما السبيل للنظر إلى الآخر بوصفه شريكاً في عملية العصف الفكري والإثارة النقدية، لا بوصفه عدواً يتعين الاجهاز عليه؟ ذلك غيض من فيض الأسئلة التي ينبغي للفكر العربي المعاصر، والمستغلين والمشتبكين مع فيوضاته المعرفية أن يتلمسوا إجابات عنها تؤسس لاخلاقيات سجال لا يكون المرء معها مرتجف الأوصال، كما لا يكون مضطراً لتحسس جسده مخافة ان يكون فقد أحد اعضائه في الحوار الدموي الذي تستخدم فيه أسلحة الدمار الشامل! * كاتب أردني.