انتشرت في الآونة الأخيرة الجمعيات الأهلية أو ما اصطلح على تسميته "NGO" Non Governmental Organizations في المجالات والاتجاهات كافة، بدءاً من جمعيات المحافظة على البيئة إلى جمعيات المحافظة على الكلاب. وليست هناك مشكلة في تعدد هذه الجمعيات، بل ربما يكون دور بعضها الخيري والتطوعي مطلوباً وأساسياً. وفي زمن انتصار الليبرالية وتحت ظلال ما يسمى "العولمة" يبهت دور الحكومات الى درجة التلاشي، ويسود فكر "الخصخصة" Privatization وينتشر كاسحاً في كل نشاطات البشر. وإذا كان ما يسمى بالعالم المتحضر عرف ونظّم تلك الجمعيات الأهلية في إطار المجتمع المدني، فنجد أنه اعتمد في الأساس التمويل الذاتي عن طريق التبرعات والهبات والاشتراكات. ومن دون الإغراق في تفصيلات نشاطاتها، فإنه يمكن القول إن تلك الجمعيات هي في أغلبها تعبر فعلاً عن احتياجات لتلك المجتمعات تعكس اهتمامات لقطاع من الرأي العام، لذلك فإن أموالها لا تخضع للضريبة، كما تقتطع التبرعات من الوعاء الضريبي للمتبرع. فإذا انتقلنا إلى ما يسمى بالعالم الثالث، فإن العمل التطوعي عموماً لا يلقي حماساً كبيراً لأسباب بعضها اقتصادي أو سياسي أو ثقافي. فإنسان هذا العالم غارق في مشاكله الاقتصادية إلى درجة اعتبار هذا النوع من النشاط ترفاً ليس له مجال، ومن الزاوية السياسية فإن عدم نضج المؤسسات الدستورية وضعف أو فساد الأحزاب السياسية يؤدي إلى فقدان الثقة بالعمل الجماعي. ومن الزاوية الثقافية لا يوجد تراث تراكمي لهذا النوع من النشاط. وعلى الرغم من ذلك، فمن الملحوظ أن هناك تزايداً واضحاً في عدد تلك الجمعيات في دول العالم الثالث، وبشكل يسبق النمو الطبيعي في المؤسسات المدنية الأخرى. ولا بد أن نتأمل في تلك الظاهرة ونخضعها للدراسة، خصوصاً أن في معظم هذه الجمعيات يتوفر تمويل مغدق بواسطة مؤسسات أجنبية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وبداية يجب أن نشير إلى أنه من الثابت أن بعض أجهزة الاستخبارات والمراكز البحثية الأجنبية يمول وبكثافة بعض أعمال الأبحاث وكذلك المنح الدراسية في دول العالم الثالث. ولا شك أن الأموال المنصرفة في هذا الشأن ليست كلها لوجه اللّه. قد يقول قائل إن الهدف هو تحقيق وجود ثقافي لدولة أجنبية بعينها في دول العالم الثالث، وأن ذلك هدف بريء وحق مشروع لكل دولة تمارسه بالكيفية التي تريدها، وأن تلك خدمة مجانية تستفيد بها مجتمعات العالم الثالث ترفع عن كاهلها بعض أعباء التنمية. وهذا كلام لا غبار عليه. ولكن، لنفكر مثلاً في ما نشرته مجلة "روز اليوسف" القاهرية في عددها الصادر في 11 تموز يوليو 1994، إذ ذكرت أن مؤسسة "فورد" أنفقت حوالي 800 ألف دولار في مصر في العام نفسه على الأبحاث، منها حوالي الثلث على أبحاث "السلام والأمن". لنتأمل أيضاً نشاط مؤسسة "فافو" النروجية التي بدأت منذ العام 1990 دراسة مكثفة في الضفة الغربية وقطاع غزة وأعلنت نتائجها قبل بدء المحادثات السرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو بشهر واحد، واشترك في هذه الدراسة عدد كبير من الفلسطينيين، والمدهش أن جزءاً منهم اشترك في مؤتمر مدريد، ثم الأكثر دهشة أن مدير المؤسسة النروجية نفسه أصبح ممثلاً للسكرتير العام للأمم المتحدة في غزة. ربما لدى مؤسسة "فورد" فائض مالي لم تجد مجالاً يحتاجه في اميركا، فليس أطفال هارلم أو مرضى الأيدز في حاجة الى ذلك. لقد انتهت كل مشاكل اميركا وأصبحت أموال مؤسساتها عبئاً عليها، فقررت أن تبعثرها على مجتمعات العالم الثالث، ولكن هل هي أموال مبعثرة فعلا.. وهل الهدف فقط هو تحقيق الوجود الثقافي الاميركي، أم أن هناك أهدافاً أخرى؟. كذلك قد تكون مصادفة أن مؤسسة "فافو" المذكورة طلبت أبحاثاً دفعت ثمنها كي تدرس أوضاع الفلسطينيين، وتنتهي الدراسة قبل "أوسلو" بشهر واحد، وقد تكون مصادفة أن يكون المشاركون في المفاوضات هم بعض الباحثين، وقد تكون مصادفة أيضاً أن يتولى مدير المؤسسة منصب ممثل السكرتير العام للأمم المتحدة في غزة، ولكن ألا يثير تكرار هذه المصادفات بعض التساؤلات المشروعة؟. هل يمكن مثلاً أن نشك في أن ما يسمى بالوجود الثقافي ليس إلا اختراقاً ثقافياً متدرجاً لمجتمعات العالم الثالث؟، أو نرى في نشاطات أخرى اختراقاً سياسياً واقتصادياً؟.. منذ فترة أعلنت إحدى الجمعيات الأهلية عن تنظيمها لندوة عن الأقليات في العالم العربي، وأدرجت الأقباط في مصر ضمن تلك الأقليات. وبعد ذلك بسنوات يثار الموضوع نفسه في الكونغرس الاميركي بضجة وافتعال واضحين: فهل تلك مصادفة؟ أم أن هناك اسماً آخر؟ ومن المثير للدهشة أن الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل ذكر لصحيفة "السفير" اللبنانية أن ثلث اساتذة الجامعات المصرية يعمل حالياً بشكل مباشر أو غير مباشر مع تلك المؤسسات الأجنبية الممولة للأبحاث، و لم يتقدم أحد بتكذيب أو بتفسير ذلك. لقد أمطرت مؤسسات مثل "فولبرايت" و"فورد" و"بروكنغز" و"راند" وغيرها أموالاً ومنحاً دراسية على مجتمعاتنا بشكل غير مسبوق، وظهرت الى السطح جمعيات أهلية ذات نشاطات تثير التساؤل، بعضها يعتنق قضايا السلام والبيئة، بينما هناك قضايا حقيقية في مجتمعات العالم الثالث منها الفقر والمرض وحقوق العمال مثلاً لا يهتم بها أحد. ماذا يعني كل ذلك؟.. بكل البراءة والتجرد يمكن القول بأن تلك المؤسسات الأجنبية تخدم أهداف حكومات بلادها، وتلك ليست تهمة بل هي شرف لها أن تقوم بذلك لخدمة مصالح بلادها. وبالبراءة والتجرد نفسيهما يمكن القول إن بعض الجمعيات الأهلية في العالم الثالث المموّلة بواسطة تلك المؤسسات تخدم بشكل مباشر أو غير مباشر أهداف المؤسسات المذكورة، أي تخدم أهداف الحكومات الأجنبية، هكذا يؤدي تسلسل المنطق. وقد يقول قائل: ما الذي يضير في إجراء بحوث تهدف الى حماية البيئة أو تنظيم الأسرة أو معاونة الصناعات الصغيرة، فتلك مهام تحتاج فعلاً الى دراسات وأبحاث قد لا تستطيع مصادر التمويل المحلية توفيرها. وهذا حق، لكنّ هناك حقاً لا شبهة فيه، وحقاً يُراد من ورائه باطل. أياً كان العنوان الذي يندرج وراءه التمويل الأجنبي، فلاپبد أن هناك هدفاً تسعى لتحقيقه تلك الجهة الأجنبية أو من يتوارى خلفها. فلا يخفى أنه حتى أعظم دول العالم لديها مشاكلها الداخلية من بطالة وفقر ومرض ما يحتاجه إلى أضعاف تلك الأموال التي تنفق على معونات لجمعيات أهلية أجنبية، فكيف يتأتى أن تتسرب تلك الأموال من دون طائل؟.. تلك أسئلة مشروعة تبحث عن إجابات مقنعة. إن أجهزة الاستخبارات تعمل أساساً في جمع المعلومات وتحليلها، وقد قيل - بحق - إنها قد تنجح في جمع المعلومات وتحليلها، ولكنها تفشل لأنها عجزت عن قراءة العقول وتفسير النيات. ومثال ذلك ما حدث في مفاجأة العبور التي حققها الجيش المصري في تشرين الأول أكتوبر 1973، إذ توفرت المعلومات كافة وكانت واضحة وضوح الشمس، ولكن أجهزة الاستخبارات فشلت فشلاً ذريعاً بسبب أنها لم تقرأ العقول أو تسبر النيات، ليس فقط لمركز صنع القرار في مصر، بل لكل جندي في الجيش المصري. وإذا قامت جهة ما بتحليل كم الدراسات والأبحاث التي موّلتها تلك المؤسسات الأجنبية، فلا بد أن النتيجة ستكون مدهشة، فهناك ما يشبه الرصد المستمر لكل حركات وسكنات المجتمع المشمول بالدراسة بدءاً من ختان البنات إلى النشاط النووي. وقد يختلف البعض حول الخصخصة في الاقتصاد، سواء في حجمها أو أهميتها، ولكن خصخصة الأبحاث الاجتماعية والبحث العلمي، وخصخصة الثقافة عموماً يجب أن تعتبر خطاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه أو تجاوزه إلا بحذر ويقظة. تلك ليست دعوة الى العزلة أو الانغلاق، ليست عقدة من بقايا العقد التي خلفها لنا الاستعمار، وإنما مجرد صيحة تحذير تنشط تسليط الضوء على ذلك السرطان الذي ينخر في مجتمعات العالم الثالث كي يذيب هويتها وثقافتها وتماسكها البنيوي، وهو أشد خبثاً وضرراً من الاستعمار بمعناه التقليدي. لأن الأخير كان احتلالاً واضحاً يتميز فيه العدو من الصديق، إذ يمكن مواجهة العدو المحتل بالأسلحة المناسبة، أما ذلك السرطان الجديد فهو عدو متسلل يتخفى بآلاف الأقنعة، يغزو جهاز المناعة الوطني بما يشبه مرض الإيدز، فيما تقف مجتمعات العالم الثالث عاجزة منهارة في مهب رياح العولمة. إن تلك الشبهات لا تنفي حسن نيات العديد من العاملين في الجمعيات الأهلية أو الباحثين، لكن كما يقال غالباً: "الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الحسنة"، وهنا لا نوجه اتهاماً الى هيئة بعينها أو الى شخص بذاته، ولكن - وبكل التجرد - إذا كانت الجيوش يمكن أن تنهزم في المعارك، وإذا كان الاقتصاد يمكن أن ينهار، وإذا كانت السياسة بطبيعتها فن حلول الوسط، فكل تلك الحقائق / المحن، يمكن للشعوب أن تستوعبها وتتغلب عليها وتجتازها طالما تمسكت بخندقها الأخير. والثقافة هي الخندق الأخير الذي لا يجوز ولا ينبغي أن يسمح بسقوطه. * ديبلوماسي مصري