قرر وزير الداخلية البريطاني جاك سترو أمس السماح للقضاء البريطاني بدرس اجراءات تسليم الرئيس التشيلي السابق أوغوستو بينوشيه للمحاكمة في اسبانيا. بينوشيه الذي يطالب القضاء الأسباني بتسليمه متهم بارتكاب عمليات ابادة وارهاب وتعذيب فترة توليه المسؤولية في بلاده. ويتوقع أن يدشن القرار معركة قضائية وسياسية قد تستغرق شهوراً وسنوات يقضيها بينوشه في منتجعه الريفي خارج لندن. وقد أثار اعتقال بينوشيه الذي وصل الى لندن قبل نحو شهرين للعلاج الطبي قضية سياسية معقدة وملتهبة. ملفات قديمة وجديدة طرحتها مساجلات تلفزيونية بين قانونيين وسياسيين بريطانيين وأميركيين وتشيليين: من ملف دور وكالة الاستخبارات الأميركية سي. آي. اي في الانقلاب الدموي الذي قاده بينوشيه قبل ربع قرن، الى ملف تزويد تشيلي دولاً عربية تكنولوجيا الصواريخ... حتى ملف السابقة القانونية التي تجيز اعتقال رئيس دولة وتقديمه للمحاكمة في دولة اخرى. كل ملف انفتح عن صندوق عجائب، مثل: من يضمن ألا تتعرض دول غربية للمحاسبة القانونية عن جرائمها في عهد الاستعمار؟ أشياء كثيرة أخرى لا يمكن رؤيتها في قضية بينوشيه. والناس يرون ما يعرفون، كما كان يقول الشاعر الألماني غوته. ولا يمكن الآن معرفة لماذا يثير ديكتاتور عجوز متقاعد في بلد بعيد عواطف واتهامات علنية قاسية تبادلها أمام التلفزيون السياسيون البريطانيون المعروفون بالاتزان وبرود الأعصاب؟ ولم تستثنِ الاتهامات القاضي البريطاني اللورد هوفمان الذي لعب الدور الحاسم في نقض قرار المحكمة العليا عدم جواز محاكمة بينوشيه. وذكر أن هوفمان وزوجته يهوديان يعملان لحساب "منظمة العفو الدولية" آمنيستي التي تقود حملة المطالبة بمحاكمة بينوشيه. و"عندما يتدخل السياسيون لا يمكن التكهن بالمجريات القانونية"، كما قال أحد المتهمين البريطانيين في قضية "السلاح للعراق". تلك القضية بدأت بمحاكمة المدير البريطاني للمصنع العراقي الذي أنتج "المدفع العملاق" ثم أدت لأول مرة في تاريخ بريطانيا الى استدعاء رؤساء وزارات، بينهم رئيس الوزراء السابق وهو في الحكم. ولا يستبعد أن تعاود قضية بينوشيه فتح الملفات غير المغلقة عن دور تشيلي في تجهيز المشروع المصري - العراقي المشترك لتطوير صواريخ "كوندور"، ومساهمة تشيلي في تطوير العراقيين تكنولوجيا الصواريخ الفضائية والغواصات، وعلاقة ذلك بتصفيات متبادلة بين "موساد" واستخبارات عربية عبر عواصم أميركا اللاتينية وأوروبا. هذه المواضيع لم تخصص لها لجنة التحقيق في قضية السلاح للعراق سوى صفحات قليلة من تقريرها الذي يقع في 1800 صفحة. وواضح من القضية التي احتوت 200 ألف وثيقة أن العلاقات التكنولوجية العربية - التشيلية كانت على رأس قائمة اهتمام الاستخبارات البريطانية بعمليات داخل العراق، بما في ذلك موضوع الصحافي الايراني بازوفت بارزاد الذي أعدمه العراقيون بتهمة التجسس لاسرائيل. في مواجهة هذه التعقيدات لم يخرج وزير الداخلية البريطاني عن التقليد الذي كان يقول عنه السياسي البريطاني العتيد ونستون تشرشل "لا يمكن أن يرسم الانكليزي خطاً من دون أن يموّهه".