يريد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، أن يثبت أن كل الفلسطينيين يتحملون ذنب إبادة الملايين الستة من اليهود، مثلما هم مذنبون في كل ما ألم بإسرائيل. فهو يرى أن موجة عمليات الطعن الأخيرة بالسكاكين، هي نتيجة «التحريض»، الذي بدأ به المفتي أمين الحسيني ويتواصل حتى اليوم. السؤال الذي يطرحه الإسرائيليون بقوة، هذه الأيام، هو: لماذا يلجأ رئيس الحكومة، إلى الأكاذيب. ليس مجرد أكاذيب، فمن النادر أن تجد سياسياً لا يتبع الأكاذيب. إنما عند نتانياهو تبدو الأكاذيب رخيصة ومفضوحة في شكل مذهل وفيها الكثير من الخفة والاستسهال إلى حد يهين معه عقول ناخبيه؟ وهل هذه «أكاذيب منظمة»، أي أنه يعرف أنها لا تمت بصلة إلى الحقيقة ويعرف أن جمهوره يعرف أو يمكن أن يعرف أنها أكاذيب؟ وما الهدف منها؟ هل يصدق نفسه فيها؟ في الأسبوع الماضي قدم نتانياهو نموذجين صارخين لأكاذيبه، يصلحان موضوع تدريس في الجامعات، من كلية الأمراض النفسية وصولاً إلى كلية العلوم السياسية. الأول، وهو البسيط نسبياً، عندما وقف يحرض على قيادة الجماهير العربية في إسرائيل (فلسطينيي 48)، فقال إنهم «ساروا في تظاهرة لحزب التجمع الشيوعي ووراءهم مئات أعلام تنظيم داعش»، والثاني عندما خطب أمام قادة الحركة الصهيونية في دول العالم، وقال إن هتلر لم يكن يرغب في إبادة اليهود، وأراد طردهم من أوروبا فقط، لكن «الحاج أمين الحسيني، طرح عليه فكرة الإبادة وأقنعه بها». أما بالنسبة إلى تظاهرة فلسطينيي ال48، فإن نتانياهو مثل أي طفل في المنطقة يعرف علم «داعش». وفي التظاهرة المذكورة لم يرفع أي علم ل «داعش». وحزب التجمع هو ليس شيوعياً فقط بل أنه معاد للشيوعية وللحزب الشيوعي. وأما بالنسبة إلى قضية هتلر والحسيني، فقد سمح نتانياهو لخياله بأن يعرض مسرحية ذات حوار تفصيلي، فقال إن هتلر وفي اجتماع مع الحسيني أبلغه أنه قرر طرد اليهود من أوروبا وتخليصها منهم لأنهم يفرضون سيطرتهم عليها. فرد الحسيني – بحسب نتانياهو – «إذا طردتهم من أوروبا فسوف يغرقون فلسطين وسيقيمون دولتهم على أرض فلسطين مكان شعبنا». فسأله هتلر: «إذن ماذا أفعل بهم؟». فأجابه الحسيني: «احرقهم». وهكذا أقنعه بإقامة أفران الغاز. المؤرخون اليهود في إسرائيل وخارجها صعقوا من هذا التزوير للتاريخ وأكدوا أن «هذا الحوار لم يتم أبداً ولا يوجد له أي توثيق في أي مكان». وعرضوا أمام الجمهور الإسرائيلي والعالمي نص البروتوكول الوحيد الموجود عن تلك الجلسة، ولا يوجد فيه أي ذكر لأي حوار كهذا. والحكومة الألمانية نشرت بياناً أوضحت فيه أن قرار الإبادة ألماني بامتياز وألمانيا وحدها تتحمل مسؤوليته. وهذه لغة ديبلوماسية تعني شيئاً واحداً هو أن ما قاله نتانياهو كذب. لكن نتانياهو تجاهل البيان، وعندما وصل إلى ألمانيا، الأربعاء الماضي، عاد لتكرار الموقف نفسه أمام المستشارة الألمانية، أنغيلا مركل، الأمر الذي اعتبره سياسيون ألمان «وقاحة لا تعرف الحدود»، بحسب ما نقلت صحيفة «معريب» (الجمعة 22 الجاري). واضطرت مركل إلى تكرار موقف حكومتها. لكن هذا لم يمنع نتانياهو من العودة إلى الرواية نفسها لدى وصوله إلى تل أبيب، وهذه المرة اضطر أن يواجه غضب من تبقى من الناجين من المحرقة، والذين قالوا إنه من أجل أجندة حزبية وسياسية وبغرض التحريض على الفلسطينيين، وضعهم في موضع النازية وبذلك خفف الوطأة عن النازيين ومحرقتهم لليهود. فقال إنه لم يقصد التخفيف من دور هتلر، إنما قصد أن يقول إن الفلسطينيين يحرضون على اليهود وكما الحسيني في الماضي البعيد، محمود عباس حرض في الماضي القريب ويحرض في الحاضر على إسرائيل. الخبير نحاميا شترسلر، كتب مفسراً نوايا نتانياهو من هذا الكذب فقال: «لأن المفتي هو شخصية تحظى بالتقدير في المجتمع الفلسطيني، ويتم عرضه كالأب الروحي للأمة، وأبو مازن يكمل دربه، فإنه يريد أن يثبت أن كل الفلسطينيين يتحملون ذنب إبادة الملايين الستة، مثلما هم مذنبون في كل ما ألم بإسرائيل، منذئذ». وأضاف هازئاً إن «الحديث يدور عن تحريض. فكلنا نعرف أن وضع الفلسطينيين ممتاز. ومستوى معيشتهم عالٍ، وهم سعداء، ولا توجد سلطة احتلال، ولا قمع، ولا تنكيل، ولا مصادرة أراض، ولا بناء على أرض خاصة، ولا تفتيش ليلي، أو حظر تجوال، ولا وجود للحواجز، ولا بطالة وفقر وضائقة، ولا تتدفق المجاري في الشوارع ولا يحرق المستوطنون الناس، والمنازل والمساجد والأشجار». ويوضح شترسلر: «يقول نتانياهو: يجب التعرف إلى الحقائق التاريخية. إذن تعالوا نتعرف. كراهية اليهود الممتدة إلى مئات السنين هي ليست ممارسة إسلامية. الإجراءات المتشددة، أعمال الشغب، الإهانات، أعمال القتل، محاكم التفتيش والطرد، كل هذا قام به الأوروبيون، وليس المسلمون وبالتأكيد ليس الفلسطينيون. كما أن هتلر بلور فكرة إبادة اليهود منذ كتب «كفاحي» في العام 1923، كجزء من النظرية العرقية. وخطة «الحل النهائي» طرحت في 1941، بل جرى البدء بتنفيذها في الاتحاد السوفياتي فور الاجتياح الألماني، في شهر حزيران 1941، بينما لقاء الحسيني مع هتلر تم في 28 تشرين الثاني 1941. وفي شكل عام، يجب أن يكون العقل مشوهاً على نحو خاص من أجل القول إن هتلر، الذي كان كل جوهره يقوم على القتل والإبادة، كان في حاجة إلى مشورة من مفت عربي من الشرق الأوسط. إن سبب القصة المرضية التي طرحها نتانياهو ليس إلا بحثه اليائس عن مذنب ما في الورطة التي أدخلنا إليها، والتي تنعكس في موجة العمليات التي تجتاح البلاد. فبدلاً من أن يشرح لماذا حطم كل فرصة للتسوية مع أبو مازن، يفضل أن يتهم الفلسطينيين بكل شيء، بما في ذلك الكارثة. وهو يحرض ضدهم ويحاول تحويلهم إلى وحوش، هتلريين، كي يكون واضحاً أن السبب الحقيقي للانتفاضة الحالية ليس الاحتلال وليس القمع، بل رغبتهم التاريخية في إبادتنا». هذا الرأي عكس آراء مئات المسؤولين السياسيين والمؤرخين والكتاب والمحللين، فضلاً عن الصحافيين. وأصبح نتانياهو جراء كذبته نكتة أكاديمية، فقرر تحويل الأنظار إلى أمور أخرى، واختار الإعلان المسبق عن أن جلسة حكومته الأحد، ستبحث في ملف تنظيم «داعش». وهنا أيضاً عرض الموضوع في شكل درامي واتخذ قرارات جديدة أعلن بموجبها تنظيمات «داعش» و»جبهة النصرة» وغيرهما تنظيمات إرهابية ومع أن القرار هو مسألة إجرائية هدفها إتاحة الفرصة للمحاكم لأن تفرض أحكاماً قاسية على من يقع بين أيديها في إسرائيل (خصوصاً من فلسطينيي 48). وفي تفاصيل القرار وموجباته ورد: - تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، هو تنظيم إرهابي يعمل في سورية والعراق. ويقوم حالياً بتوسيع رقعة المناطق الخاضعة لسيطرته. وفي موازاة ذلك يحظى هذا التنظيم بدعم واسع النطاق في صفوف المسلمين في الشرق الأوسط وفي بقية أنحاء العالم، بمن في ذلك من قبل داعمين له ومتعاطفين معه يسكنون في إسرائيل وفي الضفة. - «جبهة النصرة»: الفرع السوري من تنظيم القاعدة. هذا التنظيم الإرهابي يسيطر على جنوب سورية وعلى مناطق واسعة في الطرف السوري من هضبة الجولان وقرب الحدود السورية الإسرائيلية. - كتائب عبدالله عزام (سرايا زياد جراح) – تنظيم إرهابي يعمل في لبنان وسورية وكان متورطاً خلال السنوات الأخيرة في إطلاق الصواريخ على إسرائيل. ويقيم هذا التنظيم علاقات مع تنظيمات سلفية جهادية أخرى في المنطقة. وأراد نتانياهو أن يتحول هذا الموضوع إلى موضوع مركزي، وهذا ما حصل. لكن 53 في المئة من الإسرائيليين قالوا، في آخر استطلاع رأي، أن نتانياهو كذب في موضوع المفتي الحسيني. و 26 في المئة يصدقونه. ويقول الأديب العبري دافيد غروسمان: «كل إنسان استمع إلى خطابه حول هتلر والمفتي كان يمكنه، بشكل مكشوف تماماً، رؤية الأمور التي يراها نتانياهو هناك، في داخله: الآلية – شبه الميكانيكية – التي تسمح له بشطب الحقائق، كي يتمكن من الانتقال من موقع المحتل إلى موقع الضحية، ولكن هذه المرة، في شكل يفوق المرات السابقة». ويضيف: «منذ بدأ رحلته إلى ديوان رئيس الحكومة، يكثر نتانياهو من خلط ونبش المخاطر الحقيقية التي تواجه إسرائيل، مستعيناً بالكارثة. وبموهبة، وبقدرة خطابية لامعة، وبقوة إقناع كبيرة يعرف كيف يدفع غالبية المجتمع الإسرائيلي إلى متاهة يبدو أنه يعيش فيها هو نفسه، والتي تم كشفها هذا الأسبوع أمام العالم المصدوم كله. إسرائيل هي دولة ناجين من كارثة كبيرة، مجتمع منكوب بالصدمة، صدمة التاريخ اليهودي، وصدمة الكارثة، وصدمة الحروب المتكررة. في مفهوم معين، كلنا مصابون بالعجز أمام التلاعب الراقي الذي يمارسه علينا رئيس حكومتنا». ويوجه غروسمان انتقاداً أيضاً للمجتمع الإسرائيلي فيرى أنه يجد صعوبة فائقة في الفصل في شكل عقلاني بين المخاطر الملموسة لأصداء الماضي وبين الحاضر والمستقبل. ويقول: «نحن نسلم أنفسنا للمخاوف بسهولة، بل أحياناً بحماسة. وهذا ليس مفاجئاً: إنها محفورة في حمضنا النووي الجماعي والفردي، وتقفز في شكل طبيعي مع كل تهديد أو خطر. كرمشة عين تضخم أصداء الماضي وتُبث في الحاضر فنجد أنفسنا هناك، حتى وإن كانت حقائق حياتنا تشير إلى واقع أكثر تعقيداً. لا يمكنني فهم أعماق رئيس الحكومة. لا أعرف إذا كان يفعل ما يفعل كتلاعب ساخر أو من خلال الإيمان والاقتناع الداخلي العميق. من المؤكد أن ما بدأ كتلاعب تحول مع مرور السنوات إلى إيمان. يمكن لمثل هذا التلاعب المتشعب أن يلف، أحياناً، من يبادر إليه».