غالباً ما نمدح الاشياء التي نرثيها أو نرثي لها. لاننا كثيراً ما نكتشف حبّنا لها عندما نفقدها أو نكون على وشك فقدانها. ونحن اليوم، نشعر بمزيج من الخشية والشفقة واللهفة إزاء الكتاب ومصيره، في ظل التطورات الهائلة التي يشهدها عصرنا في شبكات الاتصال وفي أجهزة الاعلام والكمبيوتر. لم ينقرض الكتاب بعد. واذا كان في سبيله الى الانقراض، فان الامر قد يحتاج الى زمنٍ ليس بالقصير. ولكننا الآن نأسى عليه إذ نرى اليه منكمشاً خائفاً حيال ما يجتاحه من وسائل باتت تنافسه بقوةٍ في نقل المعرفة على أنواعها. كذلك نأسى عليه لان سياسات النشر - في عالمنا العربي خصوصاً - قد جعلته موضع اتجارٍ وابتذال. يتعرض الكتاب اليوم لاجتياحٍ كاسحٍ من أجهزة الكومبيوتر وشبكات الاتصال. والمكتبات الضخمة غدت مهددة من اقراصٍ صغيرةٍ يمكنها ان تختزن من المعلومات ما تضيق به الكتب الكثيرة والموسوعات. اما قراء الكتب فهم الى مزيدٍ من التناقص، وذلك لما تؤمنه الاجهزة الحديثة من سرعة وسهولة في تقديم المعلومات وألوان التسلية. هل سنفتقد يوماً الفسحة الجميلة التي تؤمنها لنا قراءة كتاب ممتع؟ هل ستغني عن فسحات الكتب ساعات من التسمّر امام شاشات أجهزة باتت تتطور يوماً بعد يوم، لتجعلنا نلهث وراء تطورها المتسارع، خائفين من التخلف كثيراً عما تحدثه في حياتنا المعاصرة من تأثيرات عميقة؟ السهولة والسرعة، أنسعى اليهما، أم نقاوم حيالهما؟ وهل يكونان سبيلاً الى تلقٍ أفضل للمادة الثقافية، أم سبيلاً الى تسطيح هذه المادة وجعلها خفيفة ما أمكن؟ والكتب الجيدة، أليست وسائل لتقديم المعرفة دونما جنوحٍ الى الخفة والتسرّع؟ أليست الكتب الجيدة فسحات للتأمل والتعمّق والاستغراق؟ خصوصاً تلك الكتب التي لا تسعى الى تقديم المعلومات، وإنما الى خلق مناخات وعوالم تخطف القراء لتمنحهم أوقاتاً متميزة، خارج المجرى العادي للزمن. إن مكانة الكتاب تواجه اليوم تهديداً فعلياً في العالم كله، بسبب مما تقدّم. اما الكتاب العربي فانه يُعاني من مشكلات كثيرة، ليس التهديد المشار اليه سوى جانب من جوانبها. ويتمثل أهم هذه الجوانب - بل أخطرها - بسياسات النشر السائدة في بلداننا العربية، هذه السياسات التي أفقدت الكتاب العربي جزءاً كبيراً من مكانته في حياتنا الثقافية. ان القيّمين على نشر الكتب في بلداننا العربية لا يعطون الأولويجة في عملهم لاهداف ثقافية، او بالاحرى لتعميم المادة الثقافية الجيدة. وإنما يعطون الأولوية لاهداف اخرى قد تتعددد بهذه النسبة أو تلك، ولكن تأتي في طليعتها الاهداف التجارية أو المالية، خصوصاً لدى ناشري القطاع الخاص، وبالاخص في بلد كلبنان. فالناشرون اللبنانيون يجدون انفسهم منتجين لسوق "استهلاكية" هي العالم العربي بجميع أقطاره، فيجهدون لتلبية حاجات هذه السوق على اختلافها، لا يحفّزهم في ذلك سوى الرغبة في الربح، فليست لديهم من سياسة النشر سوى النزعة التجارية التي يمكنها التكيّف بسرعة مع متطلبات السوق. لهذا يتراجع المستوى الثقافي للكتاب - في اهتمامات هؤلاء الناشرين - الى مرتبة ثانوية جداً. النزعة التجارية لدى ناشري القطاع الخاص، تقابلها نزعة انتقائية ضيّقة يتميز بها النشر في القطاع العام، في معظم البلدان العربية. هذه النزعة الثانية ترسم للاهداف الثقافية من صناعة الكتاب حدوداً لا يمكن تجاوزها، أو بالاحرى ترسم سياسة صارمة للنشر، تسمح هنا وتمنع هناك، وفقاً لمآرب لا تتعلق - في الدرجة الاولى - بالمستوى الثقافي للكتاب. وهكذا لا نرى ان النزعتين اللتين تكلمنا عنهما تختلفان كثيراً من حيث الاهتمام بالكتب وبمكانته وبدوره. ان الكتب الاكثر رواجاً، والاكثر ربحاً لناشريها، هي من انواع لا تساهم ابداً في تكوين الوعي العام، أو في تحسين شروطه، أو في النهوض بمستوى الثقافة في مجتمعاتنا. بل انها - على العكس من ذلك - قد تساهم في تشويه ذلك الوعي وفي الحطّ من مستوى الثقافة. فالناشرون عندنا يتخلون عن مهمة التأثير الايجابي في مستهلكي إنتاجهم، يغفلون عن ضرورة العمل على اغناء ثقافة هؤلاء المستهلكين وتطوير ميولهم وتهذيب اذواقهم. ما أحوجنا الى سياسة في النشر تنحاز الى الثقافة، أو بالاحرى تنتصر لها في وجه المصالح أو النزعات التي من شأنها ان تبتذل هذه الثقافة أو تسخّرها لمآرب رخيصة. وعلى هذه السياسة الا تكون ضيّقة، ألا تكون أحادية النظرة تنتصر لنوع واحد من الثقافة، بل عليها ان تكون الى جانب التنوّع والتعدد، أي الى جانب الحرية في التفكير والتعبير. ان السياسة التي ندعو اليها، أو نطالب بها، تقتضي وجود قيّمين على النشر ذوي هموم ثقافية، وليسوا مجرد تجّار وطلاب ثروات. كذلك عليهم ان يكونوا ذوي معارف ورؤى، فتدفعهم همومهم الى اختيارات حسنة توجههم فيما يعملون على اصداره من كتب. وينبغي لهذه السياسة المرجوّة - لكي تكون فعالة ومُجدية في تحسين صناعة الكتاب العربي وفي بلورة الاهداف الثقافية لهذه الصناعة - ان يُشارك في صياغتها الكتّاب والمؤلفون، فلا تترك للناشرين فقط. ذلك ان العلاقة الحميمة بين الكتاب ومؤلفه لا يمكن ان ترقى اليها العلاقة بينه وبين ناشره، والمؤلف هو الاكثر حرصاً على ان تؤتي عملية النشر ثمارها الثقافية. نقول ما أحوجنا الى سياسة كهذه، و نقول في الوقت نفسه ما أبعدها عنّا. وها نحن - بسبب من غيابها - نرى ان ساحتنا الثقافية ملأى بالكُتب الضحلة التي لا نرى في اصدارها سوى اغراء للقراء بما يُشبه الاحتيال أو التضليل. ونعجب حيال ذلك من توظيف إمكانات كبيرة لا يعني سوى الهدر، لانه لا يعود بفائدة تُذكر على الجمهور، وإنما يعود بفوائد ماديةٍ على حفنة من المتاجرين، الذين لا يروْن في الكتاب سوى سلعة للبيع والشراء. نرى الآن الى الكميات الهائلة من الكتب العربية التي تصدر في كل يوم، فلا نملك سوى الرثاء. كميات هائلة تكاد تطمس كل نوعية جيدة. لا تخلو الساحة من كتاب قيّم، من هنا أو من هناك، ولكنّ طريقه الى القراء غالباً ما تكون شائكة، في معمعة النشر والترويج التي نشهدها، وغالباً ما تكون قيمته الثقافية حائلاً أمام تسويقه! حيال هذا كله، لا نملك سوى الرثاء. نرثي لأنفسنا، لأوضاعنا الثقافية بعامة. ونرثي للكتاب العربي، الذي بات مهدداً من كل جانب.