لا بد ان أندريا إبنة وزير الخارجية الالماني السابق كلاوس كينكيل، طبّقت حرفياً ما قالته العجوز غولدا مائير: "اذا لحقت امرأة ما بزوجها حتى اسرائيل، وتنازلت عن شعبها ووطنها ولغتها وعائلتها، فعليها ان تفعل الخطوة الاخيرة… ان تدخل في حمام التعميد وتصبح يهودية". وهذا فعلته اندريا كينكيل، بعد ان وقعت في حب طبيب العلاج الطبيعي اوفير توفال. وبعد الزواج اغلق الباب الاخير في وجهها حتى الآن على اية حال: وزارة الداخلية الاسرائيلية رفضت طلبها الحصول على السراخوت الجنسية الاسرائيلية. سبب الرفض حسب التصريحات الرسمية العلنية على الاقل، لا يكمن في الاصل الالماني لأندريا كينكيل ولا علاقة له بعبء ذكريات الماضي وما فعله الالمان باليهود، ولا بالرفض العام للذين يتهودون او الذين في طريقهم الى التهود. السبب الاساسي يبدو في السياسة الداخلية لاسرائيل: اندريا كينكيل هي الضحية الجديدة لصراع ثقافي تزداد حدته كل يوم بين معسكر اليهود الارثوذكس من جهة، وبين معسكر الليبراليين غير المتدينين من جهة اخرى. ووفق تصريحات المعسكرين للصحف الالمانية، فإنهما لا يعترضان على الدخول في اليهودية: العلمانيون لا يعترضون في كل الاحوال، لان الموضوع لا يهمهم بأية صورة من الصور، والموالون للقانون الديني لا يعترضون ايضاً، لأنهم مثل المتزمتين الآخرين في ودهم ان يعتنق كل الناس دينهم، وعلى هذا الاساس فان كل متحول جديد وفق تعاليم التلمود سيقبل كعضو جديد في الطائفة ويجب ان يعامل كغيره بالتساوي اذا أثبت اعترافاً واضحاً بالإله الواحد، وبكل ال 613 وصية، بما فيها كل الممنوعات للتأكد من ذلك، في النهاية ليس غير الله من يستطيع التأكد صدق ذلك! ومن يستطيع ان يأتي بشهادة من محكمة رابينية، تؤيد انه شارك لزمن معين الطائفة اليهودية في تطبيق شعائرها، وفي النهاية وافق على طهوره في حالة الرجال، او - في حالة النساء - نزل في المكفة حمام التعميد فانه وفق قوانين اليهود ينتمي لعائلة ابراهيم واسحق ويعقوب. اندريا كينكيل فعلت كل هذا، عبثاً. لأنها من وجهة نظر اليهود الارثوذكس، لم تدخل اليهودية عن طريقهم انما عن طريق "الليبراليين". هذا يعني انها دخلت اليهودية عن طريق "مؤمنين بشكل آخر، يطلق عليهم يهود بالاسم فقط"، كما يعتقد الكثير من المتعصبين اليهود. من مفارقات دولة اسرائيل، ان هؤلاء المتعصبين بالذات لهم الكلمة الاخيرة في ما يتعلق بمسائل قانون الاحوال المدنية والمسائل الشخصية الاخرى. لأن الصهاينة الاوائل، مؤسسي اسرائيل، تركوا تقرير قانون العائلة والاحوال المدنية في يد الارثوذكس. ربما حدثت حلحلة لهذا الوضع في بعض الفترات، لكن ذلك ظل يعتمد في الاساس على نتائج الانتخابات وطبيعة المرحلة التي تمرّ بها اسرائيل. فالاحزاب الدينية لم تكن تستطيع التحرك بحرية طبعاً، وتثبت تصوراتها، لو لم تحصل على الدعم الانتخابي المطلوب، والذي يؤهلها ان تفرض شروطها في التحالفات التي تدخل فيها. واذا كان هناك بعض الليبرالية بما يخص قوانين التجسس وقانون الاحوال المدنية بشكل خاص والدرجة التي وصلت اليها اسرائيل في فصل الدين عن الدولة حتى العام 1996، فان كل ذلك تغيّر بعد اواسط ذلك العام وبعد انتخاب الشارع الاسرائيلي لحزب الليكود اليميني الذي من اجل الحصول على الاغلبية المطلقة في البرلمان دخل في تحالف مع الاحزاب الدينية الصغيرة، واحد اطرافها شاس أهم حلفاء نتانياهو، حزب الارثوذكس اليهود، الذي تسلّم حقيبة وزارة الداخلية. الارثوذكس اليهود، وحزب شاس بالذات، يستشهدون بأقدم التعاليم اليهودية، التي تقول وفق ادعاءاتهم بأن الذي يتحول لليهودية في اسرائيل فقط، يقبل في الدين اليهودي، وكل تلك الشهادات القادمة من الخارج من "غير المؤمنين" يجب فحصها جيداً، والا فانه لا يستبعد ان اطفال وورثة هؤلاء، لن يعترف بيهوديتهم، حتى وان ولدوا في اسرائيل. على هذا الاساس، ليست اندريا كينكيل الوحيدة التي تطبّق عليها نظرة شاس، انما اكثر اليهود الذين ينتمون للمعسكر الليبرالي. واذا كان الامر يجري وفق تصورات المتعصبين، فان الملايين من اليهود الاميركيين، لا يحق لهم الادعاء بكونهم يهوداً. ووفق تعليقات الصحافة الالمانية، فان القضية هي اقدم من حالة كينكيل. ان شهرة اندريا كينكيل، وكون ابيها سياسياً المانياً بارزاً جعلا القضية تقترب من الفضيحة، اذا ما باءت كل المحاولات لصياغة اتفاق بالفشل. يهدد آلاف من اليهود الاميركيين المؤثرين بتوقيف دعمهم المالي لاسرائيل بسبب هذه الوضعية وعلى رغم ان نتانياهو لا يمكن ان يغامر باللعب مع هذا الدعم، فانه لا يريد في الوقت نفسه ان يدخل في مواجهة مع حزب شاس الذي يعتمد عليه في سياسته الداخلية. الامر نفسه حدث مع اليهود القادمين من الجمهوريات السوفياتية السابقة. فوفق وزارة الهجرة - التي هي ايضاً في ايدي حزب شاس - فإن نصفهم - حوالى نصف مليون مهاجر - ليسوا يهوداً، وهؤلاء يعيشون في اسرائيل منذ عام 1990، وهم حتى الآن يهود على الورق فقط. في الحقيقة ان الارثوذكس يستخدمون تلك الحجة كذريعة لأنهم يخافون، مع هجرة العديد من اليهود الليبراليين، من فقدان تأثيرهم بالمجتمع الاسرائيلي. ان اغلبية المنتمين لمعسكر شاس او الذين ينتخبونهم ينتمون الى معسكر اليهود الشرقيين، الذين يشعرون بالاجحاف في المجتمع اليهودي، وينظرون لنخبة اليهود القادمين من اوروبا واميركا كمضطهدين لهم. اليوم كل هذا تاريخ، لأن اليهودالاوروبيين لم يعودوا الاغلبية في اسرائيل. على العكس بدأ اليهود الشرقيون، عن طريق نسبة الولادات العالية بينهم، وبعد هجرة الفالاشا يصبحون هم الاغلبية. والسفارديم - اليهود الشرقيون - لا يعرفون الفصل بين التيوقراطية والديموقراطية. لذلك، على رغم تصنيف الكثير من المراقبين الغربيين المحايدين لدولة اسرائيل بكونها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط، وان مواطنيها منفتحون على التقدم، الا انه يجب عدم النسيان، ان الاحزاب الدينية، مثل "شاس" و"اغوداث اسرائيل" تحصل على زخم كبير من الاعضاء الجدد. والاغلبية العلمانية، لا تستطيع الدفاع عن نفسها، امام زحف هذه القوى المتعصبة، اولاً لأنها تقدم نفسها بلا ملامح ومن دون تنظيم عكس القوى الدينية المنظمة بصورة محكمة، وثانياً لأن القضايا الدينية تهمها فقط، عندما تصبح ذات ثقل عليها، كما يرى بحق بعض المحللين المطلعين على المشهد السياسي - الاجتماعي - الديني في اسرائيل. لكن تلك الحقيقة لا تعني المجتمع الاسرائيلي فقط، انما يمكن سحبها على المجتمعات العربية، خصوصاً المجتمعات المحيطة باسرائيل: الاغلبية الصامتة لا تملك الكثير لتقوله، اذا كانت الاقلية تستحوذ على التنظيم، وتعبّر عن نفسها بصورة جيدة وتتصرف بثبات وعزم - وهذا ما تفعله الاحزاب "الجهادية" الدينية في المنطقة. يبدو ان هذا الزمن زمن الجماعات الارثوذكسية التي تقود المسيرة الآن، وتكسب في كل مرة معركة جديدة، امام أعين العلمانيين المضطربة: خلال الاحتفال بمرور خمسين عاماً على دولة اسرائيل كان على فرقة الرقص "باتسهيفا" التنازل عن تقديم عروضها لأن الاحزاب الدينية ومجلس التوراة، بذلوا وسعهم لمنع ان تعرض الفرقة امام الجمهور "هذه الدعارة الفاضحة"، المتجسدة بسيقان عارية لا اكثر ولا اقل. "منظر اللحم" دوّخ أحد المشرفين على امتحان قيادة السيارات، الذي ينتمي الى احدى الفرق الدينية الارثوذكسية. لقد امتنع عن تسليم البنت الممتحنة اجازة السوق، لأنها وبسبب موجة الحرارة التي اصابت المنطقة ايضاً، كانت تقود السيارة بذراعين مكشوفتين. هذه الحالة هي مثل غيرها من الحالات في ازدياد، كما تكتب الصحف الغربية "المحايدة"، فمن المعتاد ان نقرأ في الفترة الاخيرة، اخباراً عن فنانين يشتمهم راديكاليون دينيون، واعمالهم يجري التشنيع بها على انها مناهضة للدين ومنافية للعادات والتقاليد. مثلما تمنع اعمال الحفريات الاثرية، لأن نتائجها تتضارب مع صورة العالم، التي يعتقد "المؤمنون" بأنها الصورة التي أرادها الله للعالم. هكذا شاع في الفترة الاخيرة ايضاً سماع اخبار مسيرات وتظاهرات ضد بعض الكتب "الملحدة"، وكأنهم تعلّموا جيداً من فتوى خميني ضد سلمان رشدي، بل وصل بهم الامر ان يمنعوا المطابع من طباعة بعض الكتب. لم تفعل الجماعات العلمانية حتى الآن، شيئاً يسترعي الانتباه ضد ذلك، حتى وان اعربت عن الغضب. فباستثناء الحزب العلماني ميريتس ومجموعات صغيرة اخرى، فان الحكومة والمعارضة تمارسان الصمت، الاولى تشجع الاحزاب بصمتها، لانها تستفيد في النهاية من سياسة الاحزاب الدينية، والمعارضة بصمتها تمارس تكتيكاً، تعتقد انها عن طريقه، وبعدم اغاظة المتدينين ستكسب الانتخابات القادمة. انهم يأملون بأصوات الارثوذكس، ويحتاجون لأحزابهم في تكوين حكومة، وفي ما يتعلق بالسياسة ازاء الاحزاب الدينية، ليست هناك فروقات بين الحزبين الكبيرين في اسرائيل: الليكود والعمل، فنتانياهو او شمعون بيريز رغم اختلاف الشخصيتين بشكل جوهري، لا يستخدمان في مقابلاتهما او في نزاعاتهما الحجج السياسية، انما يستخدمان وبوعي الحجج الدينية، الاثنان يستشهدان بالتوراة كلما دعت الحاجة، ما جعل مستشار المانيا الغربية السابق هلموت شميدت ان يسأل زميله شمعون بيريز في مقابلة تلفزيونية في البرنامج الثالث الالماني: لماذا كل هذه الاستشهادات بالتوراة؟ طبعاً تستغل الاحزاب الدينية ذلك، لكي تسيطر على المشهد السياسي. على هذا استطاع اليهود الارثوذكس، تحت حكم نتانياهو، تثبيت قانون صاغته الحكومة الاسرائيلية، يقول، بأن البتّ بقرار أحقية الشخص المتحول عن دينه للدين اليهودي، وبالتالي الحصول على الجنسية الاسرائيلية، يظل في يد الرابينات الارثوذكس، التابعين للاحزاب الدينية. القانون يتضارب مع كل ما حاولت تثبيته اسرائيل كدولة قانون، وضد كل مبادئ اليهود الليبراليين، ما جعل بعضهم يصرح: هذا يعني، ان تعميدنا ليس صحيحاً، واننا يهود من الدرجة الثانية، كما علّق في مقابلة في التلفزيون الالماني بحق رئيس الرابينات الاصلاحيين الاميركيين اريك يوفي. واذا كان نتانياهو يريد ان يدخل بالفعل في صراع مع اليهود الاميركيين في ما يتعلق بتحول الناس من دينهم للدين اليهودي، مذعناً لرغبات حلفائه من حزب شاس والجماعات الدينية الراديكالية الاخرى، فذلك أمر يجب انتظار نتائجه. يعود ثلثا المطبقين للشعائر الدينية اليهودية في اميركا لمعسكر الليبراليين، او للطوائف الاصلاحية، لكن أمراً واحداً هو نهائي وواضح: الاستحواذ العدائي للدين لدى الارثوذكس، يقسم المجتمع الاسرائيلي، ويقود للنزاع بين مختلف اطرافه. الصراع سيكون على اشده في السنوات القادمة، ولا بد لذلك ان يحفز ايضاً القوى العلمانية ان تكون اكثر نشاطا وفعالية: من سينتصر في النهاية؟ الامر مفتوح، ومرتبط ايضاً، بالصراع ذاته بين القوى الدينية المتطرفة التي تصعد في دول الطوق المجاورة لاسرائيل ايضاً. اندريا كينكيل، ابنة وزير الخارجية الالماني السابق، عليها في كل الاحوال كألمانية في اسرائيل ان تحبّ زوجها اكثر وتتحلى بالصبر؟ * كاتب عراقي مقيم في المانيا.