العاملون عندنا في حقول الثقافة يعيشون غالباً في قوقعة من المفاهيم الجامدة، يستمدون منها افكارهم، التي تجعل مهماتهم في التنوير او في انتاج المعرفة مهمات عقيمة او غير مجدية. والركون الى المفاهيم النهائية - اياً كان نوعها - من شأنه ان ينتج العراقيل او الاوهام في سبيل المثقفين، خصوصاً اولئك الذين يتخذون من انتاج الافكار مهمة اساسية في نشاطهم. هذا ما يعبر عنه الكاتب والمفكر علي حرب في كتابه "اوهام النخبة"، داعياً الى العمل الدائب على اعادة النظر في المفاهيم، بدلاً من الاطمئنان اليها وتحويلها الى ما يشبه المعتقدات. يسخر حرب في كلامه على المثقفين العرب ومشكلاتهم من "تعلقنا الساذج بالعدالة، ومن عشقنا الكاذب للحرية، ومن دفاعنا الفاشل عن الحقيقة، ومن ممارستنا العقيمة للاستنارة، ومن ادعاءاتنا الفارغة عن الهوية والامة"، ويقول ان "علينا ان نعمل على صياغة مفاهيم جديدة للعدالة والحرية والاستنارة والهوية والامة، فضلاً عن السلطة والدولة والمجتمع. فهذه هي مهمة العامل في ميدان الفكر...". كيف ينتج المثقف عندنا صياغات جديدة للمفاهيم الاساسية المتعلقة بالعدالة والحرية والحقيقة... وما الى ذلك؟ وهو اما ناقل لهذه المفاهيم او وارث. ونقصد بذلك ان مثقفينا لا يسعهم سوى الاقتباس، من التراث حيناً، ومن الثقافات الاجنبية حيناً آخر. وهذا يدفعنا الى طرح الاسئلة على هذا النحو الاولي: المثقف عندنا، من هو؟ كيف يكون مثقفاً؟ ما مهماته؟ ما علاقته بالمفاهيم... وبغيرها؟ هذه الاسئلة الاولية يتصدى لها ايضاً علي حرب، ويحاول الاجابة عنها من منطلق البحث عن دور فعال للمثقف. وهو في ذلك لا يغفل عن نقطتين مهمتين: اولاً علاقة المثقف بالواقع او بالحياة العامة، وثانياً علاقة المثقف بحقل عمله او بالاحرى جدارته في هذا الحقل. بالنسبة الى النقطة الاولى، يلحّ علي حرب على وجوب انغماس المثقف في محيطه، واغناء علاقاته داخل هذا المحيط، وذلك من دون حذر او خوف، بل انطلاقاً من ثقته بأنه هو الذي سيكون المؤثر والمغيّر. ومثل هذ الانغماس هو الذي يجعله صاحب رؤى، ويجعله قادراً على اعادة النظر في المفاهيم السائدة، وعلى تطويرها، وربما على انتاج مفاهيم جديدة. وبالنسبة الى النقطة الثانية، يلحّ علي حرب على اهمية ان يكون المثقف مبتكراً في حقله. فهو لن يكون مؤثراً فيما حوله، او في محيطه، اذا لم يكن مُجيداً في التعبير عما يفكر فيه او يتطلع اليه. يقول حرب: "ان تأليف نص مبتكر، ادبي او فلسفي، هو ذو قيمة تنويرية اكثر من عشرات الخطابات الايديولوجية في التنوير". ينبغي للمثقفين عندنا ان يخضعوا افكارهم لاختبارات دائمة، او بالاحرى ان يمارسوا النقد حيال ما ينتجونه في هذا الحقل او ذاك من حقول الثقافة. والنقد هنا انما ينطوي على مرونة في النظر الى مختلف الامور، وعلى استعداد الى المراجعة والتكيّف بصورة مستمرة. وهذه الروح النقدية من شأنها - اذا توفرت لدى مثقفينا - ان تحول دون اجترارهم للمقولات والمفاهيم. ونحن في حاجة ماسة الى مثلها، لكي نواجه اوضاعنا العامة، التي نعبّر دائماً عن رغبتنا في زعزعتها وفي تغييرها. يقدم نقده للمثقف العربي، لكي يدافع عنه، لا لكي يدينه، ولكي يحاول ايضاً ان يبلور دوراً فعالاً له. فالتحلي بروح النقد هو في نظر حرب "محاولة لفتح امكانات جديدة، يخرج بها المثقف على غير ما هو عليه، سواء من حيث علاقته بذاته، او بغيره وبالعالم، وبصورة تؤدي الى عادة ترتيب علاقات القوة بينه وبين رجل السياسة بشكل خاص، الامر الذي يجعله يخرج مخرجاً اكثر غنى وقوة، سواء على صعيد المعرفة او على صعيد السلطة...". * كاتب لبناني.