تذكرت القصة مجدداً عندما رفعت الملكة اليزابيث الغطاء عن النصب الباهظ للأمير الألماني الذي بقيت زوجته ملكة بريطانيا أربعاً وستين عاماً. لم أحببها عندما قرأتها لجهلي في ذلك الوقت المشاعر المعقدة ونهايتها من دون سبب واضح. في ما بعد كنت كلما تذكرتها أحنق لنسياني اسم الكاتب ومصير الكتاب الذي ضم قصصاً اجتهدت المعلمة في محاولة استخراج تقديرنا لانعطافاتها الجمالية من دون جدوى. استوحى الكاتب قصة تاج محل لكنه وصل الى نهاية مفاجئة كما يجدر بالقصة الجيدة. بنى الامبراطور المغولي شاه جهان في القرن السابع عشر أجمل قبر في العالم لزوجته المفضلة ممتاز، ويبدأ الكاتب بمسار مشابه لامبراطور أو ملك أو أمير يأمر ببناء قصر فخم قبراً لزوجته المتوفاة ليقول كم يحبها ويحزن عليها. أذكر كم سئمت التفاصيل العمرانية التي أكلت معظم القصة وكانت مقدمة ضرورية لإكمال الحبك والوصول الى تلك العبارة القصيرة التي تشبه الضربة القاضية في الملاكمة. لا يملك الامبراطور أو الملك أو الأمير إلا ان يلاحظ عند نهاية البناء غناه وروعته مقارنة بالصندوق الذي يضم رفات زوجته. "أبعدوا هذا الشيء من هنا" يقول وتنتهي القصة. تتغلب الرهافة الفنية على الحب، أم ان التجاوز الذي يقدمه الفن يوفر اشباعاً تعجز المرأة أو الرجل، عن مدنا به، أم ان الحب ينتهي بكل بساطة بنهاية المحبوب؟ لم أهضم الخيانة يومها، أو أغفر اعلاء الرقي الفني على الحب الذي يبدأ قوياً ساطعاً وينتهي لسبب غامض يثير الشك في العالم والرجال. بعدها بسنوات عرفت كيف يتحول الحب، الذي لا يملك تعريفاً واحداً مطلقاً، الى تفصيل من دون ان يثير شجناً كبيراً. وعندما زرت باريس كان تابوت نابوليون، على ضخامته، أقل ما استرعى اهتمامي في المبنى الذي يضمه. هل نفكر بالحب عندما ننظر الى تاج محل الصغير الذي بنته فكتوريا لزوجها الذي توفي في الثانية والأربعين؟ للحب دائماً اسماء اخرى، وفكتوريا التي توجت في الثامنة عشرة احتاجت الى رجل تحبه أو تستند الى دعمه. من رئيس وزرائها اللورد ملبورن الى زوجها الأمير ألبرت الى سائر الخيل السكوتلندي الى الخادم الهندي عبدالكريم الذي كبرته بأربع وأربعين عاماً. لم يهضم الانكليز كون البرت ساكس - كوبرغ - غوتا المانيا، وأرادوا التعويض عن نفورهم بعد موته من التيفوئيد في 1861 بالموافقة على النصب الذي يعلو واحداً وستين متراً. نزعت ورقة الذهب عنه في الحرب العالمية الأولى بحجة ان لمعانها يعين طائرات زيبلن الالمانية على ضرب لندن، لكن العداء المتجدد للألمان كان السبب الحقيقي. تدهور حال تمثال ألبرت والنصب بعد ذلك فغطي لحماية رواد حديقة كنزنغتون من قطعه المتساقطة. واذ رمم وعاد "رائعاً حقاً" كما وصفته فكتوريا أعاد طرح الاسئلة عن قيمة هذه الاستعراضية التي تبدو جزءاً جوهرياً من الملكية البريطانية الأكثر تمسكاً بالفخامة في العالم كله. في الوقت الذي يبحث السائح عما يشبه نصب ألبرت لتلتقط عيناه وعدسته "عظمة التاريخ" في بلد ما قد يتساءل هو نفسه اذ يعود من حال انعدام التوازن المرتبطة بالسياحة عما اذا كانت هذه العظمة تبرر الظلم والاستعباد الذي لحق بالعمل في حضارات تركت أبهى الآثار واجملها، وعما اذا كانت ممكنة من دونهما. هل كان يمكن ان تترك الحضارات القديمة الابنية والتماثيل الضخمة الا بالتفاوت الطبقي والمالي اللذين لا يزالان طبيعيين على رغم التقدم الاجتماعي والتظاهر بأكثر من مداه أحياناً؟ ترميم نصب ألبرت كلف دافعي الضرائب اكثر من أحد عشر مليون جنيه استرليني في فترة الركود الاقتصادي، فهل يساوي حفظ "التاريخ" حرمان المشاكل الاجتماعية المختلفة هذا المبلغ الذي يساهم في حلها وان لم يلغها؟ دفعت فكتوريا نصف كلفة تمثال زوجها لا النصب كله، فهل كانت تعترف بالجانب الشخصي في الأمر وبانتماء مثل هذه النصب الى زمن ولى، أم أنها كانت تفكر فقط بحساسية شعبها تجاه جنسية زوجها الالمانية؟ ننظر الى صور الحكام الكبيرة ونصبهم والشعارات المتيمة بهم في البلدان المتخلفة ونتحدث عن عبادة الشخصية الرخيصة. ما يسميه الانكليز ولاء لا ينفي عبادة الشخصية وتكريسهم حقباً كاملة باسماء المسؤولين فيها. هل هي عظمة الحب أم عظمة بريطانيا الامبراطورية ما نفكر به عند رؤية نصب ألبرت النيو قوطي المذهب؟ لا شك في ان فكتوريا وجدت الأمر طبيعياً وان لغتنا اليوم كون الرجل لا المرأة موضوع حزن كبير مجرد من الفخر والمجد الرجوليين المخصصين لتماثيل الشخصيات العسكرية والسياسية. ولئن كان عليها تجاهل تأثيره على قراراتها، ركزت على اهتمامه بتقدم المملكة العلمي والفنون والاختراعات، واشارت التماثيل في النصب الى ميوله التي برزت عند تنظيمه "المعرض الكبير" في 1851. هل خففت هذه الصفات الموضوعية من رخص النصب وشخصانيته؟ لم تعرف فكتوريا كيف تقول حبها بغير الذهب الصارخ والابنية المزركشة، وكانت شهادتها أجمل لو تركت رسالة لا تحتاج فيها الى غير الصدق. الأكيد انها لا تنتمي الى زمن شديد الاختلاف اساساً، وان كان حكام اليوم اكثر تواضعاً في طلب الخلود. فرنسوا ميتران لم يترك تماثيل له أو لإحدى نسائه لكنه اهتم بالتصاميم العمرانية الضخمة، ونسخ على قوس النصر في الشانزيليزيه قوساً آخر حديثاً. وتوني بلير يريد ان يخلف "القبة الألفية" التي تغيظ تكاليفها قسماً كبيراً من الرأي العام لا يشعر بكثير من التقدير لهذا النوع من العظمة القائمة على حسابه.