-1- إذا كنا قلنا في المقالة السابقة إن الخطاب النقدي العربي كان يحمل في طياته مقولات في الحرية والاختلاف والحوار والتفاهم مع الآخر، والرضى المبدئي بأن الكلمة هي أداة التعامل مع الآخر. ولم يحدث قط أن نشب صراع عنيف إما بالتكفير أو بالقتل داخل منظومات هذ الخطاب، وهذه كلها قيم ديموقراطية وثقت العلاقة بين الجمال والحرية... لقد قلنا هذا في المقالة السابقة، وتساءلنا في الوقت نفسه ما الذي حال دون تسرب هذا الحس الحر إلى سائر خطابات الثقافة العربية القديمة أولاً وإلى الممارسات الاجتماعية والفكرية العربية؟! وهذا أمر يدعو للعجب من جهة وللحيرة من جهة ثانية. ولو بدأنا من نهاية المطاف لرأينا أن هذا الحس الديموقراطي لم يجر حتى مجرد التنبه إلىه وتسميته. وكل الذين يكتبون عن الفكر العربي يغفلون الخطاب النقدي ولا يلتفتون الى ما في هذا الخطاب من مؤشرات معرفية/ فكرية راقية. كما أن الاشتغال الفكري والاجتماعي المعاصر والمصاحب لتلك المقولات ظل غير متأثر بها ولا متفاعل معها. وفي الوقت الذي كان الجرجاني يقول بمبدأ الاختلاف وأن الائتلاف يتولد عن الاختلاف من ذلك، كانت تهم الزندقة وأحكام التكفير تجري على أصحاب الرأي المخالف بين فرق الرأي والفكر بعضهم ضد بعض، وهو إنكار للاختلاف وتجاهل لمسالك الائتلاف الحقيقية. وهذه الصورة الأخيرة غير المتسامحة هي التي تطغى على ظنوننا وعلى نظرتنا إلى المعطى الفكري القديم. في حين ظلت مقولات النقد في عزلة تامة وفي حالة اللافعل. فلماذا صار ذلك؟ -2- إن التعرف على مآزق وإخفاقات الخطاب النقدي العربي سوف يساعدنا اليوم في تجنب هذه المآزق ومن ثم سيساعدنا في تحرير النقد الأدبي من مشكلة العزلة واللافعل. وللخطاب النقدي مأزقان هما: أ - أنه خطاب جعل البلاغة والجمال الإبداعي هدفاً أسمى له. واتخذ الجمال البلاغي أمراً مسلماً به يجري الرضى به أولاً ثم تذوقه والطرب له ثانياً ثم المنافحة عنه وتبريره ثالثاً. وهذا فعل جعل النقد يعزل نفسه عن كل ما عدا البلاغة. فالثقافة والفكر والمجتمع كلها أمور حرص النقد على إبعادها وإلغائها ومن ثم فإنه أبعد نفسه وتعالى على أنساق الثقافة الاجتماعية والفكرية كافة، وصار النقد بذلك خطاباً بلاغياً في الجمال وللجمال، مع عزل هذا الجمال عن أسئلة ملحة تسبق الجمال أحياناً وتأتي بعده أحياناً أخرى. ولم يحدث - قط - أن ساءل النقد البلاغة أو ناقشها أو كشف عيوبها، وأغرق النقد نفسه بنظريات في الجماليات ولم يلتفت أبداً إلى القبحيات. ولست أقصد هنا عيوب الإبداع الفنية والعروضية واللغوية، ولكني أقصد مسائل تتعلق بالانساق الذهنية الثقافية وسوف أعطي أمثلة على هذه القبحيات النسقية في المقالات القادمة، إن شاء الله. ومن هنا فإن النقد الأدبي كان يلامس قضايا فكرية مهمة ضاعت أهميتها بسبب تغطيتها بغطاء البلاغة ومفهوم الاختلاف و الآخر والرضى بالجدل واعتماد الحوار والدفاع عن الخروج على المألوف، هي مفهومات بدلاً من أن تكون مفهومات فكرية وثقافية واجتماعية فاعلة ومؤثرة صارت مجرد مصطلحات بلاغية معزولة ومقيدة هدفها خدمة - وأركز على كلمة خدمة - البليغ والبلاغة ليس إلا. ولعلي أذكر هنا دعوة زكي نجيب محمود إلى نزول الأدب من تعاليه وسماويته المدعاة إلى الأرض والفعل الأرضي تجديد الفكر العربي، ص217. ومثل ذلك سعى إدوارد سعيد إلى استنباط مصطلح أرضي فعلي تفاعلي هو Worldlyness في دراسته عن فكر ابن حزم وابن مضاء الأندلسي، هادفاً بذلك إلى جر المفهومات اللغوية والنقدية الى عالم يحتاجها ويتفاعل معها. وكأني بسعيد ومحمود قد أحسا بعزلة الخطاب النقدي وتعاليه النخبوي المتوهم وسعيا الى كسر هذا الطوق المفروض. -3- أما المأزق الثاني فيأتي من بوابة الشعر، وهي بوابة فيها رياح كثيرة فاسدة، وهذا الفاسد يختلط بالنقي فيفسده أحياناً أو يضيِّع أثره أحياناً أخرى. ولا شك في أن الشعر العربي الجميل حقاً وصدقاً قد دخله فساد كثير أفسده وأفسد عقولنا أيضاً وذلك عبر أشعار المديح والفخر حيث جرى تدمير الحس الديموقراطي عبر تعالي الذات الشاعرة وتباهيها بنفسها وإلغائها للآخر وتغليبها للأنا، وهي أنا أنانية عمياء وطماعة وشحاذة ومغرقة في فرديتها. هذه الأنا المداحة والفاخرة هي التي أفسدت الإبداع الجميل في الغزليات التي تقوم على تفاني الذات وذوبانها في الآخر وموتها من أجله. وهذان خطابان شعريان متناقضان تغلب الأول منهما وسيطر على النسق الذهني وجعل البلاغة قيمة فحولية فيها الأنا الطاغية والمتعالية والتي يهمها أن تقول كلاماً بليغاً فتبلغ فيه الذات غايتها الفحولية أو تحصل على جائزة سنية. وهذا هو النسق الشعري الأعلى صوتاً والأكثر تأثيراً، وهو ما أفسدنا وأفسد ثقافتنا وجعل النقد خاضعاً وخادماً وعبداً لهذا الخطاب المدمر. ولعلي أذكر علي الوردي هنا وأشير إليه بتقدير حيث صرخ ضد هذا الفساد في كتابه "أسطورة الأدب الرفيع". ولي عودة وعودات حول هذه الأمور. والمهم هنا هو أن نكشف عيوب خطابنا النقدي لكي نحرر النقد من مآزقه ونخرجه من عزلته ونحوله من النقد الأدبي الغارق في الضياع إلى النقد الثقافي الملتزم بأدوات النقد ومقولاته، لكنه المتحرر من سلطة البلاغة والنسق الرسمي للجماليات. * أكاديمي سعودي.