هذا الكتاب يخالف وجهة النظر السائدة بين المؤرخين، في ما يذهب اليه من أن العبيد لعبوا دوراً مهماً في الحروب اليونانية الكلاسيكية. ويحاول تقديم تفسير لتكتم المؤرخين اليونانيين، هيرودوتس وثيوسيديديس وكزينوفان، بشأن مشاركة العبيد في حروب اليونان القديمة. ويعزو هذا التكتم الى أسباب ايديولوجية بالأساس، غرضها الانتقاص من العبيد الذي كانوا يُنظر اليهم بصفتهم جبناء ليسوا قمينين بخوض أي معركة. وقد كرس الكتاب لمناقشة فرضيتين هما: ان العبيد كانوا عنصراً مهماً في الحروب اليونانية، وان المؤرخين اليونانيين الكلاسيكيين حاولوا طمس دورهم هذا. وهي نظرة نابعة من احتقار العبيد، ومن ان اشراكهم في الحرب كان أمراً معيباً أو كريهاً، لأن التقاليد اليونانية كانت قائمة على احترام الشجاعة المقترنة بالاحرار، وازدراء العبيد كرجال جبناء. وكان المجتمع في اليونان القديمة، ربما شأن بقية المجتمعات القديمة كلها، يتألف من الأحرار اغنياء وفقراء وهؤلاء يتمتعون بحق المواطنة، والعبيد الاثينيين وهم المملوكون الذين كانوا يباعون ويشترون كالمتاع، وهيلوت اسبارطة helots وهم اقنان يختلف وضعهم الى حد ما عن عبيد اثينا. وكان المجتمع يتألف من مرتزقة ايضاً، لا سيما في أوقات الحروب. هذا الى جانب المجذّفين المستخدمين في الملاحة الاثينية. ولم يكن العبيد محرومين من حق المواطنة فحسب، بل كانوا يعتبرون فضلا عن ذلك بمثابة دخلاء او غرباء في الداخل، وفي المقابل يعتبر جميع المواطنين متحدين في لحمة واحدة اغنياء وفقراء. وكان العبيد يصورون في النقوش على الآنية مثلاً بحجم أصغر من حجم المواطنين الأحرار، وذلك للتمييز بينهم وبين الأحرار، ولكي لا يخطئهم النظر. وفي مستوى آخر، أكد ديموستين على أن أهم فرق بين العبيد والأحرار هو الطريقة التي يعاقب فيها الأوائل: وهي العقوبة الجسدية، عياناً أمام الملأ، وعلى أيدي سادتهم. وكانت معاقبة الأحرار بهذه الطريقة تعتبر انتهاكاً لحرمة القانون أو العرف. ولما كان جلّ العبيد في اليونان القديمة أجانب، لذلك كانوا يُقرنون بالبرابرة، الصفة التي تطلق على الأجانب. ففي المسرحيات اليونانية يتكلم العبيد السكيثيون والفريجيون اللغة اليونانية بلهجة مضحكة. وهذه كانت مؤشراً الى الدونية: في كتابات اسخيلوس وصوفوكليس واريستو فانس وهيرودوتس، نقف على عبارات ازدرائية بمن لا يتقنون الكلام اليوناني. وحتى أرسطو يذهب، في دفاعه عن العبودية، أي عن نظام العبودية، الى أنها سمة من سمات "البرابرة". لكنه يستدرك فقط عند الاشارة الى استعباد أسرى الحرب اليونانيين، الذين ينعتهم بأنهم ليسوا عبيداً أصلاً. وكان ذوو النزعات المعادية للديموقراطية يتهمون الديموقراطيين الراديكاليين بأنهم متعاطفون مع العبيد. وطبقاً لأفلاطون ان الديموقراطية القصوى تساوي بين الحر والعبد. وبالمناسبة لم يكن افلاطون ولا أرسطو متحمسين للديموقراطية. وكان ارسطو يرى ان الديموقراطية من شأنها ان لا تجعل العبيد تحت السيطرة. لكن الكتاب الذي نقدم عرضاً له يعالج موضوع العبيد ودورهم في الحروب اليونانية، ذلك الدور الذي انكره المؤرخون اليونانيون. ويحاول مؤلفه بيتر هنت Peter Hunt البرهنة على نقيض ذلك، انطلاقاً من إيمانه بأن اليونانيين استخدموا كل ما لديهم من وسائل، بما في ذلك عبيدهم، لدرء الخطر عن حياتهم وحريتهم، لا سيما في الحرب الفارسية - اليونانية. هذا على رغم النظرة الراسخة لدى المواطنين الأحرار اليونانيين من ان العبيد ليسوا أهلاً للقتال لأنهم جبناء، ولأن العبودية ناشئة عن الهزيمة في الحرب. أي ان العبيد الذين هم في حقيقتهم أسرى حروب سابقة، وكذلك ابناءهم، ليسوا مؤهلين لأن يخوضوا حروباً ما داموا قد دفعوا بالهزيمة أصلاً. وحتى في صراع أو قتال الديكة، كان الديك الخاسر يدعى في اليونان "عبداً". وهذه النظرة الى العبيد كانت عالمية يومذاك. فقد ذكر كزينوفون على لسان كورش، الملك الفارسي، ان قوانين الحياة في كل زمان وعند جميع البشر تقضي بأن المدينة التي تحتل في الحرب، يصبح ناسها وممتلكات سكانها ملكاً للمحتلين. ويقول مؤلف الكتاب ان هذه الفكرة عن أهل العبودية هيمنت على عقول المؤرخين اليونانيين، على رغم انه لم يكن مسلّماً به ان جميع العبيد كانوا أسرى حروب بالفعل. لكن هذا المفهوم كان له مغزاه في اطار أهلية العبيد كجنود. ذلك ان فقدان الحرية في الحرب كان يعتبر مظهراً من مظاهر الجبن. وهذا جعل بعض المنظّرين العسكريين، من أمثال كزينوفون، يؤكدون على أهمية القتال حتى الموت. وحتى افلاطون، الذي كان أقل عسكرية من كزينوفون، اعتبر الاستسلام للعدو عملاً لائقاً بالعبيد فقط. لذا كان العبيد يعتبرون أشخاصاً جبناء فقدوا حريتهم بعد الاستسلام في الحرب. وعند كزينوفون: ان البرابرة والعبيد والجبناء هم شيء واحد. ويستند في حكمه هذا على هيرودوتس الذي كان يتحدث عن عبودية الفرس لمجرد أنهم خسروا الحرب، أخيراً، مع اليونان، مع ما ينطوي عليه هذا القول من مفارقة بالطبع. ففي حين يؤكد كزينوفون على أن الفرس كانوا عبيداً بطبيعتهم بسبب عدم كفاءتهم العسكرية، ويقول ان كورش الصغير نفسه يعترف بتفوق الجيش اليوناني، فإنه اي كزينوفون ينسى أنه هو نفسه هرب بجيش مؤلف من عشرة آلاف محارب من بلاد فارس، أي من بلاد "البرابرة". هذا مع أنه كان يؤكد على أنه لا يصح اعتبار الليديين والفريجيين والسوريين والبرابرة من كل الأصناف، على قدم المساواة مع الاثينيين. ولا شك في ان العبد الذي لا يملك حريته، ولا يملك شروى نقير، ويشعر بأنه مجرد حتى من حق المواطنة، أي ان حس المواطنة عنده مفتقد لا وجود له، لا سيما في مدلوله الايديولوجي، لايجد ان هناك ما يدعوه للقتال من أجل "الوطن" الذي يعامله هذه المعاملة. وهذا يفسر سر غيرة وشجاعة المواطنين الأحرار في الحروب، لأن هؤلاء الأخيرين انما يدافعون عن وطن وبيت وممتلكات، وفي المقام الأول عن حريتهم التي قد يفقدونها عند الهزيمة. وبهذا الصدد يتحدث هيرودوتس عن الرجال السكيثيين الذين أرادوا العودة الى وطنهم بعد اقامة طويلة في آسيا، ووجدوا أن زوجاتهم كن عقدن علاقات مع عبيدهم. وقد شكل الأبناء الذين تمخضت عنهم هذه العلاقات جيشاً كبيراً أعاق عودتهم. وقاتلهم السكيثيون، إلا أنهم لم يفلحوا في ايقاع الهزيمة بهم. لكنهم أفلحوا فقط عندما غيروا تكتيكهم، باستعمال السياط بدلاً من السلاح... فعند ذاك أدرك هؤلاء الأبناء بأنهم عبيد: ولم يعد بمقدورهم القتال، بل الهرب. وهذا ان دل على شيء فإنما يعني ان العبيد انما يصلحون للقتال - وببسالة - إذا وُعدوا بإعتاقهم. أما إذا سيقوا الى الحرب وهم لا زالوا عبيداً، فإنهم قد يكونون مصدر خطر على سادتهم، اما كمقاتلين جبناء، أو كمتمردين محتملين، لأنهم يحملون سلاحاً. وتوصل الكتاب الى حقيقتين عامتين: الأولى هي ان هناك حشداً من الأدلة التأريخية - على رغم تكتم المؤرخين اليونانيين بشأنها - يشير الى استخدام العبيد على نطاق واسع في الحروب اليونانية الكلاسيكية. والثاني هو ان الحظر الايديولوجي المفروض على استخدام العبيد في الحروب كان كذلك نتيجة أوضاع ومصالح اجتماعية خاصة. ولم تكن اليونان البلد الوحيد الذي استخدم العبيد في الحروب... وكان تأريخ العبيد المقاتلين في روما طويلاً ومعقداً، تخللته ثورات عبيد كاسحة. كما استخدم العبيد في الحروب الأهلية الرومانية التي وضعت حداً لمرحلة الجمهورية، وجاءت بالمرحلة الامبراطورية. وفي العهد الامبراطوري كان انتساب عبد الى الجيش يعتبر خطيئة كبرى. لكن الرومان جندوا العبيد كضرورة عسكرية في المرحلة التي تلت هزيمتهم النكراء في كانا Cannae أمام جيش هانيبعل القرطاجي. وجاء في الكتاب ان العالم الاسلامي من اسبانيا الى الهند الى جنوب الصحراء الافريقية استخدم العبيد في الجيش، والمقصود بذلك الموالي. وجاء أيضاً: على رغم ان الجيوش الاسلامية لم تتألف بالكامل من العبيد المجندين، إلا أنهم كانوا على العموم نخبة الجيش. ولا شك في ان هذا لا بد أن يعني ان وضع العبيد في العالم الاسلامي يختلف - من حيث الدرجة - عما كانت عليه الحال في العهود السابقة. ويناقش المؤلف موضوع المماليك المصريين بصفة خاصة، وهم العبيد الذين جيء بهم من وراء القفقاس، واعتنقوا الاسلام، وتدربوا على القتال لعدد من السنين قبل أن يصبحوا جنوداً ممتهنين على مدى الحياة مخلصين للسلطان. لكن المماليك يقدمون مثالاً صارخاً مناقضاً للفكرة السائدة التي تشكك في جدارة العبيد في الحروب. فهم، على النقيض، كانوا أشجع واكفأ قوة عسكرية قتالية، ولعبوا دوراً أساسياً في قهر الصليبيين والمغول. ففي عين جالوت في 1260م دحر المماليك المغول الذين لم تستطع قوة مسيحية او اسلامية أخرى الصمود أمامهم. ولا شك في ان الفرق بين المماليك والعبيد في الدول والعهود الأخرى يكمن في كون الأوائل يتمتعون بمزيد من الامتيازات التي يفتقر اليها حتى بعض الأحرار. ويفسر المؤلف هذه الظاهرة في قوله ان المملوك أو المولى أو العبد يمكن أن يكون أداة امتثالية طيعة بيد الحاكم، ويقوم بواجبه خير قيام، في حين لا يستطيع الحاكم فرض مثل هذه الحالة الامتثالية على أبناء جلدته من المواطنين. ويستشهد بقوله للخليفة المهدي العباسي بهذا الصدد، مفاده ان الخليفة يستطيع الاعتماد على المولى لأنه يمتثل لأوامره في كافة الأحوال. فبوسع الخليفة إذا كان في حضرة الجمهور، ان يدعو أحد الموالي للجلوس لصقه حتى تحتك ركبته بركبته. حتى إذا انصرف الجمهور يستطيع ان يأمره بالعناية بدابته. وسيفعل المولى ذلك عن طيبة خاطر. اما المواطن من أبناء جلدة الخليفة، فسيجادله ويذكّره بأنه ابن فلان، وأنه من أنصار دعوته، الخ... ومن الطبيعي ان الأول سيصبح مقاتلاً طيعاً أكثر من الثاني، لا سيما إذا تمتع بامتيازات. Slaves, Warfare, and Ideology in The Greek Historians By: Peter Hunt Cambridge University Press 1998 58429 - 9- 521 - ISBN