تقترب اكبر شبكة من الباحثين الزراعيين، الذين يقدمون خدمات الى المزارعين الفقراء في العالم، من تبني الهندسة الجينية سعياً الى تعزيز الثورة الخضراء التي زادت، على نحو درامي، المحاصيل الزراعية في الدول النامية في الستينات والسبعينات. وأشار المسؤولون في "المجموعة الاستشارية للأبحاث الزراعية الدولية" سي. جي. آي. اي. آر، التي عقدت لقاءاتها الدورية السنوية في واشنطن الاسبوع الماضي، الى ان مراكز الابحاث الپ16 التابعة لها على استعداد لتعزيز التعاون مع المصالح التجارية الزراعية التكنولوجية الضخمة - شرط ان تكون قواعد هذا التعاون منسجمة مع اهداف المجموعة الأولية وهي ضمان الأمن الغذائي لفقراء العالم. وقالت ماهندرا شاه، التي عملت سكرتيرة تنفيذية للجنة مراجعة الانظمة، التي تولت درس ما تقوم به المجموعة الدولية وما يمكن ان تساهم به في عصر البيوتكنولوجي الزراعي الجديد: "السؤال الأول الذي يطرحه الانتقال الى القرن الپ21 هو انه اذا كان الغذاء حقاً من حقوق الانسان، فيتعين ضمان توفير وسائل انتاجه لأننا اذا لم نفعل ذلك، فان العالم سيضم بين ثلاثة وخمسة بلايين نسمة من دون الوسائل التي تساعدهم في مجال انتاج الغذاء". وأضافت شاه ان مجموعة "سي جي آي اي آر" هي التي كانت مسؤولة عن اشعال الثورة الخضراء التي أدت الى مضاعفة الانتاج الغذائي، كما انها تلعب دوراً في غاية الأهمية". ويشعر العلماء بسعادة عارمة حيال التقدم الذي احرز اخيراً في مجال علم الاحياء الجزيئي، لأن من شأنه ان يتيح ادوات جديدة لتطوير مختلف انواع النبات التي تدر مقادير اكبر من المحاصيل وتتكيف مع اوضاع غير ملائمة للنمو، وهي الاوضاع والظروف الموجودة في عدد كبير من الدول النامية. لكن ثمة قلقاً من ان الهندسة الجينية تشكل خطراً على المزارعين الفقراء اذا تمكّنت الشركات الخاصة من تسجيل الرمز الجيني الخاص بنباتات كاملة باسمها الخاص او ادخلت جينات تجعل من المستحيل على المزارع الفقير استخدام البذور من النباتات لزرعها مرة اخرى. وصرح اسماعيل سراج الدين، نائب رئيس البنك الدولي المكلف شؤون التنمية المتواصلة والذي يرأس مجلس ادارة "سي جي آي اي آر" منذ 1994، في نهاية اللقاءات التي استمرت عشرة أيام، بأن المجموعة تعهدت بأن برامجها الخاصة بالتوليد لن تقدم بذوراً تحتوي جينات تحد من مقدرة المزارع على اعادة زرعها مرة اخرى، وان "مراكز الابحاث الزراعية الدولية لن تضمّن مواد التوليد التي تنتجها اية انظمة جينية ترمي الى الحؤول دون استنبات البذور". يذكر ان مجموعة "سي جي آي اي آر" تملك مجموعة كبيرة من المواد الجينية في بنوكها الخاصة بالبذور، والتي تضم نحو 600 الف مفردة. وتحرّم الاتفاقات التي تحكم عمل المجموعة على الشركات الخاصة اخذ جينة من هذه البنوك وتسجيلها باسمها كحق فكري من حقوقها. لكن ذلك لا يمنع الشركات من اخذ نبتة ولّدها مزارع فقير على مدى أجيال عدة وتعديلها عبر اضافة جينة واحدة اليها من ما قد يصل الى 50 الف جينة في اي نبتة ثم تسجيل هذه النبتة الجديدة كلها باسمها كحق فكري لها. واعتبر سراج الدين ان مجموعته "تحتاج الى البحث في الطرق الآيلة الى جعلها اكثر فاعلية لا انفعالية" في مواجهة هذا التسجيل للعمليات وللمنتجات الذي قال انه سبّب "بعض الامتعاض والمرارة من الشركات الزراعية الدولية الكبيرة في العالم النامي". وشكلت "سي جي آي اي آر" لجنة من الخبراء من داخلها ومن هيئات اخرى للنظر في المسائل العلمية الصعبة التي تواجهها، والمشاكل الخاصة بالتمويل والادارة. وترأس اللجنة موريس سترونغ، رجل الاعمال الكندي الذي يرأس ايضاً مؤسسة مجلس الأرض وبرز في الاعوام الاخيرة كمستشار للأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان ولرئيس البنك الدولي جيمس وولفنسون. وأوصت اللجنة بأن تستخدم مراكز الابحاث التابعة للمجموعة الميزات التي توفرها الثورة الزراعية البيوتكنولوجية الى اقصى حد، وبأن تجعل المجموعة موازنتها السنوية البالغة 350 مليون دولار، مستقرة عبر انشاء صندوق هبات يشبه صندوق الأممالمتحدة الذي يضم ما يُمنح للمؤسسة الدولية من هبات يستهدف اغنياء العالم الجدد وغيرهم. ونظراً الى ان مصادر المساعدات التنموية الرسمية تنضب، قال سراج الدين ان مجموعته ستضطر الى تنويع مصادر تمويلها. لكنه أضاف انها لن تقبل مالاً لقاء "اي ثمن او مقابل فنحن لن نقبل المشاركة اذا كانت تعني تحويل مجموعتنا الى مجموعة مقاولة او استشارية للقطاع الخاص". وتتوقع المجموعة ان تستخدم التقدم الاخير في تكنولوجيا المعلومات وسيلة لنقل التكنولوجيا الزراعية الجديدة الى المزارعين الفقراء الناشطين في اماكن نائية من العالم. ويدعم البنك الدولي ومنظمة الاغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، مجموعة "سي جي آي اي آر" التي تأسست عام 1971. وتتوزع مراكز الابحاث التابعة لها على اميركا اللاتينية وآسيا وافريقيا. ويقع احد هذه المراكز قرب مدينة حلب السورية باسم المركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة ايكاردا. تأسس مركز "ايكاردا" عام 1977 ليتولى تحسين القدرة الزراعية في الأراضي الهامشية في المناطق الجافة الواقعة بين المغرب وايران وباكستان، اي اكبر منطقة جافة متواصلة في العالم كله، على حد ما قال مدير المركز الحلبي. وأضاف عادل البلطجي، المدير العام لمركز ايكاردا لپ"الحياة": "تلوّن هذه المنطقة دائماً بلون احمر او زهري فاتح خفيف على الخرائط التي تضم الأراضي الفقيرة بالماء. ولهذا يركز برنامج ايكاردا الجديد، الذي سينفّذ حتى سنة 2010 اهتمامه على الفعالية في استخدام الماء في الزراعة. ونحاول في برنامج التوليد الذي ننفذه، التعبير عن محاصيلنا بالوحدة المائية التي تطلبتها بدلاً من الوحدة الأرضية. ولهذا يبحث المولّدون في المركز عن البذور التي تتحمل الجفاف والقحط والحرارات المرتفعة والتي يمكن تضمينها المنتجات التجارية. وفي الزراعة، نبحث عن الطرق الناجعة التي يمكن ان تستخدم في تجميع الماء وعن طرق اخرى لتحسين الفعالية في استخدام الماء بما في ذلك الري وتجميع الماء والاستخدام الجيد الملائم للمياه الجوفية الضحلة. وبات لدى مركز ايكاردا فريق جديد يعمل على تحسين فعالية استخدام الماء مؤلف من علماء يتعاونون مع الباحثين في الدول التي ينشط فيها المركز". وأشار البلطجي الى ان الباحثين في مركز "ايكاردا" ينظرون في مسألة تعزيز الجيوبلازما باستخدام أدوات حديثة تستخدم في علم الاحياء الجزيئي، بما في ذلك الهندسة الجينية، وذلك لانتاج نباتات تتكيف مع الحرارات المرتفعة او نباتات تستطيع استخدام الماء على نحو اكثر فعالية. ولدى "ايكاردا" بنك من الجينات يضم اكثر من 117 الف خلية تناسلية جديدة. وتضم هذه الخلايا عيّنات جُمّعت من الشرق الادنى الذي كان منشأ 40 في المئة من النباتات الغذائية المعروفة في العالم. وتم تطوير هذه الخلايا العينات على نحو منتظم عبر استخدام التقييم المرفولوجي الزراعي، والطرق المستخدمة في الكيمياء الاحيائية ومادة دي ان اي. ويقدم المركز اكثر من 30 الف عينة من هذه المجموعة سنوياً بناء على طلب من الباحثين في العالم. ومما أنجزه مركز "ايكاردا" توليد انواع جديدة من قمح الخبز والقمح القاسي ما ساهم في جعل سورية مكتفية ذاتياً بالقمح، عام 1991، للمرة الأولى منذ الخمسينات. ومعلوم ان انتاج سورية من القمح تضاعف تقريباً منذ 1989 بفضل نباتات مولّدة جديدة وتحسين تكنولوجيا الانتاج ما ادى الى زيادة الدخل القومي بنحو 540 مليون دولار سنوياً. وبالتعاون مع الباحثين المصريين، اكتشف مركز "ايكاردا" في الثمانينات فولاً يقاوم البقع السوداء ونبتة طفيلية تدعى "اوروبنش". وساهم استخدام هذه الفولة في زيادة انتاج فول الفابا الذي زاد على حاجة السكان في مصر وسورية الى هذه النبتة الغذائية الأساسية، كما خفّض استخدام مبيدات الحشرات والفطريات، ما قلّل ايضاً من تلوث البيئة. وساهم برنامج ابحاث في المغرب في تعيين مصادر المقاومة لذبابة "هسيان" دودة القمح التي كانت تقضي على محصول القمح كله تقريباً في شمال افريقيا مطلع التسعينات. يذكر ان لمركز "ايكاردا" مكاتب اقليمية في كل من لبنان ومصر وتونس والمغرب والأردن والامارات واليمن وتركيا وايران والمكسيك. وقال البلطجي ان مركز "ايكاردا" ومجموعة "سي جي آي اي آر" يسعيان الى تعزيز اواصر المشاركة بينهما وبين مراكز الابحاث في الدول المشاركة فيهما ومع المنظمات غير الحكومية في العالم.