هل سبق لك أن سمعت عن مصطلح يقال له «إجهاد النبات»؟ أو هل صادفت يوما في مطالعاتك السريعة والخاطفة لهذا الكتاب أو تلك الصحيفة أو ذاك الموقع مفهوما أو دراسة تسمى «بحث جينومي» أو عبارات مثل «الزيروفيتات والهالوفيتات»؟. فربما لا تكون تلك المصطلحات والعبارات والمسميات مألوفة، وربما أيضا هي ليست مهمة بالقدر الذي يدفعك للبحث ومعرفة علاقة هذه المفاهيم أو الكلمات بحياتك اليومية؟!، صحيح أنه قد يبدو الحديث عن مثل هذه المصطلحات الغريبة مهما للمتخصصين في ميدان النباتات والزراعة فحسب، لكنه أمر غير مستبعد لو وجدت نفسك، اليوم، مرغما على معرفة المزيد عن هذه «التوصيفات»، بخاصة إذا تسرب إلى علمك أن المسألة تتعلق بوجود خطر يتهدد مصادر غذائك الأساسي وبالذات «القمح» الذي يصنع منه ذلك الخبز الموصوف ب «قوت الفقراء والأغنياء». ففي بلد شاسع المساحات الزراعية مثل المملكة العربية السعودية التي يعد القمح فيها مصدرا أوليا للكثير من وجبات السكان الرئيسية بجانب الخبز، تبرز مشكلة تدني نسبة الأراضي الصالحة للزراعة إما لشدة ملوحة التربة أو لعدم توفر المياه، والتي لا تصل إلى نسبة 2 في المائة من إجمالي أراضي البلاد، وهي نسبة غاية في الانخفاض على مستوى العالم. لكن مدير مركز أبحاث تقنية إجهاد النبات الجينومي في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية الدكتور جيان كانج تشو يقود حاليا البحث الرائد في استجابة هرمون الإجهاد النباتي، وهو المشروع الذي حقق نجاحا كبيرا على يد تشو وزملائه بما فيهم باحثو «كاوست» مثل هيرواكي فوجي وفيسواناثان تشونوسارني. حيث توصل البحث إلى نتائج عظيمة تتركز في إمكانية تحمل النباتات والمحاصيل الزراعية لكل الظروف في البيئات الطبيعية متفاوتة الاختلاف. وسيكون لهذا البحث الرائد تأثيرا كبيرا في زيادة إنتاجية الطعام ووفرة المياه العذبة في جميع أنحاء العالم، حيث إنه سيمكن المزارعين من تقليل المياه المستخدمة في سقيا الزرع. قدرة تحمل المحاصيل وكانت مجلة «الطبيعة»، وهي مجلة عالمية علمية متخصصة ناقشت في عددها الثالث الصادر في ديسمبر الماضي البحث عبر مقالتين مختلفتين تطرقت كلاهما للهدف الرئيسي للمشروع، وهو التعمق في فهم طريقة تكيف النبات مع الجفاف على مستوى تركيبه الجزيئي. هذا الفهم كان ضروريا لتحسين قدرة تحمل المحاصيل الزراعية للجفاف عن طريق الهندسة الجينية أو التكاثر المحفز. كما تضمنت نتائج البحث تحسين المعرفة بكيفية تلقي النباتات لهرمون الإى بي إى، وكيفية تفاعل النبات معه. هذه المعرفة ستحسن من تحمل المحاصيل الزراعية للجفاف وعوامل الإجهاد الأخرى، مما سيؤثر بطريقة فعلية في زيادة إنتاجية الطعام وتوفر المياه العذبة. وكانت معلومات إحصائية صادرة في العام 1998 كشفت أن نسبة الأرض الصالحة للفلاحة وزراعة المحاصيل الدائمة في السعودية 1.8 في المائة فقط! من إجمالي أراضي السعودية، مقارنة بنسبة 8 في المائة في سائر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و11.3 في المائة في أنحاء العالم الأخرى. وهذا ما دفع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية إلى إنشاء مركز متخصص في الأبحاث الجينومية – الوراثية وعلاقتها بإجهاد النبات، تتحدد مهمته في «دراسة الآليات التي يستطيع النبات بواسطتها تحمل الملح وظروف القحط، ومن ثم العمل على زيادة فهم هذه الآليات من أجل رفع النسبة المئوية لمجموع الأراضي الصالحة للزراعة وأراضي المحاصيل الدائمة». وطبقا للباحث في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية أستاذ قسم علوم النبات في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة نيكولاس بول هاربرد، فإن القمح، أحد المحاصيل الغذائية الرئيسية في العالم، قد «أصبح، حديثا، محصولا زراعيا مهما في المملكة العربية السعودية، غير أنه في الوقت الذي تتعين فيه ضرورة زيادة إنتاج القمح، باستمرار، في السعودية والمنطقة والعالم، لسد حاجة الأعداد المتزايدة من السكان للطعام محليا وعالميا، فإن هذه الزيادة ستظل مرهونة أو مقيدة بمقدار الأرض الصالحة للزراعة والآثار المدمرة الناتجة عن إجهاد البيئة». هذه الاستنتاجات لم يتوصل إليها هاربرد دون أدلة، فها هو يقدم شاهدا حيا على دقة نتائجه، يتمثل هذا الدليل بما يعرف ويسمى في واقع زراعة النبات ب «القمح الحديث المستخدم في صناعة الخبز»، لأن هذا النوع من القمح، حسب الباحث، «إلى حد ما، لا يتحمل ظروف التربة الأقل من المثالية، وخصوصا ملوحة التربة، وعلى النقيض من ذلك، فإن السلالات البرية من فصيلة القمح تحتوي عوامل وراثية متنوعة تعطيها القدرة على تحمل الملوحة». سلالات القمح في هذا السياق، يقترح هاربرد استخدام أحدث علوم العوامل الوراثية لتحديد طبيعة هذا التنوع داخل هذه العوامل الوراثية، بهدف تيسير استخدامها في تطوير سلالة من قمح الخبز تتحمل الملوحة. ويضيف الخبير نيكولاس بول هاربرد صاحب كتاب العلوم «من البذرة إلى البذرة: الحياة السرية للنبات»، الذي حقق رواجا كبيرا بنيله أفضل المبيعات، قائلا إن قمح الخبز الحديث «ينحدر من سلالات برية، ومع ذلك لا يتمتع إلا بجزء ضئيل من التنوع الجيني الموجود في السلالات الطبيعية المنحدر منها، ولذا فإننا نقترح اكتشاف طبيعة ومدى التنوع الجيني في السلالات الطبيعية التي انحدر منها قمح الخبز». لافتا إلى أنهم، في جامعة الملك عبد الله، سوف يقومون أولا «بتحديد تسلسل تشفير البروتين الكامل لجينومات السلالة التي انحدر منها القمح الحالي»، وبعد ذلك «سنعيد ترتيب شفرة البروتين لبعض أصناف القمح الإضافية المختارة، وسيساعد اكتشاف اختلافات الترتيب «على سبيل المثال اختلاف أزواج قاعدة الحمض النووي المعروف بتعدد أشكال الوحدة البنيوية الأساسية المفردة للأحماض النووية»، سيساعدنا ذلك في كشف مدى التنوع الجيني داخل السلالات، ومن ثم يمكننا من تقدير طبيعة وعدد مرات تكرار هذا التنوع». وينتهي العالم الخبير بأسرار النبات، إلى أنه «في حال التوصل إلى فهم تركيب التنوع الجيني في السلالات التي انحدر منها قمح الخبز، سوف نحصل على مصدر جديد للعوامل المورثة لتطوير أنواع من قمح الخبز التي تتكيف للنمو في بيئات عالية الملوحة أو عالية الإجهاد في الزراعة في المملكة العربية السعودية والمنطقة والعالم». مركز أبحاث متقدم تجيء هذه المعلومات والخلاصات والنتائج العلمية البحثية المهمة في ظل نجاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في استقطاب عدد من أبرز الباحثين والأساتذة الأكاديميين حول العالم للعمل في «مركز الأبحاث الجينومية والتقنية لعوامل الإجهاد في النبات»، الذي استحدثته الجامعة كجزء رئيس وهام من مجالات عملها كمؤسسة علمية جديدة وعالمية للأبحاث، ويأتي في مقدمة هؤلاء الباحثين خبير البيولوجيا الجزيئية وفسيولوجيا النبات الدكتور جيان كانغ تشو الذي تم تعيينه، إلى جانب عمله كأستاذ في الجامعة، مديرا لهذا المركز البحثي المتقدم بأهدافه الكبيرة، يقول الخبير الصيني: «إن أكثر العوامل اللا أحيائية أهمية في البيئة والتي تحد من إنتاجية المحاصيل، هي توافر المياه والتركيزات العالية للملح». مشيرا إلى أن هذين العاملين «لا يستبعد أحدهما الآخر، فمستويات الملح في التربة تقيد امتصاص المياه». لا يكتفي كانغ تشو بهذا، بل يؤكد على أهمية الأبحاث التي يقدمها المركز الذي يرأسه، مستشهدا على ذلك بإمكانية إيجاد حلول لدولة مثل المملكة العربية السعودية تعاني مشكلة تدني نسبة الأراضي الصالحة للزراعة، لافتا إلى أن الآليات التي يستطيع النبات بواسطتها تحمل الملح وظروف القحط «ليست مفصلة جيدا لدى العلماء عن جميع مناطق العالم، لكنه في حالة زيادة فهم هذه الآليات، يمكن مد زراعة المحاصيل لتشمل الأراضي غير المنتجة باستخدام كميات منخفضة من المياه». الأهداف الرئيسة للمركز يلخص الدكتور جيان كانغ تشو هذه الأهداف ب «تطوير فهمنا للآليات الجزيئية الكامنة وراء تحمل النبات ظروف الإجهاد بسبب القحط والملوحة، فضلا عن تطوير التقنيات لتحسين قدرة النباتات المحصولية على تحمل هذا القحط وتلك الملوحة». أما على المدى الطويل، ووفقا لتشو ذاته، فسوف يسعى المركز إلى تحسين الأمن الغذائي في المملكة العربية السعودية والعالم عن طريق تحقيق الاستقرار لغلة المحاصيل تحت ظروف معاكسة، إلى جانب مد أراضي زراعة المحاصيل إلى الأراضي غير المنتجة، وحماية البيئة عن طريق تقليل استهلاك المياه العذبة في الزراعة. وشدد خبير فسيولوجيا النبات والبيولوجيا الجزيئية على أن مركز الأبحاث الجينومية والتقنية لعوامل الإجهاد في النبات، سيكثف جهوده بالتركيز على «تحديد جينات تحمل القحط والملوحة وتفاعلاتهما البيوكيميائية في النباتات التي تتحمل القحط أو الملوحة بطبيعتها»، مثل الزيروفيتات أو نباتات وردة أريحا، والهالوفيتات، وكذلك النباتات النموذجية مثل: «الأرابيدوبسيس والأرز». وأشار جيان كانغ إلى أن المركز يخطط من أجل استخدام «تقنيات التسلسل من الجيل التالي ومطيافية الكتلة المتقدمة لتحديد خواص الجينومات، والإيبوجينومات، والترانسكريبتومات، والأحماض النووية الريبوية الصغيرة، والبروتيومات، والميتابولومات لمجموعة مختارة من نباتات الزيروفيتات، والهالوفيتات، ونباتات وردة أريحا». مضيفا بأن الباحثين سيقومون باختبار لجينات «تحمل الاجهاد التي يتم التعرف عليها في المحاصيل «ونبات الأرابيدوبسيس»، وسيجرون دراسات على عيناتها بالتعاون مع مراكز أبحاث في مؤسسات دولية أخرى». الأبحاث والتخصصات أما البحوث التي تجري في هذا المركز، فإنها تركز على الدراسات الأساسية والتطبيقية في اكتشاف الجينات من النباتات النموذجية، مثل: الأرابيدوبسيس، والأرز، والبراكيبوديام والميديكاغو ترانكاتولا، بجانب الإكستريموفيلس. وبحسب الدكتور جيان كانغ تشو، فإنه سيتم «دمج وتطبيق الطرق الجينية، والبيولوجية الجزيئية، والبيولوجية الخلوية، والكيميائية البيولوجية، والفسيولوجية، والجينومية والمعلوماتية لاكتساب فهم عميق لوظيفة وشبكات الجينات في النباتات النموذجية في ظروف الإجهاد».