«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ روائي الأدب العربي
نشر في الحياة يوم 05 - 11 - 1998

في فيلم مصري لم أعد أذكر اسمه، إذ قد انقضى ما يقرب من ثلاثين عاماً على مشاهدتي له، يدخل بائع صحف جوال الى مقهى شعبي منادياً: أهرام، أخبار، جمهورية. كان مروره سريعاً بين الطاولات، وقصيراً أيضاً، إذ لم يُدخله صانعو الفيلم الى المشهد إلا من ضمن اقحامات أخرى لتوليد الانطباع بالزحمة والفوضى. لم يقف عند أي من الطاولات وهو بدا، في ما نحن نشاهده، كأنه سيدخل الى مقهى آخر ملاصق ليخرج منه بعد ذلك، محافظاً على سرعته ذاتها. لكنه كان قد ترك شيئاً هناك في المقهى جعلني، أنا ابن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، اختص بسماعه من دون أهلي المتحلّقين مثلي حول التلفزيون. بعد أن نادى معلناً عن الصحف الثلاث التي معه، سمى مؤلفين كان لهم في جعبته كتب أيضاً. من بين هؤلاء كان اسم نجيب محفوظ. وذلك ما أدهشني، أنا الذي كنت قد قرأت لمحفوظ ثلاثة كتب أو أربعة حتى حينه.
كانت الأسماء الأخرى، في ظنّي، مجافية لإسم محفوظ ومختلفة عنه. كانت أسماء متفقة في ما بينها منسجمة، في ما كتب أحسب أيضاً، وكان بينها طه حسين وتوفيق الحكيم وربما مصطفى لطفي المنفلوطي. الآن أعرف ان ما اعتقدته من اتفاق بين هذه الأسماء الثلاثة كان خطأ صرفاً، لكننا، ونحن صغار، تكون لنا معاييرنا في تصنيف الكتّاب أو في جمعهم وتفريقهم. لنا، تلاميذ المدارس آنذاك، كان لإسم طه حسين عبق قديم تؤكد قدمَهُ صورتُهُ القديمة المنشورة في كتبنا، فوق نصوصه. أما المنفلوطي فلا تشبه صورته التي تبديه مرتدياً ثياب المشايخ إلا نصَّه. وتوفيق الحكيم أيضاً كنا نعتبره أثراً باقياً من أدب فات وتخلّف زمنه.
كان علينا أن نكبر حتى نفاجأ بأن أدب هؤلاء الثلاثة أحدث ما يشبه أن يكون اندفاعات ثورية في الأدب العربي، وكل على طريقته طبعاً. لكن ما يهمنا هنا هو نجيب محفوظ المنفصل عنهم بجدته، أي بكونه لم يصبح ماضياً بعد، والمتصل بهم مع ذلك، ككاتب انضم الى اعلام الكتاب أو الى تاريخهم. المقهى الذي نقله الفيلم المصري ذاك، المقهى القديم، هو حافظ إرث مصر ولن يُذكر فيه شيء أو يظهر فيه شيء إلا بعد أن يكون قِدَمُهُ قد أهَّله لذلك. ينبغي للشيء أن يكون من ميراث أهل سابقين ليصحّ له أن يشيع بين رواد المقهى المصري ذاك. نجيب محفوظ كان في خمسينه آنذاك، لكن ليس هذا ما كان يمكن أن يُدهش، إذ كانت الخمسين، بالنسبة لنا أيضاً، عمر البشر العتيقين. ما أدهشني هو إقبالي آنذاك على كتب محفوظ وقراءتي فيها لما يجري "الآن"، ليس في الأدب فقط، لكن في الحياة أيضاً.
هكذا كان نجيب محفوظ، في ذكر الصحف له، اسماً قديماً لرجل جديد، أو أنه استحق أن يكون قديماً في ذلك المقهى الذي يبدو كأنه قلعة محصّنة ضد دخول العارض أو المستجدّ. بعد نيله جائزة نوبل وُزعت له لوحة تشكيلية رسمها، في ما أحسب، الفنان المصري صلاح عناني يبدو فيها محفوظ جالساً على كرسي وحوله، أي فوقه وعلى جانبيه، انتشرت مصر القديمة ذاتُها، تلك التي شاهدناها في المقهى الآنف وصفه. وجوه وأجسام ملأت المشهد مؤديّة ما يشبه أن يكون عرضاً من الحياة الشعبية. أما محفوظ الجالس بينها، وان متقدماً عنها قليلاً، فوحده يرتدي ثياب الأستاذ: البدلة وربطة العنق وما يستتبعهما. نجيب محفوظ، المندمج بالكتلة والمقيم في المكان الواحد معها، سمحت له الكتلةُ بأن يتميّز عنها وهي أحبّت منه ذلك، كأنها هي التي أرسلته رسولاً من عندها الى مجتمع الأساتذة. وهي غَبَطَتْهُ لتمكّنه من الوصول الى هناك، هكذا، شأن عائلة علّمت ابنها لترفعه الى حال أعلى من الحال الذي هي فيه، أي ليتغيّر عنها، ويظل هو ابنها برغم ذلك.
هذه المسافة بين محفوظ وأهل المقاهي القديمة والحارات نستطيع الاهتداء الى حدّها، أو الى مداها وطولها، من الثلاثية التي تردّد انها سيرة شخصية عائلية لنجيب محفوظ وأسرته. لم يستطع الشاب كمال، وهو صغير العائلة، أن يكون مثل الذين أوصلته المدارس الى رفقتهم. في المنتزه الذي دُعي اليه ليتغدى مع رفاقه، وبينهم أبناء باشوات، أحسّ أنه كشف عن انتمائه للمجتمع الآخر، مجتمع الحارات والأحياء، من لحظة ما فتح حافظته وأخرج الأكل الاحتفاليّ الذي أعدته له أمه، أمينة، للمناسبة. كانت الفرختان قد حشيتا بالأرز والصنوبر وقُليتا بالسمن. بنت الباشا، رفيقته، ومحبوبته من طرف واحد فقط هو طرفه طبعاً، جعلت تضحك إذ رأت ذلك، هي التي تعرف أن في مناسبات كهذه يجب أن يُكتفى بسندويشات الروز بيف والجبنة وما إليهما.
أما الشخصيات الأخرى في الثلاثية فتدلّ على هذا الموقع للعائلة. فهمي، الأخ الذي قُتل في التظاهرة كان قد اصطفى نفسه من بيئته، وهو بعد يافع طريّ العود، لينافح عنها بأفكار التقدم والتحرّر. لكن ياسين، الأخ الأكبر، كان في الموقع الاجتماعي ذاته لأخيه كمال لكنه، بدلاً من أن يتطلّع الى الأعلى، شأن كمال هذا، آثر أن يحصر اهتمامه بالأسفل، حيث يسهل له اللعب هناك والغواية ومطاردة النساء. إنهم في المنطقة الوسطى بين الأهل ومن هم هناك فوق الأهل. لكن هذه المنطقة التي نقلهم اليها اليسرُ المادي الذي بلغته تجارة الوالد، أحمد عبدالجواد، كانت رجراجة زلقة والإقامة فيها خطرة ومؤلمة. فهمي، الإبن الأوسط، قُتل مرمياً بالرصاص في نهاية "بين القصرين"، جزء الثلاثية الأول، وكمال عاش في ما يشبه أن يكون انكسار طموحه وهزيمته، أما ياسين، الذي ارتضى أن ينظر الى الأسفل لا إلى الأعلى، ففشل هو أيضاً إذ لم يبق من ولعه بالنساء إلا مصادفات وذكريات خائبة.
وهذا كان حال أبطال آخرين في روايات نجيب محفوظ الأخرى. المأساة المحفوظية أو الدراما المحفوظية تبدأ منذ أن يتحرّك المقيم في بيئته باتجاه الخروج منها: حميدة في زقاق المدق، الأخت في بداية ونهاية... يصير المرء، أو المرأة، ضعيفاً هشاً قابلاً للإصابة منذ أن يبدأ رحلة خروجه، التي قد تتخذ أشكالاً متعددة، من بيته. إنهم هشّون ضعاف والقويّ بينهم مثل هرم هو أحمد عبدالجواد، ذاك الذي جعله يُسْر حاله يوسع عيشه لكن من ضمن ما تتيحه البيئة تلك لرجالها وليس لنسائهم أو لأولادهم، لأسيادها وليس لضعاف النفوس فيها.
في الثلاثية تابع نجيب محفوظ سيرة العائلة تلك فكان مجرّد انقضاء الزمن المؤدي الى اختلاف الأحوال باعثاً على الحنين والألم. لا أجمل من حال الأسرة الأول، في القسم الأعظم من "بين القصرين"، حين كانت العائلة صغيرة وما تزال بعدُ في هناءة عيشها. آنذاك، عند ابتداء الروايات، يكون العالم كأنه لم يتحوّل عن شيء سبقه، أي لا أثر فيه للحنين والفوات. أكثر شخصيات نجيب محفوظ تنتهي الى أتعس النهايات، أقول تنتهي إذ ما دور الرواية إن لم يكن إنهاء شيء كان مبتدئاً، ما دور الرواية إن لم يكن تعريض البشر للتحوّل، المكاني أو الزماني أو الشخصي أو الأخلاقي، وإغراقهم فيه؟
أحسب أن أكثر ما يبقى من نجيب محفوظ في من أتى بعده من الكتاب هو بذرة الدراما تلك أو جرثومتها كما أحبّ أبو تمام أن يسمّي البذرة الفاعلة في الشيء والصانعة له، تلك التي في ما يتعلّق بي، شكلت ريحي الأدبي الأول، أو حزني الأدبية الأولى، ذلك الانكسار الحتمي البطيء للشخصيات الذاهبة الى مصائرها، هو ما أسَّس فيّ ما يمكن أن أعتبره النظرة الروائية الى الحياة. من الثلاثية أذكر تماماً صفحات احتضار أحمد عبدالجواد الطويلة. الآن، بعد أن كبرت عقوداً على قراءتي لذلك، يحلو لي أن أفكر أن نجيب محفوظ أدرك، فيما هو يكتب هذه الصفحات، أنه اهتدى الى الموضع الذي يمكنه فيه أن يكون أكثر تجلّياً وإيلاماً في الوقت نفسه. أدرك انه، في وصفه لاحتضار أحمد عبدالجواد، يستطيع أن يفتح الأبواب ويشرعها لرياح الحنين والكبر والموت وذهاب الأزمنة. بين ما قرأته من روايات لا أحسب أن شيئاً ترك فيّ أثراً بهذا العمق أستطيع أن ألمسه في نفسي وأعرفه.
أي أن نجيب محفوظ أخذني الى معنى الرواية، وهذا حصل في الأدب العربي. كنت بالطبع قد أسلمت نفسي الأمواج العنيفة تأتيني من قراءات مترجمة لبؤساء فكتور هيغو وجين إيير لشارلوت برونتي ولرواية غادة الكاميليا التي أوصلتني الى البكاء الحقيقي. لكن يبقى أن محفوظ كان آتياً من الأدب العربي، من اللغة التي، حين عدت اليها مستعيداً بعضاً من مطالع كتب محفوظ، رأيت كم أنها حاضرة بنَفَسها القديم ذاك. لغة نجيب محفوظ، عبارته، لم تبتعد ذلك البعد القاطع عن البيان المسجدي أو عن التلاوات الدينية التي يردّدها أهل الحارات في مصر بوصفها لغة ثقافتهم التي تتخلّل اجتماعهم ومعيشهم اليومي. ثم ان الثقافة نفسها، السرد نفسه، ومحيط السرد وبيئته، أساليبه وتقنياته، مشدودة كلها عند محفوظ الى محافظة ما. كأن كتابة الرواية هي وصف ما جرى بلسان راوٍ عاقل. بحسب ما اعتقد نجيب محفوظ في رواياته التي سبقت "الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل"، ليست الفنية هي ما يصنع الرواية بل التمكن. أقصد الفنية هنا بالمعنى الذي ذكره الشاعر العربي حين قال "هويّ" الريح تنسج كل فن. الزمن في الرواية ينبغي له أن يجري جرياناً عاقلاً لا تقافز أو تسابق بين أجزائه.
أما الشخصيات فلا ينبغي لها أن تبتعد في أهوائها وأمزجتها عن الحد والمتّفق الاجتماعيين. أحمد عبدالجواد، وهنا أجدني ما زلت عالقاً بالثلاثية دون سواها، لم يذهب في لهوه الليلي الى الحد الذي ينقص من هيبته ورجوليته في النهار. هذا لهو أتاحته له معايير مجتمعه. أي أن ذلك، على تطرفه ومجونه، ليس فساداً ولن يكون كذلك ما دام أنه حقٌّ لفاعله ومنحة له من مجتمعه.
إنه لهو ممسوك بالعقل ووصفه بتفاصيله لا يُخرج الرواية عن محافظتها. كأن الأمكنة التي ينقّل نجيب محفوظ بينها أبطاله قوية الوجود في المجتمع المصري ولا تتيح لقوتها، إلا وصفها. ليست أمكنة للاستيهام والتخييل أو لإعادة التشكيل الفانتازي. إن الفانتازيا والاستيهام قائمان في الوجود الواقعي لتلك الأمكنة. من قبيل ذلك الاختلاف الشديد بين الليل والنهار أو بين حياة الليل وحياة النهار، من قبيل ذلك أيضاً العوامات على النيل، قطع الأمكنة تلك الموصولة بالضفة، أي باليابسة، لكن المفصولة عنها كأنها عوالم خيال مُبحرة. الاستيهام والتخييل والفانتازيا لا يصنعها الكاتب. ليس عليه أن "يتفنن" في صنعها، فهي موجودة مثل عمائر موروثة وإن ما زالت قائمة تعمل.
ربما نقول إن الكتابة هنا تبدو أعقل من الواقع الذي تقاربه وأقلّ مغالاة. نجيب محفوظ أهدأُ من بطله أحمد عبدالجواد وأكثر تعقّلاً. أقصد أن هذا الأخير ذهب في عيشه الى الحد الذي لم يبلغه الأول في كتابته. أقصد، أيضاً، أن نجيب محفوظ كان، فيما هو يروي، أحكم من شخصياته جميعاً. كأنه كان يراقبهم ذاهبين قاصدين الى مصائرهم فيما هو محصّن من أي حدثان. هو ابن العائلة العاقل ما دام أنه يصف فقط ويروي، إنه الروائي الذي لم يترك لنفسه حتى حريّة أن يشاهد بعينيه الخاصتين شيئاً يصعب أن يشاهده سواه. وقد تراءت لي شهوة ياسين نحو النساء غريبة التفاصيل أحياناً إذ بدا نجيب محفوظ كأنه يلجأ الى منطق كتابة آخر حين راح يعيّن شحمة الأذن مصدراً للشهوة. كأن محفوظ سمى لنا تفصيلاً ليس من تفاصيله. أو كأنه هذه المرة، كان هو، كان نفسه، بقدر يفيض عما ألفناه من سمته العام.
نجيب محفوظ هو ابن الحارة المصرية الوفيّ لها، ليس في أخذه شخصياته منها فقط لكن أيضاً في تفكيره بعقلها وفي التعبير عن ذلك بلغتها. توفيق الحكيم لم يُخف انخطافه وخلابته بالثقافة الأوروبية. في أحد كتب مذكراته، ربما كان زهرة العمر، قال كيف تخيل، حين رُفع نعش أبيه على الأكتاف، مشهد أبي هاملت المهيب. في روايته "عصفور من الشرق" كان كأنه يكتب نسخة ثانية، غير معرّبة تماماً، من "آلام فرتر" لغوته.
أما كتابه يوميات نائب في الأرياف فلا حاجة بنا للذهاب أبعد من روايته، هو النائب المقيم بين أهل البلد، لنرى بأي عين يُشاهد هؤلاء.
إنها المسافة الثقافية تفصل بين الكاتب ومجتمع الأرياف أو مجتمع الحارات المصري. منذ عودة رفاعة الطهطاوي مع بعثته من باريس مفتوناً في الثلث الأول من القرن الماضي بدا كما لو أن فراغاً أو خلاء حدث في الثقافة المصرية يجب أن يُملأ من معين تلك الثقافة الأخرى. أو بدا أن التزّين والتزيين ينبغي أن يستوردا من هناك وليس من التاريخ الكتابي العربي، ذلك الذي لم تكن المدارس ومراكز التعليم الديني تعرف سواه. لم يعد المداد قائماً في الأصول وها هو مصطفى لطفي المنفلوطي، فيما هو يترجم أو يعرّب كتاب "ماجدولين" الى تحت ظلال الزيزيفون يلقى من قرائه تعاطفاً كان منقطع النظير الى حدٍّ جعل من الناقد زكي نجيب يصف تلك المرحلة بكونها مرحلة الأحزان المنفلوطية.
أما رواية زينب، وهي الرواية العربية الأولى، فقد كُتبت، بحسب ما أشار محمد حسين هيكل في مقدمته لها، بين باريس وجنيف وربما مكان ثالث أغفله الآن وهن الذاكرة. كان هيكل، المستذكر بلده من مطارح عيشه الأوروبية، يترجم مشهداً من هناك الى مشهد هنا، وهذا ما قاله أيضاً في أثناء ما كان يخرج الى الطبيعة، شأن رسّام، علّها يعين على تذكّره ريف بلده وَعِزَبِه.
وهذه الموجة العالية ما زال مدُّها مرتفعاً الى الآن. بات من المعلوم أن استلهام التراث لكتابة الرواية لا يشكل الآن إلا رافداً في مجرى الرواية العربية. وعن مبعث هذا الرافد، أو منبعه، أو سببه، ربما يقول قائلون أنه وليد الرغبة بإدارة الوجه نحو جهة أخرى. أي أن ما أثار هذا الاتجاه "التراثي" الاحتجاج ضد الارتفاع المتزايد لتلك الموجة.
هذا وأنني لا أشتمّ أثر بلزاك الذي قيل أنه كان أحد مناهل نجيب محفوظ، أي أنني، فيما أقرأ نجيب محفوظ، لا أجدني مهتدياً أو باحثاً عن مصدر محفوظ الغربي. لم يبد لي، مثلما ذكرت أعلاه، أنه سعى الى الفن وأيضاً بالمعنى الذي ذكرته أعلاه، الفن الذي هو اسم للخلابة والانخطاف. كأنه، نجيب محفوظ، ينتمي الى عصر من عصور الأدب العربي تالٍ لتعاقب العصور الأدبية الذي علمتنا إياه المدارس إذ كانت تقول: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، العصر الأموي، العصر العباسي إلخ...
كأن نجيب محفوظ ينتمي الى عصر أدبي عربي. ولقراء أدب هذه العصور يبدو روائيّنا كأنه مفتتح هذا العصر ومبتدئه. ذاك انه اندفع، في نوع كتابته وفي كمِّها أيضاً، اندفاع من يفتتح عصراً، أو من يكمل عصوراً. في اللوحة التي رسمها له صلاح عناني كان نجيب محفوظ محاطاً بالرجال المرتدين، ما زالوا، الثياب البلدية الأهلية. وهو بينهم جالس على "الكرسي" والكرسي تحتاج الى مزدوجين هنا لتدلّ على أحقيّة الموقع لصاحبه، التي ركزوها هم له. "أقعد... أقعد يا أستاذ..." جعلوا يقولون له هو الأستاذ فيما هم ينفضون الغبار عن الكرسي بأطراف أكمامهم. تلك مكافأتهم له لبقائه بينهم فيما الكتابة تقتضي أن يخرج الكاتب وأن يبتعد.
"أهرام... أخبار... جمهورية" كان يقول بائع الصحف في الفيلم المصري، أو في الفيلم العربي كما يقول، أو كما كان يقول، المشاهدون في سائر البلدان العربية. مع مناداته هذه، ذكر البائع الجوال أسماء بينها اسم نجيب محفوظ. عجبت آنذاك، وأنا في صف البكالوريا، من انتساب نجيب محفوظ، الحديث، الى ذلك القِدَم. طه حسين وتوفيق الحكيم كانا يبدوان لي، آنذاك، قديمين ومثلهما طبعاً مصطفى لطفي المنفلوطي. كان ذلك خطلاً مني أو سوء معرفة إذ أنهم، بالمعايير التي هي وسائل قياسنا الآن، حديثون لا قديمون. كما أنني، في الوقت نفسه، أحسب أنني اعتمدت على وسيلة قياس غير معتمدة هي الأخرى في قولي عن نجيب محفوظ أنه هو المحلي، بما قد يُفهم منه أنه هو القديم.
لكن يبقى هناك الأمر المتصل بالحدس، لا بالنقد. في عمري ذاك، السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وهو العمر الذي يجري فيه تصنيف الأشياء وردّها الى أزمنتها بحساسية انتباه مفرطة، في عمري ذاك كان نجيب محفوظ هو المعاصر الجديد بالنسبة لي. أي أنه كان ينتمي اليّ وليس الى أجيال، أو الى ثقافة أجيال، كانت قبلي. هل يتعلق ذلك بلغته؟ بوضوح نصه؟ بمنطق قصّه؟ لم أكن قادراً على طرق تلك التفاصيل آنذاك. لكنني الآن أدرك أنني، إذ كنت أقرأ رواياته، كنت أعبر على اللغة عبوري على جسر موصل الى ما بعده. ما فعله نجيب محفوظ في الأدب العربي هو تقدم البشر على اللغة وطلوعهم منها. النصوص الصرفة هي التي تغري بتصنيفها زمنياً أو هي تعيدنا الى الزمن الذي يلائمها، النصوص التي هي حقاً أصداء أزمنة. كنا نقرأ جملة للمنفلوطي فنقول أنها كتابة ناس قديمين، هكذا من الجملة وحدها. نجيب محفوظ، وليس هذا من باب الإطناب في المديح، جدّد الكتابة بنقل البشر إليها، أحياء مملوئين بالحياة الحارة والراهنة.
وبدلاً من أن تحل الكتابة في بيت شعر مأثور، أو في عبارة بديعة طارت شهرتها، أو في موقف وطني سطّرته قصيدة، بتنا نشاهد أحياء وبيوتاً ونساء ورجالاً ونوازع وشهوات وحيوات حميمية... وبشراً عاديين كانت الغفلة ستطويهم طياً تاماً لولا نجيب محفوظ. من أين كان لأمينة مثلاً، أو لابنتها خديجة وعائشة، أو لحميدة في زقاق الدق، أو من أين كان لسعيد مهران في اللص والكلاب أو للأخوة حسن وحسين وحسنين في الرواية التي نسيت اسمها من دونهم، من أين كان لهؤلاء جميعاً ولغيرهم أن يحضروا في ثقافتنا، وفي حياتنا أيضاً، لولا الرواية، رواية نجيب محفوظ.
طبعاً لا أتكلم هنا عن الجبلاوي وصحبه في أولاد حارتنا، أولئك الذين قد يبدون أسماء لأفكار لا أسماء لبشر، بل أحسب أنني في قراءتي هذه لنجيب محفوظ قد توقّفت قبل انعطافة محفوظ، تلك التي لمسنا انها انعطافة في إبانها حين قرأنا "الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار". وكانت انعطافة أخذتنا بيدنا، الى خطوة من الحداثة الكتابية كانت معقولة وغير مغالية، لكنها أغرتنا بالذهاب الى أبعد من حيث حطت رحالها. أقصد الى ذلك البعد الذي لن يُشاهَدَ الروائيون فيه هناك في مقاهي الحارات ولن يردد أسماءهم باعةُ الصحف الجوالون.
* ألقيت هذه الكلمة في ندوة عقدتها "مدرسة طليطلة للمترجمين" بإسبانيا، في الايام ما بين 29 و31 تشرين الاول أكتوبر 1998. حملت الندوة عنوان "ترجمة الأدب العربيالمعاصر في أوروبا: عشر سنوات على نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل"، وشارك فيها كتّاب ونقاد من دول عربية وأجنبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.