بعد عودة رجالات الاستقلال من قلعة راشيا عينت حكومة باريس الجنرال بينيه خلفاً للسيد جان هيللو مفوضاً على سورية ولبنان. وبدأ المفوض الجديد عهده بسياسة صارمة ومضايقات شديدة لكل تصرف تقوم به حكومة الاستقلال انتقاماً لشقها عصا الطاعة وتعديلها الدستور الذي انهى وصاية الانتداب. وقد فرضت في عهد المفوض الجديد رقابة شديدة على الصحف والبرقيات المرسلة الى الخارج بقصد التعتيم على ما يجري في الداخل. ولما كنت مراسلاً لجريدة "المصري" القاهرية، فقد تأثرت مهمتي بهذا الاجراء. وذات يوم قام المفوض السامي بتصرف لا يحتمل تسبب في نقمة جديدة عليه في الاوساط الوطنية، وحرت في امري كيف استطيع كشف سياسة هذا الرجل وتعسفه في التعامل مع الحكومة الشرعية، وكيف استطيع ان "امرر" بعض الجمل من دون رقابة. وحضرت في ذهني فكرة نفذتها فوراً، وكتبت نص برقية بذلت جهداً كبيراً في تدبيجها كي تمر على الرقيب من جهة، وكي استطيع الزيادة في الكلمات بعد المراقبة وذلك بترك فراغ بين السطر والآخر بحيث اتمكن من اضافة ما لا يمر على قلم الرقيب وينسجم مع مضمون البرقية، فوقعها الرقيب ووضع الخاتم الرسمي. وكان الرقيب يومئذ ادمون وهبي الملحق الصحافي لدى المفوضية. وعدت ادراجي الى مكتب البرق والبريد بعدما اضفت بين السطر والسطر ما يجب ان يعرف عن السياسة القمعية للجنرال، وقدمت البرقية للارسال بعد الزيادة ومضيت، فنشرت في جريدة "المصري" لمكتبها في بيروت. كيف مرت هذه البرقية برغم المراقبة؟ قامت قيامة المفوضية العليا واستدعيت للتحقيق فقلت: "لقد عرضتها على المراقبة بحسب الأصول واليكم نسخة عنها مع الخاتم والتوقيع. اما اذا كانت "المصري" اضافت من عندها ما علمت به من مصادر اخرى فأي ذنب هو دنبي؟" وكان في نية المسؤولين توقيفي لولا موقف ادمون وهبي الذي دافع عني بحرارة. بعد هذا الحادث صدر قرار بوجوب احصاء عدد الكلمات في كل برقية ترسل الى الخارج مع توقيع المراقبة... فتوقف اسلوب ما بين السطر والسطر. انا ونعيم مغبغب والعلم في اوائل عام 1944 توفي نائب من آل جعجع في الشمال وتقرر اجراء انتخابات فرعية لملء المقعد الشاغر، فترشح شقيق النائب المتوفى حسيب جعجع والزعيم الشمالي يوسف كرم القريب من الانتداب، ففاز الاخير في المعركة ورأى ان يحضر جلسة البرلمان في 27 نيسان ابريل محاطاً بفريق كبير من انصاره في الشمال. وبوصول النائب، ومن معه، الى مشارف العاصمة اخذ المؤيدون من انصار الانتداب والمتضررون من الاستقلال وأنصار الكتلة الوطنية، ينضمون الى الزاحفين من الشمال بحيث قدرت التظاهرة بعشرات الألوف، اندس بينهم عملاء ومأجورون. واخترقت التظاهرة شوارع العاصمة في اتجاه البرلمان، وكانت مناسبة لعرض العضلات واثبات الوجود والتحدي. وعلى وقع الهتاف "فرنسا ام الدنيا عموم اعتزوا يا لبنانيي"، جرت محاولة لاقتحام البرلمان والدخول الى باحاته، لكن شرطة المجلس والدرك الذي كان قرب البرلمان والمسلحين في الداخل، صدوا الهجوم. واندفع شاب من بين المتظاهرين، محمولاً على الاكتاف، وتمكن من نزع العلم المرفوع على سارية المجلس واستبداله بالعلم الفرنسي. وألقى العلم اللبناني ارضاً وسط تصفيق الجماهير المحتشدة في الخارج. وقد استفزّنا ذلك التصرف فأسرعت من داخل المجلس و"امتطيت" كتفي شرطي امامي وأخذت عصاه وحطمت بها الزجاج من الداخل وانزلت العلم الفرنسي ودفعت به الى الأرض بمساندة "ابو فيصل" سعد الدين شاتيلا ونعيم مغبغب الذي كان الى جانبي وبعض الذين التفوا حولنا، وأعدت العلم اللبناني الى مكانه فوق باب المجلس. وما ان رأى احد جنود الانتداب العلم الفرنسي يهوي الى الأرض حتى اخذته الحمية فرفع العلم الفرنسي وصعد لاعادته الى مكانه على سارية المجلس، فعالجه نعيم مغبغب، قبل ان ينجح في مهمته، برصاصة فهوى ارضاً فيما القى احد اذناب الانتداب قنبلة في اتجاهنا حطمت باب المدخل. وهويت انا ارضاً وأصبت برضوض خفيفة، ثم اسرعت الى نقل نعيم مغبغب الذي اصيب بجرح بالغ في وجهه، الى مستشفى الدكتور محمد خالد لاسعافه وتضميد جروحه. وبعدما عولج رفض البقاء في المستشفى، وأصرّ على الرجوع معي الى البرلمان. فعدنا معاً لمتابعة الجلسة التي تبارى فيها النواب في الكلام ضد الانتداب واستنكار ما حصل. ولما دخلنا الى المجلس اصرّ نعيم مغبغب على ان ينزل الى القاعة ليرى النواب ماذا فعلت الجماهير في الخارج. وعندما جرح نعيم وسال دمه استعان على وقف النزف بمنديله الذي تلطخ بالدم ورماه راضاً. وقد رفعت تقارير الى المفوضية العليا ان نعيم مغبغب رمى العلم الفرنسي ارضاً واننا دسناه بأرجلنا، ولما كنت انا الى جانبه فقد ادعت النيابة العامة العسكرية علينا نحن الاثنين بجرم اهانة العلم الفرنسي، كما ادعت على نعيم مغبغب باطلاق النار على احد الجنود الفرنسيين وأصابته بجرح بالغ. وقد صدر الحكم بتبرئتنا من اهانة العلم الفرنسي، لعدم وجود شهود، وبسجن نعيم مغبغب سنة بتهمة اطلاق النار على احد الجنود، قضاها في سجن القلعة. مشروع فتنة بعد انتهاء الجلسة خرج رياض الصلح من البرلمان محاطاً بالدرك والشرطة. وعند وصول الموكب الى ساحة السرايا في ساحة البرج المكتظة بالمؤيدين للحكومة، وظهور سيارة رياض الصلح، انهمر عليها الرصاص. ورأت الجماهير شخصاً في زي رجل دين مسيحي يطلق الرصاص فانقضت عليه لسحقه. ومن حسن الحظ ان الشرطة المرافقة لرئيس الوزراء منعت الجماهير من الاجهاز عليه، وبالتحقيق معه تبين انه رجل مسلم يرتدي ثوب كاهن مسيحي اي ان الثوب واللحية والشاربين جميعها كانت مستعارة لاشعال نار فتنة في ذلك الجو الصاخب، والاستقلال طري العود وفي اولى خطواته. ومن حسن الحظ ايضاً ان رياض لم يصب بأذى وترجل من سيارته التي اصيبت برصاصات عدة ودخل السرايا كأن شيئاً لم يحدث في الخارج، في حين غصت السرايا برجالات البلاد والسلك الديبلوماسي لتهنئة الرئيس بنجاته. وفي تلك الساعة حدث امر لا بد من تسجيله للدلالة على متانة اعصاب رياض الصلح وبخاصة في المواقف الحرجة جداً. فقد وصل مارون عرب، المستشار في السفارة البريطانية، للتهنئة، وبسط يده للسلام على رياض بك مستفظعاً ما حصل، وقبل ان يرد رياض بك السلام بادره بنبرة لا تخلو من العتاب: "هيك بيعمل صاحبك؟" فاضطرب مارون عرب وكادت الأرض تميد به، وأجاب بصوت مرتجف مستفهماً: "مين صاحبي؟" فكان جواب رياض بك: "الياس زكا". فصعق مارون عرب وهو يتلقى هذه الصدمة غير المنتظرة بعد كل ما حدث من هجوم على السرايا واطلاق الرصاص، وكان مقدراً لهذا الحادث ان ينتهي بكارثة لولا لطف الله. فنكس مارون عرب رأسه ورفع يديه مستسلماً: "يللي بيغلب فرنسا، انا بقدر عليه؟". اما قصة الياس زكا فلا بأس من سردها: كان بين رياض بك وبعض اصدقائه من الظرفاء وعلى رأسهم مارون عرب، رهان يستهدف الذكاء في كل من يطرح السؤال على الآخر ليستدرجه به الى لفظة "مين؟" فيكون الجواب: "الياس زكا" وإذا لم ينطق بهذا الاسم وقال "مين؟" يخسر الرهان. بعد هذا الاتفاق ربح رياض بك الرهان على جميع اصدقائه ولم يقع مرة واحدة، ولكن استعصى عليه مارون عرب الذي صمد ثلاث سنوات الى ان وقع في هذا الفخ، وخسر الرهان... فبمثل هذه الاعصاب وبمثل هذه الروح استطاع رياض بك ان يكسب الناس وينتصر على اعدائه وان يربح المعارك، كل المعارك. ان الكلام على رياض الصلح، وعلى الدور الذي اضطلع به في معارك الاستقلال، غني بالمواقف الذكية الشجاعة. فذلك الرجل الذي حسم المعركة مع الانتداب، وكان بدأها في فجر شبابه وسط الصعاب والمخاطر، في المنافي والمعتقلات الى ان حقق حلمه في ان يرى بلده سيداً حراً مستقلاً وهو القائل: "لن أدع هذا الاستقلال يفلت من يدي، ولن يكون لبنان بعد الآن مقراً ولا ممراً لأي دولة اجنبية". لماذا رفضت النيابة في 1947؟ في الدورة الانتخابية عام 1947، رأى رياض الصلح ان اقدم ترشيحي لمقعد نيابي في الجنوب على اللائحة الائتلافية التي شكلها مع احمد الأسعد. كان رياض رئيساً للحكومة في ذلك الوقت ويسعى لانجاح ما امكن من حزب "النداء القومي" ومن القريبين منه، فطلب من الصديق ميشال تادروس ان يدعو الى عشاء في منزله حضره السادة تقي الدين الصلح ونصري معلوف ومحمد شقير وحنا غصن وسعيد فريحة وزهير عسيران. ودار الحديث في المساء على الانتخابات واللوائح في المحافظات، وقد اقترب موعدها. فقال رياض: "لائحتنا المؤلفة من اربعة عشر مرشحاً تكتمل الآن اذا شاء زهير عسيران ان يكون العضو الرابع عشر". فاجأني رياض بك وهو ينتظر موافقتي فسألته: "في حال موافقتي، ما هو مصير عادل عسيران؟" فأجاب: "عادل ليس من اعضاء اللائحة، وأعتقد ان لا حظ له في النجاح سواء في لائحة منافسة او خاض المعركة منفرداً، في حين انك أنت شبه مضمون في لائحتنا". قلت: "وكيف تريدني ان أترشح ضد ابن عمي عادل عسيران يا رياض بك؟ وهل يعقل ان اقبل، مع شكري وتقديري لهذا اللفتة الكريمة نحوي؟". ساد الصمت لحظات، وعاد رياض الى الكلام فقال: "اقدر لك هذا الموقف. عادل رفيقي وصديقي، ووجوده في البرلمان ضرورة وطنية، ولكن ما حيلتي وظروف المعركة تقضي بعدم اشتراكه معنا. ومرة ثانية أقول: الفرصة متاحة لك الآن ونجاحك مضمون معنا، فخذ وقتك حتى غد وأنا في انتظار الجواب". وسأل الحاضرين فردا فرداً رأيهم في الموضوع فأجاب الجميع بالموافقة، اما جوابي فكان رفض الترشيح. ووسط الدهشة اندفعت نحوي سيدة المنزل حرم ميشال تادروس السيدة جانيت مجدلاني وقبلتني قائلة: "هذا رائع يا زهير. انت فعلاً ابن أصل". انتهى الاجتماع ونهض رياض ورافقني خطوات وقال: "بارك الله فيك يا زهير، مع ذلك فأنا لا استطيع الا ان اعرض عليك ما عرضته وأنت اعلم بظروفك". وجرت الانتخابات وفازت اللائحة الائتلافية بكامل اعضائها واخترقها عادل عسيران وحده من اللائحة المنافسة. سلاح البترول قبيل التصويت على قرار تقسيم فلسطين عام 1948، كانت الجامعة العربية منعقدة في القاهرة وكنت آنئذ أتابع جلساتها ومعي الأخ محمد شقير، اقبل علينا الموظف المختص بشؤون الهاتف في فندق "شبرد" وقال: "نيويورك على الخط تطلب رياض الصلح". فنهض رياض وأومأ الى محمد شقير بأن يتبعه وقال: "بالتأكيد هو كميل شمعون". ودخلا غرفة الهاتف وأقفلا الباب فكان المتكلم كما حدسا كميل شمعون رئيس الوفد اللبناني. فقال لرياض: "الجو هنا يميل الى التقسيم وقد بذلنا كل جهد مستطاع ولم يبق، كما ارى، سوى سلاح واحد في يد العرب أنت تعرفه". وقد قال لي محمد شقير: "دخلت غرفة الهاتف مع رياض وكنت اسجل كلمات شمعون كما يرددها رياض عمداً، وهو يلتفت اليّ لأكتب ففعلت". وبعد انتهاء المخابرة شعرت ان مهمة تنتظرني فقال لي رياض: "عليك الآن بالشيخ يوسف ياسين رئيس الوفد السعودي فاذهب اليه وبلّغه ما سمعت من دون ان يشعر انني وراء هذا التكليف وفهمك كفاية". وتابع الاستاذ شقير: "فقصدت السفارة السعودية وقابلت الشيخ يوسف ياسين وقمت بالمهمة، فنهض وتوجه الى فندق "شبرد" مستطلعا". فسأله رياض: "كيف بلغتك هذه المعلومات؟" وتظاهر بالغضب وهو ينظر اليّ، كأنني استرقت السمع. ودخل في الحديث مع الشيخ ياسين حول تلفون كميل شمعون، وكان الموضوع سلاح البترول والحاجة اليه وامكان استعماله كسلاح لم يبق في يد العرب سواه. ورد الشيخ يوسف ياسين بالقول: "انا شخصياً موافق على الطلب لكنني لا استطيع القيام بهذه المهمة ولا اتمكن من طلب هذا من طويل العمر، والرأي عندي ان اضع في تصرفك طائرة خاصة تحملك الى المملكة وتتولى الأمر بنفسك مع الملك، ولك عنده منزلة خاصة". فرد رياض بالايجاب وانتقل الى الرياض حيث قابل الملك عبدالعزيز وعاد الى القاهرة فيما كان جلالته يبرق الى الرئيس الاميركي هاري ترومان طالباً تدخله. وتحركت شركات البترول ايضاً فاتصلت بالرئيس ترومان وضغطت عليه لثنيه عن موقفه في جلسة طرح قضية "فلسطين". فمن ثوابت الملك عبدالعزيز موقفه الصلب من القدسوفلسطين، وتشهد على تلك الثوابت رسائله المتبادلة مع الرئيسين الاميركيين تيودور روزفلت وهاري ترومان منذ عام 1938 الى عام 1946 حين رفض بالحاح هجرة اليهود الى فلسطين، وأوضح ان مخاطر الصهيونية تمتد الى الحجاز والخليج. بعد تلك الجهود حانت ساعة التصويت على قرار التقسيم، ومع العرب اكثرية صوت واحد من احدى دول اميركا اللاتينية لكن هذا الصوت لم يصمد حتى النهاية فمال الميزان بصوت واحد لمصلحة التقسيم بضغط اميركي - يهودي شديد على حكومة ذلك الصوت وكانت الفيليبين التي القى مندوبها خطاباً ضد التقسيم. فقد اتصل ترومان شخصياً برئيس جمهورية الفيليبين وطلب منه ان يوعز الى مندوبه في هيئة الأمم ليصوت مع التقسيم، فرفض المندوب وغادر البلاد في اليوم عينه كي لا يحرج امام زملائه، لكن المندوب الذي حل محله نفذ اوامر رئيس جمهوريته واقترع مرغماً مع التقسيم. وكانت الصدمة شديدة على سفيرنا كميل شمعون الذي اصيب بنوبة قلبية نقل على اثرها الى المستشفى. كيف أحارب ابناء عمنا اليهود؟ اذكر للتاريخ مقابلتي للملك عبدالله عام 1947 بطلب من رياض الصلح ليعرف موقفه بعدما رأى تردده عند التشاور في التحضير لمعركة عسكرية تخوضها الجيوش العربية. فذهبت الى عمان وطلبت موعداً لمقابلة الملك بصفتي مراسلاً لجريدة "المصري" وحدد موعد اللقاء في خيمة "بالشونة". وعندما دخلت على جلالته وجدت هناك ابراهيم حيدر "جبار البقاع" وكانت تربطه صداقة قوية مع الملك عبدالله والعائلة الهاشمية، وكذلك عبدالجليل الراوي الذي شغل مراكز مهمة في السلك الخارجي العراقي. فسررت بهذه المصادفة لمعرفتي الوثيقة بالرجلين. وبعدما رحب بي الملك، تكلم كل من ابراهيم حيدر وعبدالجليل الراوي امام الملك عن جهودي الصحافية وعن جريدة "المصري" كأنهما يريدان تشجيعه لاعطائي حديثا "دسماً" مما اتاح لي ان اطرح سؤالي الذي جئت من اجله. بادرت سؤالي بقولي يا جلالة الملك علمت من مصادر موثوقة ان الاتجاه لدى الدول العربية يرمي الى اتخاذ قرار بدخول الجيوش العربية الى فلسطين بعد جلاء البريطانيين عنها، وذلك لحماية الفلسطينيين ومنع اليهود من احتلال فلسطين، ولو ادى الامر للحرب ولا شك ان الاعتماد الكبير سيكون على الجيش الأردني لحسن تنظيمه ولأنه الاقرب الى فلسطين، فذهلت عندما انتفض جلالته وقال لي بالحرف الواحد: "هل تريدون مني ان احارب ابناء عمنا اليهود وأقف ضدهم الى جانب الذين اغتصبوا عرش آبائي وأجدادي؟". قلت ذهلت كما لاحظت الذهول على وجهي ابراهيم حيدر وعبدالجليل الراوي اللذين تدخلا لترطيب الحديث فما كان من جلالته الا ان قال لي: "يا بني سأفكر بالأمر وليس من السهل زج الجيش الأردني بمثل هذا الموقف الخطير..." ووقف جلالته وفهمت من ذلك انتهاء المقابلة. غادرت الاجتماع فتبعني عبدالجليل الراوي وسألني: "هل تنوي نشر مثل هذا الحديث الخطير؟". فقلت له: "يا اخ عبدالجليل انه اخطر حديث صحافي حصلت عليه حتى الآن ولو شئت ان انشره لقامت ضجة عالمية ولكن مصلحة بلادي ومصلحة الأمة العربية بنظري فوق كل انتصار او سبق صحافي"، فقال لي: "بارك الله فيك". عدت سريعاً الى بيروت ونقلت ما سمعته من الملك الى رياض الصلح، فاتصل فوراً بعبدالرحمن عزام في القاهرة وقال له من الضروري ان نلتقي في اقرب وقت في عمان لمقابلة الملك عبدالله. وبعد يومين كان عبدالرحمن عزام في عمان ورياض الصلح الذي اصطحبني معه، وجرى اللقاء في بيت البلبيسي باشا وكان صديقاً للملك عبدالله. ودام الاجتماع الثلاثي بين الملك عبدالله ورياض الصلح وعبدالرحمن عزام حتى الثالثة صباحاً لاقناعه بضرورة دخول الجيش الأردني، واستعملا معه جميع طرق الاقناع ومنها انه "اذا استقلت فلسطين فقد توحّد مع الأردن وتصبح ملكاً عليها" الى آخر ما هنالك من المحاولات، وأخيراً استجاب الملك وقال: "اقبل على شرط ان اكون قائداً للقوات العربية التي ستدخل الى فلسطين" فوافقوا على هذا الشرط مرغمين وعند خروج الرجلين من الاجتماع هرعت فوراً الى لقاء رياض الصلح الذي قال ما حرفيته: "لقد اقتنع والحمد لله وقرأ الفاتحة، اما متى يغير رأيه لا ادري". اجتماع للجامعة العربية في عمان بعد هذه المقابلة بعدة أيام رأت الحكومات العربية ان تعقد اجتماعاً تمهيدياً في عمان لعقد قمة عربية تقرر فيها الموقف النهائي، فاعترضت سورية على عقدها في عمان للفتور بينها وبين الأردن بسبب طموح الملك عبدالله يومذاك بعرش سورية الكبرى فقد لا يحضر الاجتماع شكري القوتلي. وظهر اقتراح باعتماد بلدة درعا في سورية القريبة من الحدود الأردنية، فقيل ان الملك عبدالله قد لا يوافق على ذلك. وأخيراً افتى اهل الرأي بالحل الوسط، وهو ان يعقد الاجتماع في نقطة الحدود بين البلدين، فحضر من العراق الامير عبدالاله مع وفد عسكري، ومن الأردن الملك عبدالله مع رئيس الوزراء، ومن سورية الرئيس القوتلي وجميل مردم وفريق من العسكريين، ومن مصر النقراشي باشا وأحمد خشبي باشا ومن الجامعة العربية عزام باشا ومن لبنان رياض الصلح وكنت كمراسل لجريدة "المصري" قريباً من الاجتماع، فعشنا لحظات قلق ويأس ورجاء بانتظار قرار المجتمعين. فصدر القرار بدخول الجيوش النظامية فلسطين في 15 ايار "مايو" لحسم الموقف في الوقت الذي تكون فيه بريطانيا قد بدأت الرحيل عن فلسطين. في هذا الوقت تقرر انشاء مكتب للاستعلامات في مدينة الزرقاء للتعاون مع مراسلي الصحافة الاجنبية الذين تدفقوا على الأردن لتغطية احداث ينذر بوقوعها وضع متدهور. وقد اجرى الاستاذ محمد شقير من مكتب فلسطين اتصالاً مع امين الجامعة العربية عزام باشا وتقي الدين الصلح في القاهرة فأشارا عليه بالانتقال الى عمان لمباشرة انشاء مكتب المعلومات فيها. فسافر فعلاً وقام بالاتصالات اللازمة وكان أول ما فكر فيه الاستعانة برجلين من ذوي الخبرة والاختصاص هما سيسيل حوراني في مانشستر انكلترا الذي اصبح في ما بعد مستشاراً للرئيس التونسي ابو رقيبة، وبرهان الدجاني ويجمعه به "الكتاب الاحمر" من أيام الدراسة في الجامعة الاميركية. فأبرق الى الرجلين وخلال 48 ساعة كانا في مدينة الزرقاء وباشروا العمل فوراً، وقام هذا الفريق بدور مهم في تزويد الصحافة والرأي العام العالمي كل ما حدث بأمانة وصدق وتجرد، وفي الوقت المحدد تحركت الجيوش العربية في اتجاه فلسطين في 15 ايار على وقع نشيد سهام رفقي "يا فلسطين جينا لك" وبدأ الزحف. الجيش السوري بقيادة حسني الزعيم احتل تل العزيزيات. الجيش العراقي على مشارف تل ابيب. المقاتلون اللبنانيون والجيش اللبناني في المواقع التي دخلوها في ارض فلسطين، والجيش الاردني احتل اللد والرملة. وفيما نحن في نشوة الفرح بهذا الانتصار السريع على العدو وردت برقية من الجبهة تقول: "لقد صدر امر بوقف القتال وبانسحاب الجيش الأردني من اللد والرملة" وتساءلنا جميعاً ماذا في الجو؟ لماذا يتوقف القتال وجيش العراق يتحرك لدخول تل أبيب والجيوش الاخرى تتقدم لتطويق اليهود؟ الجواب عند علام الغيب وعند "غلوب باشا" قائد الجيش الأردني... * يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار للنشر في بيروت الشهر المقبل